tag icon ع ع ع

عنب بلدي- صالح ملص

تمثل العمارة علاقة المدينة بأهلها خلال فترات زمنية متراكمة تمتد من ماضيهم إلى مستقبلهم، تعيد تشكيل حاضرهم، تعزز قيمهم الأخلاقية، تهبهم عالمًا مناسبًا لما يتطلعون إليه في حياتهم، يأمنون فيه من الظلم والخوف.

تزيد أهمية تلك العلاقة إذا كانت المدينة مثل دمشق، تلك الحاضرة التي تبعثر أهلها بين أنماط عمرانية من مختلف الحضارات التي نهضت وانهارت على أرضها، وما تزال المدينة حية.

في أدبيات التخطيط العمراني المعاصر، ثمة مساحة واسعة للاهتمام بمفهوم “الهوية العمرانية” للمدن، بعد فقدانها للشخصيات الوطنية التي ترمز لثقافة المجتمع، فلا يبقى إلا المكان بروحه وتفرده، خصوصًا تلك المدن التي تحتضن بحواريها وشوارعها تركة تراثية وثقافية وتاريخية، فتكون عمارتها فهرسًا، يشكل ذاكرة مكانية لما عاشته من أحداث وتطورات.

تعرضت دمشق لتشويه في هويتها العمرانية، يبدو متعمدًا في بعض مراحله، الأمر الذي كلف خسارتها جانبًا من قيمتها الثقافية والفنية الجمالية.

في تاريخ دمشق صنعت السياسة مشكلاتها المرتبطة بعمران المدينة لتحقيق أهداف السلطة، مع تزايد الضغط السكاني على أحيائها، دون اكثراث من المؤسسات الإدارية لمعالجة انفجار عمراني حدث في جميع الاتجاهات، مع تعامي المسؤولين عن حجم الكارثة.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف حال الهوية العمرانية لدمشق، مع مهندسين ومتخصصين يتمسكون بحقهم في طرح هذه القضية دائمًا، لمعرفة العوامل التي تنظم العمران كمنتج مادي، وقصور التشريعات في ضبط النمو العمراني للمدينة ضمن إطار بيئي ملائم.

فجوة بين الماضي والحاضر

تتشكل المدن كتعبير عن الظروف الروحية والمادية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التغيرات في هذه الظروف من مدينة إلى أخرى تجعل كل واحدة ظاهرة مميزة يصعب تكرارها، ولأن المدينة هي إنتاج إنساني، فهي في حالة تغير دائم بتغير احتياجات الناس وظروفهم المعيشية بمرور الوقت.

تخلق التغيرات التي تطرأ على مدينة ما “طبقة زمنية ممثلة بواقع مادي في الهيكل العمراني للمدينة، كل طبقة يُفترض أن تُبنى على أساس الطبقة التي سبقتها، تثريها وتضيف إليها ولا تلغيها وتهدمها أو تمحوها”، وفق تعبير المهندس المعماري “أحمد علي دمشقي” (اسم مستعار  تحفظت عنب بلدي عن ذكر اسمه الحقيقي لأسباب أمنية)، المقيم في دمشق خلال حديثه إلى عنب بلدي.

هذا التراكم الزمني يحوّل المدينة إلى مجموعة من الحلقات المتداخلة التي يصعب فصلها، دونها لا يمكن فهم المدينة والشعور بهويتها.

“هوية المدينة هي عملية مستمرة بكل لحظة، لا تتوقف إلا باندثارها، مما يجعل عامل الزمن واحدًا من أهم العوامل في تشكيل المدينة”، وفق ما أوضحه المهندس دمشقي.

المكان هو ذاكرة الناس، فـ”عندما تفقد المدينة القدرة على إظهار الماضي، تكون فقدت جزءًا مهمًا من هويتها”، بحسب المهندس.

الفرق بين الهوية والصورة والرمز

“المدينة هي واقع تراكمي في المكان والزمان”، يقتبس المهندس عبارة المؤرخ الأمريكي لويس ممفورد محاولًا اختصار مفهوم الهوية العمرانية للمدن، ويفرّق بينها وبين صورة المدينة ورمزها.

فصورة المدينة هي “عناصر متشابكة لتشكيل مشهدًا خاصًا بالمدينة، وبالتالي صورة المدينة شيء يختلف من إنسان لآخر، فهوية المدينة هي تعبير حقيقي عن ماهية وشخصية المدينة، والمضمون الثابت الذي لا يمكن أن يختلف من وجهة نظر لأخرى”، بحسب تعبير المهندس.

أما رمز المدينة، فهو “حقيقة مكوناتها وخصائصها، فمن المستحيل أن تنقل هوية مدينة عبر عنصر ما مثل الجامع الأموي فقط أو أي عنصر آخر، فهوية المدينة ليست صورة مرئية بل هي روح المدينة، ولها عناصر ملموسة وأخرى غير ملموسة”.

هوية منقطعة عن تاريخها

تمتلك المدن ذاكرة ثلاثية الأبعاد تغوص في ماضيها ومستقبلها، تعكس دومًا الواقع الحقيقي بفرادة لهيكلها العمراني ومحتواه، وهذا ما يجعل التسلسل الزمني للأحداث ملموسًا ومفهومًا، من خلال شكل المدينة العمراني والاجتماعي والفيزيائي.

لكن لا يرى المهندس المعماري “أحمد علي دمشقي” بأن مدينة دمشق مجسم ثلاثي الأبعاد، كونه لا يوجد تطور عمراني منضبط لها.

“لم يراعِ التوسع والتطور الذي حصل لدمشق الهوية التاريخية للشام القديمة، بل كان هناك انقطاع واختلاف كبير بين القديم والحديث، وهذا ما أحدث أضرارًا جسيمة ببنية المدينة الاجتماعية والروحية، مما انعكس سلبًا على البنية الفيزيائية لدمشق”، وفق ما قاله دمشقي.

وتقع مسؤولية التخطيط لإدارة المدينة القديمة والحفاظ على هويتها العمرانية وإعادة تأهيل عقاراتها بهدف استخدامها، على عاتق إدارتين حكوميتين، وهما “لجنة حماية دمشق القديمة” و”المديرية العامة للآثار والمتاحف”، فيما تتولى وزارة “الإدارة المحلية والبيئة” تقديم مشاريع تنمية المدينة القديمة بدعم من المنظمات الدولية.

“لؤلؤة الشرق”.. من البداية

كان لمدينة دمشق أهمية كبيرة منذ القدم، إذ أُطلق عليها اسم “لؤلؤة الشرق” لجمالها وخضرتها، تلك الأهمية حددتها المياه والجغرافيا، حيث كان الناس ينجذبون إلى الواحة الخضراء، ودعم سهل الغوطة معيشة السكان لآلاف السنين وجعلها مكتفية ذاتيًا، فنمت دمشق على هضبة بارتفاع 690 مترًا فوق سطح البحر جنوبي جبل قاسيون مطلة على نهر بردى.

تبعد دمشق حوالي 80 كيلو مترًا عن “البحر الأبيض المتوسط”، فهي بذلك مدينة داخلية مأهولة منذ 8000 إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد.

تطورت دمشق منذ آلاف السنين بشكل متتابع في مجال العمران، ولو كان هذا التطور قد أخذ رتمًا بطيئًا، وفق ما قاله المهندس محمد مظهر شربجي، الذي شغل سابقًا رئيس شعبة المهندسين بريف دمشق، في حديثه إلى عنب بلدي.

هذا التطور أعطى لدمشق “عظمة مهمة”، وفق تعبير شربجي، فصارت مركزًا تجاريًا نشطًا في الألفية الثالثة قبل الميلاد.

واستمر هذا التطور في العصر الآرامي والروماني، حتى صارت عاصمة الدولة الأموية بين عامي 661 إلى 750 ميلاديًا، حينها وصلت دمشق إلى ذروة مراحل تطورها الحضري.

حين اختار الأمويون دمشق عاصمة لهم، لم يغيروا تخطيطها ولم يتوسعوا إلى حد كبير خارج جدران المدينة القديمة، التي صُنفت فيما بعد كموقع تراث عالمي من قبل “يونسكو” عام 1979، كونها تضم أغلب المعالم التارخية للمدينة، والتي تعود إلى العصر “الهلنستي”، وهي فترة من التاريخ القديم كانت تزخر فيها الثقافة اليونانية بالكثير من مظاهر الحضارة.

بعد عصر الدولة الأموية، مر على دمشق “عصر الانحطاط في العهد العباسي حين بدأت الحروب والغزوات والاضطرابات السياسية، لم يطرأ أي تطور كبير على دمشق من الناحية العمرانية ضمن هذه الفترة (…)، وحين تأسست الدولة الأيوبية ومن ثم المماليك، عاد الاهتمام بالعمران وتشييد المباني، حتى الوصول إلى الإمبراطورية العثمانية التي بنت جزءًا كبيرًا من المدينة”، وفق ما ذكره شربجي.

دمشق الحديثة

بدأت المدينة الحديثة لدمشق مع المخططات التنظيمية العثمانية أواخر القرن التاسع عشر، حيث شُيدت مباني على الطراز الأوروبي على طول الشوارع الجديدة مباشرة إلى غربي وشمالي المدينة المسورة، حيث “الشكل العام لمدينة دمشق القديمة بيضاوي، وهي محاطة بسور يعود إلى العهد الروماني، ورُمم بعهد الأيوبيين”، وفق شربجي.

ووضعت خلال حكم الإمبراطورية العثمانية طرق جديدة للتنمية، وجرى تحديث المساحة العمرانية، مثل توسيع الشوارع وإزالة الأزقة ذات النهايات المغلقة، والبناء بالحجر بدلًا من الخشب.

وفي هذه الفترة، اُستخدم في البناء نمط “النسيج المتضام”، حيث ساعد اتجاه الحياة التي فرضتها الظروف البيئية والطبيعية والاجتماعية والاتجاه نحو الأمان والخصوصية، على تأكيد هذا المظهر التخطيطي للمدينة.

هذا النمط يتسم بتجاور وتلاصق كتل المباني المعمارية التي تمتاز بخصوصيتها العالية، لحماية السكان من الغرباء.

امتدت مدينة دمشق بعد عام 1860 نحو الغرب والشمال، وصارت ساحة المرجة الجديدة مركزًا للمدينة تحيط بها أبنية ومنشآت رسمية مثل، دائرة البلدية، والقصر العدلي، ومركز الشرطة، والسرايا الجديدة، ومركز البريد والتلغراف، وكذلك فنادق حديثة كفندق “فيكتوريا” الكبير، وبناء العابد، ومجموعة من المطاعم والمقاهي والملاهي والمحلات التجارية، وتنطلق من هذه الساحة حافلات “الترام الكهربائي” منذ تسييرها عام 1907 إلى مختلف المناطق في دمشق.

ولم يبقَ من هذه الأبنية سوى بناء السرايا (وزارة الداخلية)، وبناء العابد متروكًا دون أي عناية، ودائرة الشرطة.

كان التطور العمراني في الغالب إلى الجنوب على الضفة اليمنى من نهر بردى حتى القرن التاسع عشر، لكن منذ عام 1880 وحتى 1919، توسعت مساحة دمشق بنسبة 25% وتضاعف عدد سكانها، وأنشئت ثلاث محطات للقطارات، وأنيرت الشوارع، وبنيت مسارح ومقاهٍ.

وفي فترة نهاية الإمبراطورية العثمانية كان حوالي 90% من التوسع العمراني للمدينة على الضفة اليسرى من نهر بردى، في مناطق مثل عرنوس، والجسر الأبيض، كما استمر التوسع بالانتشار شمالًا نحو القصاع.

تدخل القرن العشرين بضعف الحجم

في أوائل القرن العشرين توسعت المدينة حوالي ضعف قياسها في القرن التاسع عشر، وفق المهندس شربجي، كما أن العديد من الشوارع والأسواق أُنشئت في مناطق سكنية منها سوق “الحميدية”، وسوق “مدحت باشا”.

نشرت مجلة “Twenty Two Group” السورية غير الحكومية والمتخصصة في مجال العمارة، عددًا خاصًا بها (200 صفحة) عام 2020، ناقشت فيه موضوع الهوية المعمارية والعمرانية لمدينة دمشق.

وقال المهندسون الذين أعدوا تقرير المجلة فيما يخص طابع المدينة العام، إن التطورات اللاحقة في العمران لمدينة دمشق اتبعت المخططات التنظيمية الموضوعة من قبل الانتداب الفرنسي الذي استمر بين عامي 1920 و1946.

شملت هذه التطورات العمرانية تنقيحات في عناصر أساسية من شوارع عريضة، تشع من الساحات المنتشرة حول المدينة القديمة.

بينما توسعت مخالفات البناء الجماعية في “المناطق غير الرسمية”، حسب توصيف تقرير المجلة، في منطقة المهاجرين والحي الكردي في منحدرات جبل قاسيون.

ودُمجت القرى الزراعية القديمة القريبة، مثل منطقة المزة، وبرزة، وكفر سوسة، والقابون، والقدم بالمدينة، و”رغم إحداث مساحات خضراء وحدائق في الأحياء الفارهة التي نشأت في الشمال والشمال الغربي والجنوب الشرقي من المدينة، فُقدت أكثر من نصف المساحة الخضراء للمدينة منذ عام 1945″، وفق تقرير المجلة.

واحة خضراء جففها الأسمنت

استمر التطور العمراني بوضع الانتداب الفرنسي أولى المخططات الرئيسية لمدينتي دمشق وحلب، وغيرها من المدن السورية.

“تعاقدت بلدية دمشق عام 1936 مع معماريين وعمرانيين سوريين عملوا على تنظيم المدينة، فبدأت تنشق الشوارع الواسعة”، وفق ما قاله المهندس مظهر شربجي، “لكن بقي الطابع العام للمدينة هو أبنية ذات ارتفاع طابقي محدود، أي بين ثلاث إلى أربع طوابق”.

وُضع أول مخطط تنظيمي لدمشق من قبل المعماريين الفرنسيين ميشيل إيكوشار ورينيه دانجيه، وقد اعتمد تخطيط المدن الذي كان سائدًا في تلك الفترة شبكة طرق رئيسية تصل بين الساحات ذات الأشكال الهندسية، وشبكة طرق فرعية، و”كانت هذه الفترة هي فترة عمرانية انتقالية عاشتها دمشق”، وفق شربجي.

في فترة الانتداب الفرنسي تباعدت المباني عن بعضها، وانفتحت البيوت على الشارع الذي شكّل هيكل المدينة الحديثة وخارطتها، وتخلت المباني عن كتلتها المتراصة وخصوصيتها التي تميزت بها في العصور الإسلامية.

وفق تقرير مجلة “Twenty Tow”، فخلال هذه الفترة بدأت أول التوسعات العمرانية غير الحاصلة على تصريح رسمي، ففي عام 1919، بُنيت 36% من المنازل في دمشق دون تصريح، وهو شرط قديم في قانون الأراضي العثماني الصادر عام 1858، الذي صدر بعد ديوان “الحسبة” المختص بإدارة أمور مدينة دمشق.

وبين عامي 1929 و1930 نمت المدينة بنسبة 25% بما يعادل نموها خلال الـ 50 عامًا التي سبقتها، تزامنت هذه المشكلات العمرانية مع تزايد نزعة القومية العربية والثورات التي ظهرت ضد الانتداب، وبعد عدة مظاهرات كبيرة عام 1925، “أصبح الشكل والتخطيط العمراني أدوات للسلطة، أصبحت المسألة العمرانية مسألة أساسية باعتبار المدينة مسرحًا للتظاهرات الوطنية”.

كان السوق في ساروجة مقرًا لحركة المقاومة، فـ”هُدم من أجل تدمير النسيج المناضل الاجتماعي، وبُنيت شوارع جديدة في مكان السوق السابق لتحويل المنطقة إلى ما يعرف بـ(مركز الإدارة الاقتصادية)، وبالتالي يمكن السيطرة على المدينة الجديدة القريبة من مؤسسات الانتداب الفرنسي”، وفق تقرير المجلة.

في عام 1946، أخذت سوريا استقلالها من الانتداب، وأُدخلت تعديلات على نظام البناء، “فظهرت مناطق تنظيمية وشوارع مثل شارع (أبو رمانة) وشارع (بغداد)، والقصور، والعدوي”، وفق شربجي.

مع انتشار العمران وإحداث عدة مناطق تنظيمية ودراستها بشكل منفصل، برزت الحاجة إلى مخطط تنظيمي جديد للمدينة، فصدر المرسوم التشريعي رقم “19” لعام 1950 القاضي بتنظيم مهنة الهندسة في سوريا، وكانت المحاولة الأولى لتطوير التنظيم العمراني عام 1957، مع شركة نمساوية، وكانت المحاولة الثانية عام 1968 مع المهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار، إذ أُنجز المخطط التنظيمي الثاني للمدينة، حسبما أوضحه شربجي.

ظروف سياسية وعشوائيات منفلتة

في الستينيات حتى أواخر الثمانينيات عاشت دمشق هجرة سكانية كبيرة إليها، بالإضافة إلى أحداث سياسية أدت إلى لجوء فلسطينيين وأهالي الجولان إلى دمشق، فظهرت فكرة إنشاء الضواحي البعيدة نسبيًا عن المدينة، مثل دمر، وقدسيا، وبرزة، وبسبب التزايد السكاني زاد عدد المخالفات الجماعية في مختلف أرجاء المدينة، خصوصًا على سفح جبل قاسيون، وجنوبي حي الميدان، والطبالة، والحجر الأسود، ومخيم “اليرموك”، ومخيم “جرمانا”.

وفي عام 1968، ظهر مفهوم “الوجائب العمراني” في دمشق، وهي مساحة يجب الالتزام بها في موقع البناء إلى الآن، لكن توسع المدينة غير المدروس قلل المناطق الخضراء، كذلك ظهرت أعمال تجارة البناء، وفق شربجي، مما أسهم بإنشاء مناطق سكنية دون خدمات ومرافق عامة، فتوسع العمران باتجاه منطقتين اثنتين واسعتين في الغوطة، أي باتجاه برزة وشرقها، وباتجاه المزة وجنوبها الغربي.

ونتيجة تزايد الحاجة للسكن، كانت الناس تجتهد لتمتلك أكبر قدر من المساحة للبناء، بغض النظر حدود المساحة المسموح فيها، فلم يكن يعطى اهتمامًا بالأبعاد الهندسية المناسبة للوجائب، بحسب شربجي، وبالتالي لم تخضع لـ”الجودة الممتازة من حيث الارتفاع الطابقي والإنارة الواسعة”، فكان هناك تنوع بأشكال البناء، “أبنية وجائبها ضعيفة، وأبنية وجائبها ضيقة وأخرى كبيرة”.

وظهرت خلال هذه الفترة الأبنية الطابقية العليا ذات البنى التحتية التي لا تتحقق فيها السلامة الكاملة، وفي هذه الأبنية نشأت المخالفات داخل الأبنية المرخصة نفسها نتيجة الفساد أو تدخل بعض الجهات الإدارية، مثل منطقة السيدة زينب جنوبي دمشق، ومنطقة “مزة 86″، ومنطقة عش الورور، “هذه المناطق تسيء للعين وللبيئة وللهوية العمرانية، ولا أحد مسؤول عنها، لا مهندسين ولا نقابة، إنما تجار المخالفات الذين تربطهم ولاءات مع السلطة”، وفق المهندس شربجي.

ضياع في الهوية

التشريعات العمرانية أدوات أساسية تؤثر في تحقيق الأهداف التنموية للمخططات التنظيمية واستمراريتها لما تفرضه من ضوابط ومعايير، تنظم مورد العمران كمنتج مادي، ترقى بجماله، وتحدد مستوى تحضر المجتمع العمراني، وحين يعاني هذا المجتمع من مشكلات متعددة، تنذر هذه الإشكاليات بقصور التشريعات في ضبط النمو العمراني، وتلبية متطلبات السكان.

في فترة الثمانينيات، بدأت مؤسسة الإسكان بوضع مشاريع التطوير العمراني من خلال تكليف شركات هندسية حكومية بذلك، “دخل هذا المجال ضمن اختصاص مؤسسات الدولة فقط، وكانت تأخذ وقتًا طويلًا مع وجود الفوضى وتدخّل أيادي إدارية غير فنية بوضع المخططات، وهو ما يخالف الأسس العمرانية، والتي تنص على إصدار المخططات من أيادي فنية بإشراف أيادي إدارية”، وفق ما قاله المهندس شربجي.

أدى احتكار “الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية” لدراسة المخططات التنظيمية إلى التأخير في وضع تلك المخططات لتوسع مدينة دمشق، مما أوجد فجوة بين الحاجة للمساكن تحت الضغط السكاني، ومدى القدرة على توسيع المخططات لاستيعاب تلك الحاجة.

ضاع مفهوم الهوية العمرانية مع مرور الوقت، ضمن أنماط عمرانية عشوائية تفتقر إلى الملامح الجمالية في المدينة، وفق شربجي، فمثلًا عانت دمشق القديمة من أبنية مرتفعة كـ”برج دمشق” بـ29 طابقًا، ومجمع “يلبغا”.

كما ظهرت الأبنية السكنية ذات الـ14 طابقًا، وهي كتل أسمنتية ضخمة على أفق المدينة، تسبب “تشوهًا كبيرًا” في مخطط الارتفاعات.

وفي محيط المخطط التنظيمي لدمشق هناك حرم يسمى “الحرم الأخضر” يتضمن غوطتي دمشق، الشرقية والغربية، يُمنع البناء عليها نهائيًا بموجب مخطط إيكوشار، هذه المنطقة صارت “بؤرة من التلوث” لوجود المنشآت الصناعية والمعامل وانسياب المجارير والملوثات الكيماوية منها، ما يسبب “تلوثًا بيئيًا خطيرًا” على مدينة دمشق، بحسب شربجي، بالإضافة إلى التلوث السمعي بسبب الازدحام وحركة المرور غير المدروسة.

استطلاع رأي

أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر منصاتها في مواقع التواصل الاجتماعي عن ما إذا كانت المخططات التنظيمية لدمشق بموجب المرسوم رقم “66” لعام 2012 تعتبر تسوية عادلة لمشكلة العشوائيات في المدينة.

شارك في الاستطلاع 322 مستخدمًا، 142 من المصوتين يرون بأن هذه المخططات لا تفيد احتياجات المدينة العمرانية لحل مشكلة العشوائيات.

بينما 180 من المصوتين يعتقدون أن مناطق مثل “ماروتا سيتي” و”باسيليا سيتي” باستطاعتها حل الإشكاليات العمرانية من السكن العشوائي.

مسلوبي الذاكرة العمرانية

تعاني مدينة دمشق من حالة اضطراب في هويتها العمرانية، بفعل عدة عوامل أبرزها غياب الحلول وردود الفعل السريعة والمدروسة في مواجهة التغيرات الطارئة.

تمادت هذه التغيرات في صورة مناطق المخالفات الجماعية، بموجب تسمية القانون المدني السوري رقم “84” لعام 1949 بمادته رقم “780”، التي أطلقتها على تجمعات السكن العشوائي في الأماكن غير المُعدة للبناء، ما يعني خروجًا على القانون وتعديًا على أملاك الدولة والأراضي الزراعية.

هناك عدة بلدان حول العالم تعاني من ظاهرة السكن العشوائي، جراء الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والزيادة السكانية والانزياحات السكانية من الريف إلى المدينة، مع تدني مستوى الخدمات والتعليم والصحة التي تعيشه الأرياف.

وأسهمت القرارات التنظيمية التي أصدرتها الحكومات السورية المتعاقبة، في تفاقم مشكلة السكن العشوائي بدلًا من معالجتها، بالإضافة إلى الفساد الإداري والمالي الذي غض النظر وسهّل إنشاء العشوائيات السكنية من قبل تجار المخالفات.

إذ لم يرافق الزيادة السكانية في دمشق توسع منضبط للتخطيط والتنظيم العمراني، فاضطر عدد كبير من الأفراد إلى البحث عن سكن يناسب قدرتهم الشرائية، فلجؤوا إلى شراء المنازل في مناطق السكن العشوائي، لما وجدوه من انخفاض قيمتها مقارنة بمناطق السكن المنظم، رغم ما تحيط بمناطق المخالفات من عيوب أهمها ضعف السلامة الإنشائية، وغياب التنظيم واكتظاظ مبانيها، وتدني مستوى الخدمات.

مشكلة محدودية التشريعات العمرانية التي تضبط توسع العمران ليست محصورة بمدية دمشق لوحدها، وإنما تتعداها إلى البنية القانونية لسوريا ككل، والتي لم تتمكن من إيجاد حلول لمشكلة بناء التوسع العمراني العشوائي، وفق ما قاله الباحث القانوني والمختص في حقوق التخطيط العمراني والبيئة فراس حاج يحيى، المقيم في فرنسا، خلال حديثه إلى عنب بلدي.

في عام 2018، قال وزير الإسكان السوري، حسين عرنوس، إن نسبة مناطق السكن العشوائي تشكل 50% من المناطق السكنية في سوريا، وكان ذلك في معرض رده على القول بإن نسبة مناطق المخالفات في سوريا تتحاوز 60%.

التشريعات العمرانية في سوريا زادت من جمود التطور العمراني، وفق ما يراه الباحث القانوني حاج يحيى، فلم تتماشى مع التغيرات المتسارعة، كما أن تداخل الإجراءات القانونية المرتبطة بالتعمير مع نصوص متشعبة ومتناثرة، ترتبط بقوانين البيئة ومجالات عدة، وغياب تشريع عمراني موحد وشامل ومتكامل ومتسلسل حسب مستويات التنمية، أدى إلى ضعف النصوص القانونية المتعلقة بالتعمير.

كما أن كثرة التعديلات الجزئية على عدة قوانين ترتبط بالعمران، أدت إلى تعقيدات في القوانين، وبطء في تنفيذ الأحكام، في ظل غياب البرامج الزمنية للتنفيذ، وعدم وضوح الجهات المعنية بتنفيذ الأحكام، وفق الباحث القانوني.

وبحسب برامج الأمم المتحدة في إدارة وتطوير البيئة الحضرية، فإن التشريعات العمرانية هي مجموعة من الإجراءات التقنية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، التي يجب أن تعمل على تحقيق نمو منسجم مع متطلبات المكان والإنسان للكتل العمرانية، وهي الأدوات الأساسية المؤثرة في مستوى تحضر المدن.

يوجد إشكالية كبيرة في عدة قوانين عمرانية سورية، من ضمنها قانون رقم “9” لعام 1974، وهو قانون تقسيم وتنظيم وعمران المدن، الذي يمنح الجهة الإدارية الحق باقتطاع ثلث مساحة المنطقة الخاضعة للتنظيم للمصلحة العامة، وفي بعض الأوقات يصل هذا الاقتطاع إلى النصف، مجانًا ودون أي تعويض، إذا كان المخطط العام والمخطط التفصيلي يقتضيان ذلك.

ومع بطء تنفيذ الأحكام وتزايد عدد السكان، أُجبر طالبو السكن على البحث عن بدائل، وكانت متمثلة بصورة السكن العشوائي، وفق ما أوضحه الباحث القانوني.

وأطلقت حكومة النظام السوري مجموعة من القوانين العمرانية، وأوكلت للمحافظات ضمان الحفاظ على المخطط العمراني، تعتبر بعيدة عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية، أبرزها المرسوم التشريعي رقم “66” لعام 2012، والمرسوم التشريعي رقم “40” لعام 2012، والقانون رقم “3” لعام 2018، والقانون رقم “10” لعام 2018، والمرسوم رقم “63” لعام 2012، والقانون رقم “23” لعام 2015، والمرسوم التشريعي رقم “12” لعام 2016.

كما تتحمل عدة جهات إدارية وقضائية مسؤولية التعامل مع مشكلة انتشار السكن العشوائي، أهمها “المديرية العامة للمصالح العقارية”، والبلديات التابعة لوزارة الإدارة المحلية، والمؤسسات الحكومية المعنية بالتطوير العقاري، والقضاء، والدوائر التابعة لوزارة العدل.

بحسب المهندس المعماري “أحمد علي دمشقي” فإن أسباب ضياع العمران في دمشق يعود إلى:

1- التغيرات الحاصلة على المدينة القديمة: من الناحية الاجتماعية والسكانية والاقتصادية، منازل قديمة بحاجة لصيانة دائمة بتكلفة باهظة وعدم الاهتمام بالإرث التاريخي لها.

2- التغيير الديمغرافي: زيادة سكانية غيرت بنية المدينة الفيزيائية.

3- التغيير البيئي: يتمثل بتلوث الهواء بسبب استعمال الإسمنت ومواد البناء دون مراقبة، والضجيج الصوتي بسبب الازدحام.

تعقيدات غير عادلة تنذر بعالم عمراني موازِ

ضمن متغيرات عدة عاشها العالم مع انتشار فيروس “كوفيد- 19” في الأجواء، تشير هذه المتغيرات إلى تأثيرات طويلة الأمد على التخطيط وعمارة المدن، لتكون هناك فرصة لإصلاح البيئة وأسلوب الحياة في فترة ما بعد “كورونا” بمرونة ومقاومة حضرية، ووجود يقين بقدرة مدينة ما على البقاء والازدهار في مواجهة الأوبئة.

إعادة التفكير في آلية تخطيط المدن واستغلال الأحياز المكانية والأراضي المتاحة هو مسؤولية لدى المهندسين، في الوقت الذي يتساءل فيه العالم بقلق كيف سيبني مدنه برؤية أكثر مرونة وعدالة، ويبتكر مفاهيم جديدة للفضاءات العامة والخاصة.

إلا أن سوريا بعيدة عن التفكير في تلك التحديات، غارقة في مشكلات تزيدها تعقيدات الواقع الذي تسببت به حكومة النظام السوري بعد 2011، من خلال سياسات “عززت طابعًا عمرانيًا تمييزيًا”، وفق ما تراه المهندسة المعمارية والمختصة بالتنمية العمرانية سوسن أبو زين الدين في حديثها إلى عنب بلدي.

شهدت دمشق الكثير من الأضرار والخسائر زادت حدة الصعوبات العمرانية، ما يدعو بالضرورة لإعداد منهجية عمل متكاملة لإعادة إعمار المناطق المتضررة.

لكن المخططات التنظيمية التي صدرت بعد 2011، تفتقد للعنصر الأساسي في عملية إعادة إعمار ناجحة، وهي الاستجابة الفورية للمتغيرات اليومية، واحتياجات الناس لإعداد نماذج عمرانية قابلة لاعتمادها في إعمار المناطق ما بعد الأزمات والنزاعات.

إعادة الإعمار تعني استعادة ما تضرر أو تدمر خلال فترة محددة، وفق مقارنة بين الشيء الأصلي وما هو معاد إعماره، لدعم المجتمع والاقتصاد بعد انتهاء النزاع.

لكن النماذج العمرانية التي اعتمدتها الحكومة في دمشق، مثل منطقتي “ماروتا سيتي” و”باسيليا سيتي” ظهرت ضمن الواقع السياسي للبلد وواقع النزاع والنزوح واللجوء، والتشريعات التي سُنت لم تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المشكلات، وفق المهندسة أبو زين الدين، بل “تعامت عن كل التعقيدات، لأنها كانت إلى حد كبير مسيسة ومسلطة كسلاح حرب بحد ذاتها للقضاء على مجتمعات كثيرة عاصية للنظام”.

أعمال معدات بناء ثقيلة في موقع "ماروتا سيتي" ضمن أكبر مشروع استثمار عقاري جنوبي دمشق دون ضوابط قانونية عادلة- 8 من تشرين الأول 2018 (AP)

أعمال معدات بناء ثقيلة في موقع “ماروتا سيتي” ضمن أكبر مشروع استثمار عقاري جنوبي دمشق دون ضوابط قانونية عادلة- 8 من تشرين الأول 2018 (AP)

عقاب استباقي

عام 2012، كان حي القابون بدمشق ضحية عمرانية بعد أن شهد حراكًا مناهضًا للحكومة، حيث هُدم فيه حوالي 18 هكتارًا ضمن جولتين، وفق تقرير لمنظمة “هيومن رايتش ووتش”، كانت الأولى على خلفية اشتباكات بين قوات النظام ومقاتلي المعارضة.

وبعد هجمة شنتها قوات النظام استعادت إثرها السيطرة على الحي، استمرت عملية الهدم الأولى 50 يومًا، هُدم فيها 1250 متجرًا و650 منزلًا كان تسكن كل واحد فيه عائلتان أو أكثر، أما الجولة الثانية فكانت عام 2013 دون توثيق تفاصيلها.

خلص التقرير إلى استحالة النظر في هذه العمليات على أنها هدف مشروع، حتى في سياق النزاع المسلح، فالبيوت التي هدمت بموجبها لم تكن أهدافًا عسكرية، لم تستخدم كمأوى للمقاتلين ولا للتخطيط للهجمات وشنها ولا حتى لتخزين الذخائر والأسلحة.

عمليات الهدم هذه لا يمكن أن تبرر، إلا بأسباب استباقية أو عقابية لشريحة سكانية ينظر إليها النظام على أنها عنصر مهدد لسلطته.

تتعقد مشكلة إعادة الإعمار لمناطق داخل دمشق حين يتم تبني مقاربات “نيوليبرالية” (سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص)، ضمن التخطيط العمراني تهدف إلى تفعيل سوق الإسكان كلاعب أساسي بقيادة التطور العمراني، وفق المهندسة أبو زين الدين، من خلال مشاريع استثمارية بحتة، وبالتالي تهميش المقاربات التي تركز على العدالة الاجتماعية، وتوفير حاجات فئات المجتمعات المدمرة مدنها من خلال تدخل القطاع العام، أو تنظيم القطاع الخاص بحيث لا يتم إغفال المناطق المدمرة والطبقات الأقل دخلًا.

ويدخل مشروعا “ماروتا سيتي” و”باسيليا ستي”، ضمن نماذج الاستثمار العقاري التي تركز عليها حكومة النظام قبل انتهاء النزاع، لكن هذه المشاريع تتجاهل أنظمة الملكية غير المسجلة في السجل العقاري، ومبنية على إبراز وثائق إثبات معينة، وبذلك فإن ملايين المالكين يخسرون حقوقهم في عملية إعمار عادلة ومستدامة وشاملة.

كل هذه الضغوطات جعلت الناس ينظرون إلى حال مناطقهم كاستثناء مما يتم التخطيط والتشريع له عمرانيًا، مما يؤدي إلى عدم قدرة الناس التي تمتلك مظلوميات عمرانية الالتزام بما يتطلبه المخطط التنظيمي من شروط مكلفة، وبالتالي سينشط قطاع الإسكان غير الرسمي والعشوائي بسبب مرونته وقدرته على الاستجابة لمتطلبات الناس حاليًا، ومن ثم ستبدأ هذه المجتمعات تقسيم أراضيها بما يتناسب ووجهة نظرها وكيف ستراه مناسبًا لها، مما سيخلق عالمًا موازيًا من العمران، وهو عشوائيات أكثر.

في الوقت الذي يرى فيه المتخصصون، أن السكن العشوائي “آفة عمرانية” يجب معالجتها، تعتقد المهندسة أبو زين الدين بأن “العشوائيات كانت حلًا مبدعًا خلقه السكان المهمشين من قبل الحكومة وسياساتها وتشريعاتها، فبدل تجريم العشوائيات، يجب أن نرى كيف استطاعت هذه الظاهرة إسكان الملايين التي عجزت الحكومة عن إسكانهم، ونبحث عن المرونة والحلول المبدعة ونبني عليها، ونطورها، ونحسن شروطها الإنشائية والبيئية والخدمية”.

الدمار الذي يخيم على دمشق، والإشكاليات في المخططات التنظيمية التي تبرز مع مرور الوقت، كتشوّه دائم وعميق في وجه المدينة، وبوجود تشريعات تعزز هذه التشوهات العمرانية، تغير ملامحها باستمرار، دون أي مبالاة بأهل المكان الذين نحتوا وجودهم فيه، تنتظر كومة التعقيدات المتشابكة هذه جهة مسؤولة تلّوح بحل جدي وسريع، لعملية إعادة إعمار عادلة تُعيد إنتاج القيمة الجمالية والمعنوية للأماكن المدمرة، تحفظ لها ذاكرتها.

مقالات متعلقة