حسن م يوسف: ليتني كنت شجرة

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

لا مشكلة لدى الكاتب السوري حسن م يوسف مع المسؤولين في بلاده سوى قضية شروط الدعم، التي لم تشمله، وهو ما قد يؤدي إلى ابتعاده عن ممارسة أعماله، نتيجة ارتفاع أسعار النقل، أي ما يعني جعله رهينة التقاعد الذي لا يريده. نعم، هكذا ببساطة وبعد كل ما شاهده الكاتب المعروف، وصاحب المقالات الدورية، الذي يرى ويسمع ويلاحظ ويفكّر ويكتب. كل هذا الخراب المحيط به في بلاده والمستمر منذ سنوات، أنتج له مشكلة وحيدة هي استبعاده من قوائم الدعم، وعليه فقد سجّل هذه الملاحظة على شكل عتب على المسؤولين لا أكثر، فهو يدعو إلى الشراكة بين المسؤول والناس.

لا شك أن ما قاله الكاتب في لقاء ببرنامج “Viva La Vida” على إذاعة “المدينة” لم يكن غريبًا عنه، لكن السنوات الطوال التي مرّت بكل مآسيها، خاصة على من هم في الداخل السوري، جعلت الكثيرين يتجاوزون، إلى حد ما، سقوفهم الواطئة القديمة، جعلت عباس النوري يتحدث عن المخابرات، وفراس إبراهيم وشكران مرتجى عن أزمة الوقود وعن ظلم المواطن في وطنه، وغسان مسعود عن ضرورة أن يرحل المسؤول غير القادر على حمل المسؤولية. ألم تجعل هذه الظروف كاتبًا معروفًا وصحفيًا قديمًا ينظر إلى المسؤول بنظرة أخرى غير العتب؟ ليس المقصود هنا أن يشتم شخص رئيس النظام، لا سمح الله، أو أن يهمل الحديث عن الكون بوصفه وحشًا يستهدف بلاده، تلك مفردات لا يمكن لصحفي في موقع ميم يوسف أن يعيش دونها، إنها أبجديته الوحيدة والمتبقية لا شك، لكن أليس لتلك الجموع الجائعة البردانة شكاوى أخرى سوى رفع الدعم عن وقود سيارة الصحفي المسن.

في اللقاء الذي كادت المحاوِرة فيه تسجد للصلاة في محراب ضيفها، يقشعرّ بدنها لكل كلمة تخرج من فمه، وكأنها قرآن جديد، استفاض ميم يوسف في اندماجه مع الطبيعة، تمنى أن يكون شجرة أكثر من مرة، وتحدث عن الصخور والجبال التي عاش بينها، وعاد في الماضي إلى مواقع أسهب فيها في الحديث دون رقيب، فقد تعلّم كتابة السينما من وقفاته على باب السينما في جبلة، حين كان طفلًا لا يملك سعر التذكرة، إذ كان يسمع أصوات الممثلين في الفيلم ويقوم بتخيّل المشاهد، من هنا أصبح كاتبًا سينمائيًا. كما كتب كلمات أغنية “يا روح لا تحزني” تلك التي كانت شارة مسلسل “نهاية رجل شجاع” بعد أن طلب منه الفنان أيمن زيدان ذلك، فذهب في ذلك اليوم إلى النوم، ليستيقظ الساعة الثالثة صباحًا بشكل مفاجئ، ويفتح الكمبيوتر (من المفترض أن ذلك في أواخر 1993) ليكتب عليه جملة واحدة فقط هي “عزّك فيك وذلّك فيك”، ثم ليستيقظ صباحًا ويفاجَأ بالجملة، ويستكملها، مشددًا على قناعته الراسخة حتى اليوم بأن عزّ الإنسان في داخله، وكذلك ذلّه، لا أحد يمكنه أن يذلّ إنسانًا إنما هو يذلّ نفسه، بمعنى أن كل فقرات الذلّ اليومي التي يتعرّض لها السوريون، إنما هم من صنعوها في دواخلهم، لم يعتدِ أحد عليهم، ولم يذلّهم أحد وفق منظور الكاتب المفكّر.

صفات كثيرة اختارها الكاتب لنفسه في اللقاء، أو انتقاها بالاتفاق مع محاوِرته، شريك الموسيقا صديق الأشجار والمتحدث إليها، الحالم بالسلام، المفتقد لزمن السياسيين العظام أمثال شارل ديغول، والممتعض من السياسيين الحاليين أمثال ماكرون الذي يشبه “بائع دكّان”، وكأن بشار الأسد يعيش على كوكب آخر، المتمسّك ببلاده والذي لن يغادر ترابها إلا إلى تحته، يرى كل شيء في سوريا فريدًا مميزًا، ففيها نبتت أول قمحة وأول شجرة زيتون وأول نوتة موسيقية وأول أبجدية، وفيها بدأ السلم السباعي، وفيها أول صياغة لكلمة حرية، وأول بنك وطني، وحزب وطني، وحزب شيوعي، وأول شركة طيران. كان ميم يوسف قادرًا على جعل بداية كل الأشياء العظيمة من سوريا، وهو برأيه ما يبرر هجوم الكون عليها، لكنه بالتأكيد لم يجد فيها أول عصابة على شكل دولة تموّل نفسها بتجارة “الكبتاجون”، ولا أول استخدام للبراميل على شكل أسلحة فتاكة، ولا أول قصف بالسلاح الكيماوي من قبل دولة تستهدف مواطنيها المدنيين، أمام كل هذا السوء يتحول الكاتب إلى شجرة حرفيًا، شجرة رغم صمتها، إلا أنها قادرة بين حين وآخر على معاتبة المسؤولين على تقصيرهم، ودعوتهم للشراكة مع المواطن في بناء الوطن المجيد. أيّ جذور تملك هذه الشجرة وأي ثمار تمنح؟




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة