ذاكرة عفوية لدمشق على لسان أهلها.. لقاء مع المخرج الفوز طنجور

مخرج الأفلام الوثائقية السوري الفوز طنجور (تعديل عنب بلدي)

camera iconمخرج الأفلام الوثائقية السوري الفوز طنجور (تعديل عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عندما تضيّق السلطة مساحة انتماء الأفراد لمدينتهم، وتغيب الدولة عن الاهتمام بتقديم الحلول لمشكلات قائمة تزيد من معاناة السكان العاديين، وترهن جميع طاقتها بوعود دون ملامح واضحة تضمن مستقبل رعاياها، يشعر الناس حينها بفقدان مضاعف للمدينة، والأماكن التي ألفوها وعرفوها.

ضمن هذه الحالة، يصير “المكان” البطل في سينما تؤرشف شخصيته الفريدة، قبل أن يتغير بفعل الأحداث المتراكمة فيه، من خلال حكايات أهله، يحاولون سرد مشاعرهم الوجدانية تجاه تجاربهم في هذه المدينة، يتغزلون بها ويشكونها في الوقت نفسه.

تستطيع كاميرا المخرج السوري الفوز طنجور أن تجعل المشاهد يعيش حيوات كاملة في فيلم وثائقي يطوف حول شيء واحد، هو علاقة الناس بمدينتهم دمشق، وتأثير الصعوبات المعيشية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية على تلك العلاقة.

“بعثرة ما كان يمكن أن يكون أجمل بكثير”

يقول المخرج الفوز طنجور في حديث إلى عنب بلدي، “عندما خرجت من دمشق في 2012، صرت أتذكر هذه المدينة من خلال ذاكرتي البصرية، التي أتذكر عن طريقها جميع الوجوه والتفاصيل، لذلك تتشكّل لدي انطباعات بصرية عن الأشياء”.

يتابع طنجور، “عندما انتقلت إلى دمشق مع زوجتي في 1998، عملت في كثير من المجالات من أجل تحسين الوضع المعيشي، كوني كنت متزوجًا بالدَّين وقتها، وأُقيم في غرفة بمنطقة باب شرقي، وكان يدخل الهواء البارد إليها من جميع الاتجاهات (…) في تلك الفترة شاهدت الحياة بكل أشكالها في دمشق، من القاع إلى أولئك الأشخاص الذين يملكون نفوذًا”.

والسينما الوثائقية تعيد تشكيل الواقع ونقده، وليست مرآة تعكس صورته فقط، وفق ما يعتقده طنجور، وعليه، “بسبب خوضي كل أشكال الحياة في الشام، عندما شاهدت المدينة من وراء الكاميرا، صرت أستطيع معرفة أين وجعها وما الذي يجب أن يراه الناس، فكان فيلم (دمشق سيمفونية مدينة) نتاج هذه التجربة”.

يرصد طنجور في فيلمه “دمشق سيمفونية مدينة” قصص الناس ومشاعرهم تجاه المدينة “المتسعة باطّراد”، وفق توصيف الفيلم عبر موقع “الجزيرة الوثائقية”، التي أنتجته عام 2009.

يوثق الفيلم شكل المدينة، عادات أهلها، أحلامهم، فرحهم أو تعاستهم حين لا يجدون فسحة للفرح، الحالة التلقائية أو العشوائية التي تصدر عنهم، مبتدئًا بموسيقى افتتاحية إذاعة دمشق لصاحبها العازف السوري محمد عبد الكريم.

تمر كاميرا طنجور بعدة مجتمعات مختلفة السمات الثقافية والطبقات الاقتصادية، تدخل بيوتهم لتعرض حياة الناس بمظهرها الحقيقي، تناقش مدى تغيّر طابع المدينة العمراني، وتغيّر مكوّنها الاجتماعي من وجهة نظر ضيوف الفيلم.

وضمن الفيلم، هناك أفراد من جميع المحافظات السورية الذين أتوا إلى دمشق باحثين عن فرص للعمل تناسب ما يتطلعون إليه في حياتهم.

يعلّق أحد ضيوف الفيلم، وهو القاص والكاتب السوري إبراهيم صموئيل، على طابع مدينة دمشق حينها، بأنها لم تعد تملك “طابع الماضي ولا لديها طابع المستقبل، يعني من المفهوم أنه عبر نصف قرن تتغير مدينة، يتغير الشكل المعماري، تتغير العلاقات الاجتماعية، تتغير الحميمية، تكون أخف أو أكثر حسب الحالة، لكن من أكثر الأمور مرارة، أن تفقد لونها وطعمها”.

ويُرجع صموئيل سبب هذا التوصيف خلال حديثه ضمن الفيلم إلى “اللا انضباط المتروك للناس يشتغلو اللي بدهم ياه، أي حدا بيقدر يعمل أي شي”. لكن المدينة مثل “فرقة موسيقية”، وفق تشبيه صموئيل، بحاجة إلى “مايسترو” لإدارة إيقاعها وحركتها العمرانية، إلا أن دمشق تُركت لتكون “خليطًا بلا معنى”، و”بعثرة ما كان يمكن أن يكون أجمل بكثير”، والذي انتقل من قريته إلى دمشق “لم يعد منسجمًا مع المكان، ولا هو يشبه ما كان عليه”.

“كار الدولاب”.. ارتجاليات من الواقع

بعد فيلم “دمشق سيمفونية مدينة”، أخرج طنجور فيلم “تاكسي الشام” عام 2010، لنفس جهة الإنتاج، وهو يروي حكايات المدينة من وجهة نظر سائقي سيارات الأجرة أو أصحاب “كار الدولاب”، كما يطلقون على أنفسهم في الفيلم، ويحقق حصيلة واقعية من التجارب قد لا يعرفها الفرد الذي عاش في نفس المدينة، حيث “سائق التاكسي يفهم الجميع، لكن لا أحد يستطيع فهمه”.

يعتمد الفيلم على رصد حياة سائقي سيارات الأجرة خلال يوم كامل، يترك يوم الضيوف ينمو أمام الكاميرا بعفوية، وذلك من خلال تقديم رؤية المخرج عن الواقع بالواقع نفسه.

“عندما تتعامل مع فيلم وثائقي، فأنت تتعامل مع شخصيات حقيقية تفتح لك روحها وهي تحكي لك تجاربها ومشاعرها، تعطيك شيئًا جديدًا بشكل دائم من خلال كلامها”، وفق ما قاله طنجور.

ويعتقد بعض صنّاع الأفلام أو الجمهور بأن كل القصص قد حُكيت، لكن ضمن ظروف مجتمعية ومشاعر إنسانية متعددة لم تُعالَج بعد، فإن “كل فيلم هو تجربة جديدة، فلا توجد تجربة تشبه التي سبقتها”، وفق طنجور.

ويسجل الفيلم الوثائقي أي مظهر للحقيقة، يُعرض من خلال وسائل التصوير المباشر، أو بإعادة بنائه بصدق، لأن “الحياة دائمًا ما تفتح الأبواب أمام ارتجاليات ذات معنى ترتبط بعوالم مختلفة في أثناء التصوير، وليست منضبطة مثل الممثل في الفيلم الروائي”.

ولذلك، فإن “الفن ليس وظيفته نقل الواقع كما هو، إنما نقل الواقع بصورة مختلفة، ينقله للمشاهد بكل مرة بطريقة جديدة تشغل بال المشاهد أكثر، وكأنه يشاهد حياته لأول مرة، يفكك رموزها، يكون متواطئًا مع الفن لكشف هذه الرموز، كي يكون شريكًا بالتجربة الفنية”، وفق ما عبّر عنه طنجور.

اختيار شخصيات الفيلم أمر صعب، “أهتم بالتخطيط المسبق قبل التصوير، البحث عن أناس طبيعيين، أحب الأشخاص الذين لديهم حكاية ليروونها أمام الكاميرا، تحفّز المشاهد على القيام بشيء ما”.

“إما بتقص من الفيلم أو منحرقه كله”

تكمن أهمية الفيلم الوثائقي بالفكرة التي يحملها، تتسم بالجرأة وقربها من الجمهور، يمتد تأثيرها في حياتهم، وتحاول توصيف واقعهم دون مبالغة.

قبل اختيار طنجور “الجزيرة الوثائقية” كجهة لإنتاج أفلامه، خاض المخرج تجربة العمل مع “المؤسسة العامة للسينما” بدمشق عام 2007، لإنتاج فيلم “شمس صغيرة”، الذي يعد “نموذجًا لتحايل السينما على الرقابة (…) هو فيلم اشتُغل في قلب المؤسسة الرسمية، ويتناول، من غير ادّعاء، تجربة الاعتقال وقمع حرية التعبير والتضييق على الصحفيين والكتّاب”، وفق مراجعة الصحفي راشد عيسى للفيلم عبر موقع “القدس العربي“، الذي يعتقد أن الفيلم “بشائر ثورة مبكرة في سوريا”.

يروي فيلم “شمس صغيرة” قصة حب بريئة لطفلين (أليسار كغدو ومحمد أمين عباس)، تشاهد الطفلة “لونا” مدينة دمشق من جبل قاسيون عبر منظار، ترى أسطح البيوت المتراكمة على الجبل، في الوقت الذي يجادل والدها، الذي لعب دوره الممثل فارس الحلو، زميله في الجريدة بشأن رفضه حذف جزء من مقالته، وبعد أن يغلق سماعة الهاتف، يطلب من ابنته نسخ المقالة في مكان ما.

تأخذ “لونا” ورقة المقالة، وتمر بدراجتها على صديقها “أسامة”، وتقرر إلصاق النسخ على جدران المدينة، وخلال المشوار يتجادل الطفلان حول جمال دمشق، إذ تحب “لونا” شكل المدينة، بينما يصفها “أسامة” بالبشعة، ويركل نسخ المقالة المصوّرة الموضوعة أمامه برجله فتتطاير، لتكمل الطفلة إلصاق ورق المقالة على الجدران.

يعيش عم الطفلة “لونا”، الذي لعب دوره الممثل فايز قزق، مع الحمام في أحد أسطح البيوت المتراكمة على “قاسيون”، بعد أن كان طيارًا سابقًا، ويعد “أسامة” بأن يصالحه مع “لونا” بعد جدالهما.

في اليوم التالي، ترى “لونا” والدها الصحفي وهو يتم اعتقاله داخل سيارة الشرطة، تحاول اللحاق به بدراجتها إلا أنها تتعرض لحادث سير.

“تم إنشاء لجنة لي مثل (لجنة محاسبة)، أجبروني على قص أجزاء كبيرة من الفيلم، وهي لحظة اعتقال فارس الحلو، إذ كان طوال الوقت يتعرض للضرب خلال نزوله من الدرج في الفيلم (…) وهناك لحظة يظهر فيها عمها (عم لونا) فايز قزق داخل صورة معلقة على الحائط كأحد أبطال حرب (تشرين التحريرية)، إلا أنه صار بعد ذلك كشيش حمام”، وفق ما قاله المخرج طنجور.

كما حُذف مشهد يحتوي على قصيدة للشاعر محمد الماغوط، وهو منشور تحت عنوان “خواطر لا تسر الخاطر: عن الأحياء والموتى والمحتضرين”.

“قالوا لي: ماذا؟ حوّلت أبطالًا لأشخاص بتكش حمام!”، وفق طنجور، الذي تابع، “قال لي محمد الأحمد (مدير المؤسسة العامة ووزير الثقافة السابق) إذا بعرض الفيلم هيك من دون حذف بكرى بشيلوني من منصبي، بيشحطوني المخابرات”.

“تجادلنا، خيروني إما بتقص الفيلم أو منحرقه كله على بعضه، قلت لنفسي إذا أصررت على موقفي فجهد فريق العمل بالفيلم سيضيع، وإذا خرج هذا الفيلم وعُرض، ستظل معي طول العمر وثيقة أن أولئك الناس هكذا فعلوا وإلا سأخسره، اضطررت بعدها لقص الفيلم، ولكن الأمر الذي فعلته بشكل شخصي هو عرض الفيلم بقرطاج في 2008، وبعد هذا الفيلم، قالوا لي: ما عاد إلك شغل هون”.

لم يُعرض هذا الفيلم سوى مرتين، الأولى في مهرجان “قرطاج السينمائي” في تونس عام 2008، ونال حينها “التانيت البرونزي”، وفي مهرجان سينمائي ببلجيكا عام 2009، وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة حينها.

كان قطّاع السينما قبل قرار إنشاء “المؤسسة العامة للسينما” في سوريا قطاعًا مهملًا لا تنظمه قانونيًا سوى القوانين والأنظمة السائدة، والعموميات المتعلقة بأصول الاستيراد والتصدير، وتقاضي الرسوم الجمركية، ولم تكن هناك سوى دائرة صغيرة لرقابة الأفلام المستوردة، حيث “لم يكن هناك إنتاج محلي ذو شأن أو أهمية”، وفق العدد السابع من مجلة “قلمون للدراسات والأبحاث” الفصلية، الذي صدر عام 2018، وحمل عنوان “السينما السورية“.

وجاء مرسوم إنشاء “المؤسسة العامة للسينما” في المرسوم التشريعي رقم “258” في تشرين الثاني لعام 1963، ورُبطت حينها بوزارة “الثقافة والإرشاد القومي”.

وتُعامَل “المؤسسة العامة للسينما” بوصفها جهة اقتصادية، يُراد منها أن تعتمد على الاكتفاء الذاتي، لكن بعد عام 2011، انحازت هذه المؤسسة إلى الممول الرئيس وهو النظام السوري، وفق ملف المجلة، وأنتجت مجموعة من الأفلام التي تسوّق روايته عن “المؤامرة الكونية” عليه، لذلك، “لا أمل ولا جدوى من التعويل على مؤسسة تأكل من مال السلطان، وتنفذ سياسته في تقديم رؤية موضوعية تقارب الحقيقة كما هي في الواقع الحياتي المعيش”.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، ابتعدت الأفلام الوثائقية السورية عن الشكل الإخباري في نقل الحقائق، بل نقلتها عبر قصص الأشخاص، بحيث تستفيد من كل ما فيها من حقائق يمكن أن تروى على لسان أصحابها، مثل عبد الباسط ساروت في فيلم “العودة إلى حمص” للمخرج السوري طلال ديركي، أو العودة إلى الذاكرة الجمعية إلى ما قبل الثورة، كما فعل طنجور في فيلمه “ذاكرة باللون الخاكي” (الترابي الزيتي)، الذي استعاد فيه الذاكرة المصبوغة بالخوف بصور القمع والتعذيب والآلام، بزي مدرسي موحد بالإكراه.

وشارك فيلم “ذاكرة باللون الخاكي” في مهرجان “لايبزيغ للأفلام الوثائقية والأنيميشن”، وفي المسابقة الرسمية لمهرجان “مونبلييه الدولي لأفلام البحر المتوسط” في فرنسا، ونال جائزة “عمدة المدينة” في مهرجان “ياماغاتا العالمي للسينما التسجيلية” في اليابان، وجائزة أفضل إخراج عن فئة الأفلام الوثائقية الطويلة في مهرجان “مالمو للسينما العربية” في السويد.

“لن أستطيع أن أعرف الشام”

قد يكون أبسط تعريف للفيلم الوثائقي أنه ليس تمثيليًا، لكن المخرج طنجور يعتقد أن “الخطوط متداخلة وواهية بين العالم الروائي والعالم التسجيلي”، لأن النوعين من الأفلام يتعاملان مع الواقع، “لدي تحفّظ على كلمة (تخيّلي)، الأفلام العظيمة في تاريخ السينما هي أفلام روائية واقعية، أفلام حقيقية تكاد تكون في بعض المرات هي الأفضل على قول الحقيقة من الفيلم التسجيلي”.

ويضيف طنجور، “الكاتب لا يأتي بأفكاره من محض الخيال، إنما شخصياته من لحم ودم، جاءت من الواقع، أحداث قصته يعرفها، سردها ضمن بنية اسمها سيناريو حتى يحقق الفيلم من خلال ممثلين محترفين بمقدورهم نقل الأحاسيس الحقيقية”، لذلك “النوعان يشتركان في نقل الواقع”.

وُلد طنجور في مدينته سلمية بمحافظة حماة عام 1975، وعاش معظم تجاربه في دمشق، إلا أنه تركها في 2012 بعد مضايقات أمنية، لذلك لا يستطيع الآن الادعاء بأنه يفهم المدينة بعد 2012، “أنا الآن لن أستطيع أن أعرف الشام إذا رجعت إليها، ستكون علاقتي مختلفة معها، هذا أمر طبيعي، سأتعذب كي أفهمها بعد كل هذه السنوات”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة