استغلال الخوف

أهالي المطلوبين خارج الحدود في قبضة المخابرات السورية

camera iconصورة تعبيرية (هيومن رايتس ووتش)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – لجين مراد

“أكبر أحلامي ألّا أمضي بقية أيام عمري محاصرًا بتهديدات النظام”، كلمات قليلة اختصر بها “عبد الله” (61 عامًا) حياته في سوريا في ظل الملاحقات الأمنية له ولعائلته بحثًا عن ابنه المطلوب للنظام السوري.

خلال السنوات الماضية، عمل النظام السوري على وضع العثرات في طريق الكثير من أهالي المطلوبين في سوريا، وتحويل حياتهم اليومية إلى سجن تصنعه التهديدات والمداهمات، وعرقلة الإجراءات القانونية.

ورغم تأكد النظام من أماكن وجود المطلوبين خارج حدود سوريا، ظلّ الجهاز الأمني مستمرًا بممارسة عمليات الابتزاز وعزل أهالي المطلوبين عن المجتمع، بصورة مشابهة لعزل المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا.

كما استمر النظام بحملات اعتقال تعسفي في مناطق سيطرته، إذ اعتقل خلال عام 2021 نحو 1032 شخصًا، من بينهم 19 طفلًا و23 سيدة، وفق تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”

الخوف مستمر

“تعرضتُ للاعتقال بشكل متكرر، ورغم أن فترة اعتقالي لم تدم طويلًا، كان النظام قادرًا على أن يبقي حالة الخوف الدائم في بيتنا”، يشكو “عبد الله”، اسم وهمي لأسباب أمنية، سيطرة الخوف على حياته وحياة أسرته.

لم تمنع معرفة النظام باستحالة عودة المطلوبين إلى سوريا من تهديد عائلاتهم، متخذًا من التهديدات وسيلة لإبقاء عائلات المطلوبين في خطر دائم، انتقامًا من أبنائهم، وفق “عبد الله”.

حنين (اسم وهمي لأسباب أمنية)، شابة تبلغ من العمر 22 عامًا، قالت إن النظام يتعمد باستمرار السؤال عن إخوتها المطلوبين، ليذكّرهم دائمًا بأن الخطر ما زال موجودًا.

وتأكيدًا على أن الهدف من التضييق الأمني على أهالي المطلوبين لم يكن إلا حفاظًا على ديمومة حالة الخوف، قالت حنين لعنب بلدي، إن عناصر النظام كرروا مرارًا سؤال “شو مانك خايفة؟”، عند سؤالها عن إخوتها.

وأضافت حنين أن سيارة تابعة لأجهزة الأمن ظلّت تلاحقها لأيام، ليحرمها النظام الشعور بالأمان حتى خلال سيرها في الشارع، وفق تعبيرها.

تهديدات تتجاوز الحدود

خلال حديثه إلى عنب بلدي، شدّد “عبد الله” على عدم ذكر اسمه الحقيقي، خوفًا من تعرض زوجته وبناته للخطر، مضيفًا أنه لا يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي باسمه الحقيقي، كما يرفض الخوض بأي حديث حول الوضع الأمني في سوريا.

وأوضح “عبد الله”، “أكبر أحلامي ألا أمضي بقية أيام عمري محاصرًا بتهديدات النظام”، وأن تكون عائلته في مكان آمن، حيث لا تطالهم القبضة الأمنية للنظام.

كما قالت روز، وهي معتقلة سابقة ومطلوبة للنظام، إنها صارت تخشى تقديم شهادتها ضد الضالعين بالانتهاكات المقيمين في تركيا، بعد تهديدها بعائلتها، إثر مشاركتها بإحدى حملات مناصرة المعتقلات.

من جهته، اعتبر المدير التنفيذي لمنظمة “اليوم التالي”، معتصم سيوفي، أن النظام السوري يهدف من خلال التضييق الأمني على أهالي المطلوبين، إلى ضمان استمرارية الرعب والردع في المجتمع السوري.

“أداة في يد النظام”

منذ 2011، اعتبر النظام السوري أهالي المطلوبين ورقة ضغط على أبنائهم للحصول على المعلومات والوثائق، أو لإجبارهم على تسليم أنفسهم والتراجع عن مواقف المعارضة للنظام.

“لم تستهدفني حملات الاعتقال، كان الهدف أن أنقل رسالة لابني تعزز شعوره بالذنب نحونا، وتحاول خلق شعور الندم بداخله، لم أكن سوى أداة بيد النظام”، هكذا وصف “عبد الله” سعي النظام لتحويل أهالي المطلوبين إلى مجرد أداة لتحقيق أهدافه التي لا يستطيع أحد توقعها بشكل كامل.

وقال “عبد الله”، إن عناصر الأمن ظلّوا يسألونه عن حياة ابنه المقيم في تركيا، رغم محاولاته المستمرة التأكيد على انقطاع التواصل بينه وبين ابنه.

وبعد خروج “عبد الله” من المعتقل في العام 2021، ومضيّ نحو شهرين على وصوله إلى تركيا، ضغط النظام عليه وعلى ابنه من خلال زوجته وبناته المقيمات في سوريا، ما جعله في حالة من الخوف الدائم، حتى في غربته.

من جهتها، قالت عبير (54 عامًا)، “في كل المرات التي تعرضتُ بها للتحقيق، ظلّ عناصر الأمن يكررون عبارات تبدأ بـ(قولي لابنك…) في محاولة لتحميلي الكثير من رسائل التهديد والابتزاز له”.

وتحدثت عبير لعنب بلدي عن تحويلها إلى أداة لتهديد ابنها من قبل النظام السوري.

بين الخوف والعاطفة

يسيطر الخوف على علاقة العديد من أهالي المطلوبين بأبنائهم، وهو ما أجبرهم على الانقطاع لسنوات طويلة، إذ إن معظم الأهالي يرفضون السفر للقاء أبنائهم، في حال توفرت الإمكانيات لذلك، خوفًا من التبعات الأمنية حين يعودون إلى سوريا، وفق ما قاله سيوفي.

كما أجبر الخوف الأهالي على خلق “كذبة” انفصال أبنائهم عنهم، وانقطاع التواصل بينهم، هربًا من رد فعل لا يمكن توقعه إن أفصحوا عن استمرار التواصل بينهم، بحسب سيوفي.

أكّد “عبد الله” أنه تجنب الاتصال بابنه خلال الأشهر الأخيرة التي أمضاها في سوريا، وانقطع التواصل بينهما لفترة طويلة، حتى إن ابنه لم يعرف بهربه من سوريا لحين وصوله إلى تركيا.

كما قال عبد السلام (22 عامًا)، وهو ابن عبير، إن خوفه على أمه يغلب عاطفته في كثير من الأحيان، وهذا ما يدفعه لتجنب التواصل الدائم معها.

“كل شي بالمصاري بصير”

“كل شي بالمصاري بصير”، بهذه المعادلة استطاع أهالي المطلوبين الذين تحدثت إليهم عنب بلدي الإفلات من قبضة النظام الأمنية، وتسيير معاملاتهم القانونية التي توقفها الدوائر الحكومية دون أسباب واضحة.

دفع “عبد الله” مبالغ “كبيرة” ليستطيع الخروج من المعتقل، كما اضطر إلى الدفع مرات عديدة لتكفّ الأجهزة الأمنية عن التحقيق مع زوجته دون احتجازها لفترات طويلة.

وقالت عبير، إن النظام حاول مرات عديدة احتجازها بعد التحقيق معها وسؤالها عن ابنها، لكنّ النقود أنقذتها من “كابوس المعتقل”.

عرقلة المعاملات القانونية

لم يكتفِ النظام بالتضييق الأمني على أهالي المطلوبين، واستمر بالضغط عليهم من خلال عرقلة معاملاتهم القانونية، وجعل النقود الحل الوحيد لتسييرها.

“بنهاية ساعات الانتظار في إدارة الهجرة كنت أمام خيارين، إما دفع المال الذي يريدونه لإتمام المعاملة، وإما العودة دون جواز سفر، وفي أسوأ الأحوال التعرض للاعتقال”، قالت حنين متهمة النظام بتحويل المعاملات القانونية إلى ورقة ابتزاز.

أما عبير، فقادتها مراجعات الدوائر الحكومية لاستخراج شهادة وفاة لأحد أبنائها إلى غرفة التحقيق في أحد مراكز الاعتقال.

وأكّد المدير التنفيذي لمنظمة “اليوم التالي”، معتصم سيوفي، أن الأهالي بالنسبة إلى النظام وسيلة للابتزاز المالي، والسيطرة على أموال وممتلكات المطلوبين.

العزل عن المجتمع

عمل النظام السوري على عزل أهالي المطلوبين عن المجتمع من خلال الحفاظ على حالة الخوف وتحويل المطلوبين وعائلاتهم إلى موضع شبهة، بحسب ما قاله أهالي المطلوبين الذين تحدثت إليهم عنب بلدي.

“النظام نجح بخلق شعور الغربة بداخلنا حتى داخل بيوتنا”، كما قالت حنين، في حين يمارس المجتمع شكلًا من أشكال العنصرية تجاه أهالي المطلوبين، من خلال رفض التعامل معهم ونبذهم لأسباب كثيرة، أهمها الخوف، وفق عبير.

وتعتبر حياة المطلوبين وعائلاتهم تجسيدًا لـ”العزل التمثيلي” الذي تحدثت عنه دراسة “السجون المتخمة.. تفككات في منظومة سجون الأسد”، التي نشرها مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، إذ تمكّن النظام من توجيه لوم المجتمع نحو المطلوبين وأهاليهم لعزلهم عن المجتمع.

كما تمكّن من تحويل العلاقة التي تربط المجتمع بأهالي المطلوبين إلى مصدر قلق، خوفًا من أن تثير علاقتهم شكوك السجان فيتعرضون للخطر.

واتبع النظام لتحقيق أهدافه ثلاثة عناصر أساسية، أولها القسوة والدموية التي ترسخت في أذهان أفراد المجتمع، والثاني ضعف البيئة التنظيمية للمجتمع سياسيًا ومدنيًا، والثالث العادات المجتمعية التي تشرعن العنف في ظل غياب آلية محاسبة واضحة، وفق الدراسة.

“العزل التمثيلي”هو رد فعل سلبي من قبل المجتمع على المعتقل، يتجسد في تكريس عزله عن  مجتمعه.

العزل يحوّل مدنيين إلى مخبرين

من أهم الأسباب التي أسفرت عن عزل أهالي المطلوبين عن المجتمع، قدرة النظام على تحويل المدنيين حتى الأقارب والأصدقاء منهم، إلى مخبرين.

وروت حنين لعنب بلدي، أنه خلال المداهمة الأخيرة التي تعرض لها بيتهم بحثًا عن إخوتها، رافق الأمن أحد الجيران الذي صار مخبرًا منذ سيطرة النظام على الغوطة الشرقية.

وأضافت الفتاة، “الأذى بيجي من هون”، موضحة أن معظم التضييق الأمني مؤخرًا ناجم عن إخباريات من قبل أهالي المنطقة.

كما أكّدت عبير أنها تخشى الحديث عن ابنها حتى أمام أقاربها وجيرانها، خوفًا من أن يكون بينهم مخبر وتتعرض عائلتها للخطر.

“بدل أن يكون الجلاد شخصًا يصبح مجموعة، وبدل أن يكون وظيفة يصبح واجبًا وممارسة اجتماعية ويومية، وبدل أن يكون التعذيب والإهانة في السجن يصبحان في الحياة العامة، وبدل أن تكون عقوبة القاضي أو الحاكم هي التي يجب أن يُحسب حسابها، تصبح عقوبة المزاج اليومي المتبدل والمتسلّط والمتحكم لدى المتنمرين هي التي يرزح المجتمع تحت وطأتها، ولكيلا يبدو النشاز الفردي يجب أن يتحول المتنمر الفرد إلى ظاهرة، ولو مفتعلة، ولهذا يتم إشراك أكبر عدد يمكن تجنيده في عملية الممارسة القمعية. وهنا لا يعود السجن جدرانًا وأبوابًا مغلقة، بل يصبح مجتمعًا بأكمله، ويصبح الأمن الشخصي في البيت هشًا هشاشة أمن السجين في زنزانته”.

حيونة الإنسان – ممدوح عدوان



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة