بعيدًا عن بشار

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

ليست الجغرافيا وحدها هي القادرة على إبعادك عن هذا المكان الذي يحكم عليك بالسكنى بتفاصيله كل يوم، أنت محاصر بسوريا، وما هي حياتك اليوم في المغترب إلا مكان تضمن فيه لأطفالك مستقبلًا ما، وتعيش المعترَكَ ذاته عن بُعد.

أنت بعيد عن الأسد، لكن يده الطولى حاضرة، عبر جهازك الخلوي، وعبر الأنباء التي لن يجدي عملك اليومي بالابتعاد عنها. ربما نجوت، لكن النجاة ليست كاملة، هي نجاة الجسد من مفرمة الأجساد، وتورّط مستمر للروح في المأساة التي يُضاف إليها الحنين.”بعيدًا عن بشّار”، فيلم وثائقي بثته قناة “الجزيرة” الوثائقية مؤخرًا عبر منصاتها، فيلم تدور كاميراته بين أفراد عائلة سورية لاجئة في مدينة مونتريال الكندية، بعد عذابات الخروج من درعا، يجسّد الحياة اليومية التي لا بد أنها متماثلة لدى أغلبية الأسر السورية التي لجأت غربًا، إلى بيئات آمنة، تطمئنُّ صباحًا على إفطار الأطفال قبل ذهابهم إلى المدرسة، ثم تعيش بين وسطين، وسط البيئة الجديدة حيث تحاول الاندماج والنجاح في العمل، ووسط سوريا الحاضرة كلما فُتح الهاتف المحمول الذي سيوفّر الأخبار ومقاطع الفيديو والاتصالات مع الأهل في الداخل، ليؤكد أن المأساة مستمرة.

عدنان المحاميد، استقر مع زوجته وأبنائه الأربعة، ليعمل في معهد العمل الاجتماعي التابع لجامعة “ماكغيل”، فيكون تماسه مع اللاجئين السوريين القادمين حديثًا إلى مونتريال، ويتميّز في مقدرته على تطوير مهاراته، وبذله جهدًا تتوّجُه مؤسسته بجائزة تمنحه إياها، مدركة أن فرحته منقوصة. السعادة المنقوصة كانت ثيمة الفيلم الأساسية، ففي كل لحظة يتحدّث فيها عدنان أو زوجته عن أي قضية، تنتظر كمشاهد دموعهما التي يكابران في ذرفها، إذ إن هناك مبررًا دائمًا للبكاء، لإطلاق صيحة ما تعبّر عن أن السلام الذي يعيشون فيه كأسرة اليوم، سلام جريح، بإخوة قُتلوا أو غُيّبوا قسرًا، وأسر ما زالت تعاني الأمرَّين في حياتها بالداخل.

الناجي الحقيقي في الفيلم هو هؤلاء الأطفال الأربعة، الذين يبنون مجتمعاتهم الجديدة في المدرسة، لكل منهم أصدقاء وفرص لإظهار المواهب، وتطوير القدرات، تكاد صلاتهم مع سوريا تكون مقطوعة، لولا جملة يقولها الأب هنا، ودمعة تذرفها الأم هناك، بعض صغارهم لا يعرفون شيئًا عن سوريا، ويبدو أن الأب في مكان مرتبك أمام هذه الحقيقة، هل سيشرح كل ما حدث بالتفاصيل، أم سيتركهم بعيدًا عن هذا المعترك؟ ليكتفي بالأساسيات: “الشعب أراد أن يعيش فانتفض في وجه النظام، فقام النظام بقتل هذا الشعب”، تكفي هذه الجملة ليفهموا حقيقة بلادهم وهجرة أهلهم منها، هي بالفعل جملة كافية مختصرة واضحة، وكل ما يأتي بعدها إنما هو تفاصيل مكمّلة للمشهد.

ساعات الراحة المسائية التي تعيشها الأسرة، لن تخلو من توتّر انقطاع الإنترنت في سوريا وعدم اكتمال الاتصالات مع الأهل في الداخل، ومن الإحساس بالمسؤولية تجاه قريب لم يخرج من المعتقل بعد، وأخ مجهول المصير، وأسر تعيش في ظل انقطاع الموارد الأولية للحياة.

هدوء يملأ البيت المحاصر بثلج الشمال البارد، ومشاهد صامتة لطفلة تلهو على الشرفة، وأخوها يكتب الوظيفة في الداخل، ووالدها يصلّي، والأم تطهو الطعام، كل شيء طبيعي اعتيادي إذ ما رأيته بصورته المجرّدة، لكنه استثنائي في العمق، فكل هذه التفاصيل تشي بحزن دفين، وألسن جاهزة للصراخ الذي لا ينقطع، للحديث عن عمق المأساة في روح العائلة، التي يئست حتى من التعبير، التعبير الذي سيكون أصعب باللغات الجديدة التي لم تتقنها العائلة تمامًا بعد، فإذا صرخت لا جدوى سوى إقحام الأطفال في المأساة التي من الأفضل الحفاظ على حياتهم الطبيعية خارجها، فليست النجاة مجرّد الخروج من البلاد، إنما الاقتناع بضرورة الحياة بشكل طبيعي على أقل تقدير.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة