الباحثة رغداء زيدان تتحدث لعنب بلدي عن "دوائر الخوف" والطائفية في سوريا

 سوريا خريطة مصالح مذهبية وسياسية

camera iconالباحثة الأكاديمية السورية في الدراسات الإسلامية رغداء زيدان- (تعديل عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي- صالح ملص

اعتمدت سياسة النظام السوري خلال سنوات حكمه السيطرة على المجتمع عمومًا بأساليب مختلفة، أهمها تفريق الناس عن بعضهم، من خلال ترسيخ التقسيمات الإدارية لدعائم الدولة الأمنية في سوريا.

ومع التغيرات الاقتصادية والسياسية، نتيجة النزاع المستمر في سوريا خلال 11 عامًا، أخذت تظهر معالم مشكلات الحقوق العقارية، جرّاء تهجير حوالي 12 مليون سوري (داخليًا وخارجيًا)، وتدمير مدن بأكملها، تبعتها ظواهر اجتماعية طفت على سطح أزمات الناس.

تلك الظواهر الاجتماعية كانت قد نمت تدريجيًا في الماضي داخل المجتمع بسوء نية السلطة الحاكمة، بسبب عدة عوامل، من أبرزها ترتيب المدن السورية من قبل النظام بطريقة تمنحه السيطرة على البلد ككل من ناحية أمنية، ضمن سياسة “فرّق تسد”.

سوريا كخريطة لمصالح السلطة

“أنشأ النظام بعض المحافظات السورية على أساس طائفي لخدمة مصالحه، مثل محافظة طرطوس، التي أحدثها من محافظة اللاذقية، وكان هدفه فيها إرضاء بعض الأسر العلوية، التي لم تأخذ نصيبها من الحكم”، هذا ما قالته الباحثة الأكاديمية بقضايا حقوق الملكية العقارية في سوريا رغداء زيدان، في حديث إلى عنب بلدي.

وتتميز التركيبة السكانية في سوريا بتنوّع الأصول الدينية والعرقية، ويشكّل المسلمون السنة الذين يتحدثون العربية أغلبية كمية، أما المجموعات المتبقية فتصنف كأقليات عرقية أو دينية.

ومن أكبر الأقليات الدينية العلويون، الذين يقطنون محافظة اللاذقية، شمال غربي سوريا، حيث يشكّلون الأغلبية المحلية هناك، مسقط رأس الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، يعمل معظمهم في قطاع الزراعة، ممثلين بذلك الأغلبية الساحقة من سكان اللاذقية الريفيين.

من خلال انقلاب 8 من آذار عام 1963، استطاع حافظ الأسد ورفاقه البعثيون الوصول إلى الحكم في سوريا، وفي عام 1970، نفذ الأسد ما أسماه “الحركة التصحيحية”، وثبّت سلطته في الحكم.

وحتى عام 1966، كانت محافظة اللاذقية تشير إلى وحدة إدارية ذات حدود واضحة، لكن في ذلك العام، تشكّلت محافظة طرطوس الجديدة، بموجب المرسوم التشريعي رقم “100“، منبثقة عن اللاذقية، تتألف من: طرطوس، وبانياس، وصافيتا، ثم توسعت حدودها فيما بعد.

ومع تغيرات عدة على خريطة سوريا وتقسيماتها الإدارية، صارت هناك 14 محافظة مقسمة إلى عدد من المناطق والنواحي.

وبحسب ما أوضحته الباحثة، فإن زيادة عدد السكان شكّلت “دافعًا لإحداث محافظات جديدة في سوريا، لكن لم تكن المراسيم الصادرة تترافق مع خطط تنموية فعالة”.

تنمية الخدمات الإدارية لم تكن متوازنة بين الريف والمدينة في سوريا، لأن التنمية كانت متمركزة بشكل رئيس في المدينة دون الريف، بالتحديد في أكبر مدينتين، دمشق وحلب، ما أدى إلى طرد ريفي وجذب مدني.

“إسوارة” دمشق

أهمل النظام معظم المناطق السورية مركزًا على دمشق وحلب، “من أجل سهولة السيطرة على السكان والتحكم بحياتهم”، وفق ما تراه الباحثة، و”أطلق على بقية المدن تسمية (المناطق النامية)، التي تعني بمفهوم (البعث) أنها منطقة موارد أولية، لكنها لا تستحق أن تقدم لها الخدمات المطلوبة، ويمكن السيطرة على سكانها بسهولة”.

كانت لهذه السياسة الإدارية تبعات عدة، حيث تشكّلت مع مرور الوقت “إسوارة” (سوار) حول العاصمة دمشق، بحسب تعبير الباحثة، صارت بعد ذلك تلك “الإسوارة” محافظة جديدة، أُطلق عليها ريف دمشق، حيث معظم مناطقها مهملة بعيدة عن التنمية، شهدت تزايدًا في قطاع السكن العشوائي، ولا يوجد أي استقرار قانوني لوضع البيوت فيها، التي بُنيت بإمكانيات الأهالي الخاصة.

بسبب المعيشة الريفية الصعبة، وترويج النظام على امتداد سنوات حكمه للتنمية في دمشق، ولتحسين دخل أهالي بقية المحافظات المهملة، شهدت المناطق المتاخمة للعاصمة حركة هجرة ريفية من جميع المناطق السورية، لعوامل عدة، أبرزها المحفزات الاقتصادية، وتضاؤل فرص العمل وندرة المرافق في بقية المحافظات.

بينما تشير الأرقام إلى وجود أكثر من 30 منطقة عمرانية مخالفة في دمشق وريفها، يلاحَظ أن سكانها متعددو المنابت الدينية (مسلمون ومسيحيون)، والمذهبية (سنة وعلويون ودروز)، والقومية (عرب وأكراد وتركمان وغيرهم).

لكن وسط هذا تتلون كثير من المناطق بألوان طائفية غالبة، حيث يتركز المسيحيون في عشوائيتي “الدويلعة” و”الطبالة”، والعلويون في “مزة 86″ و”عش الورور” و”حي الورود”.

في حين تتركز الأغلبية السنية في منطقة مخالفات مثل “جوبر” و”برزة البلد” و”بساتين المزة”، وصولًا إلى “كفرسوسة اللوان”، و”الدحاديل”، و”مخيم اليرموك”، و”نهر عيشة”، و”القدم”، و”دف الشوك”، و”الزهور”.

ولعبت الأسباب السياسية دورًا في الهجرة إلى تلك المناطق، بفعل نزوح الآلاف من سكان هضبة الجولان السوري المحتل عام 1967، بالإضافة إلى المهجرين الفلسطينيين واستقرارهم لفترة زمنية طويلة داخل المناطق غير المنظمة من قبل الدولة.

كان هدف النظام من هذه الخطوات “تهميش سكان تلك المناطق، والتفافهم ضمن دوائرهم الضيقة”، كونهم لا يملكون روابط مجتمعية بين بعضهم، “يجعلهم ذلك منفصلين أكثر عن بقية مكوّنات الشعب، بحيث يشعر السوري بأن هذا الوطن ليس وطنه، وعندما لا يشعر بذلك، يرتد للطائفة وللعشيرة وللعائلة”.

في حالة عدم توفر الخدمات المناسبة لمنطقة ما، يميل الأهالي إلى الاكتفاء بما لديهم من مرافق، يعني ذلك عدم الحاجة إلى التواصل مع الفئات المجتمعية الأخرى، والقوقعة ضمن المنطقة نفسها.

من وجهة نظر المبعوث الهولندي السابق إلى سوريا، نيكولاس فان دام، في كتابه “الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة”، فإن نظام “المجتمع المغلق” نتجت عنه “حساسية جماعية مرضية”، تجعل أي تحرك لفئة مجتمعية مجاورة يبدو وكأنه خطر محقق، أو تحدٍّ لفئة مجتمعية أخرى، فيتكوّن توحيد كل فئة مجتمعية بالكامل على حدة أمام أدنى هجوم أو تعدٍّ يُرتكب ضد أي من أعضائها.

والطائفية تعني التصرف أو التسبب في القيام بعمل بدافع الانتماء إلى مجموعة دينية معيّنة، أما الإقليمية فتعني التصرف أو التسبب في القيام بعمل بدافع الانتماء إلى أصل إقليمي معيّن، والعشائرية هي كذلك بدافع الانتماء إلى عشيرة أو عائلة معيّنة، وفق كتاب المبعوث الهولندي السابق.

أخذ النظام من هذه التكتلات المجتمعية المهمشة المنتفعين منها، كي “يضعهم ضمن مؤسساته كأدوات لحكمه، ليُظهر صورة دعائية بأنه يوزّع المناصب على جميع مكوّنات المجتمع”، وفق ما أوضحته الباحثة رغداء زيدان.

وفي أثناء الثورة بدأ النظام بقصف وتهجير أهالي تلك المناطق، كونهم “لا يملكون روابط قوية بين بعضهم، ولا حتى سندًا يحميهم في حال الاعتداء عليهم”.

تعميق الخوف أكثر

لم يتم تشويه المجتمع السوري نتيجة تطور الاحتجاجات السورية عام 2011 من الطور السلمي إلى الطور المسلح، وإنما قد سبق تشويه روابطه أصلًا على امتداد سنوات وجود حزب “البعث” في السلطة، فـ”مستوى المناطقية عالٍ بين السوريين منذ زمن”، وفق ما تراه الباحثة زيدان.

نشأت هذه المناطقية نتيجة نظرة ضيقة للسوريين تجاه بعضهم، وخلق الأفكار النمطية المرتبطة بمدن ومناطق بذاتها، من خلال الممارسات والتعاملات اليومية، عززها النظام بعدم اعتنائه بتقريب الناس من بعضهم في المناطق النامية والمدن والأرياف، من خلال عدم اكتراثه بحال معيشتهم والخدمات التي يحتاجون إليها داخل أماكن سكنهم.

هذا الإهمال الخدمي أبرز سرديات مجتمعية، صارت مع مرور الوقت المنطق السائد بين سوريين لتدبير أمرهم، كونهم لا يملكون مرجعًا وطنيًا يثقون به لمعالجة مشكلاتهم، من وجهة نظر الباحثة زيدان.

“مثلًا، صار الاحتيال على القانون، والكذب، والنفاق، وتمسيح الجوخ شطارة لدى العديد من السوريين”، قالت الباحثة، مضيفة، “هم لا يثقون بأي قانون أو مرسوم من نتاج السلطة التي تستخدم التشريع لقمع الشعب أكثر، بدلًا من حماية كرامتهم من خلاله”.

هذا الخوف من الآخر رسّخ سلوكيات اجتماعية بين السوريين، صاروا حذرين من كل ما يصدر عنهم من فعل أو قول، اتقاء للوشايات والضغائن، هم دائمًا في موقف ضعيف أمنيًا ضمن حياة مغلقة، ينتظرون مستقبلًا غامضًا.

استمرت هذه الظاهرة خلال أزمات نزوح السوريين من مناطقهم الأصلية، بمساكنها الواسعة، المملوكة لهم، والأقارب المتنوعين، والجيران الذين يعرفونهم أبًا عن جد، وهذا ما كان يبعث الشعور بالأمان الاجتماعي، وينفي الإحساس بالغربة.

ولكن التهجير أفقدهم كل ذلك، فقد اضطروا للسكن في بيوت صغيرة، تنقصها الخدمات، ولا يعرفون جيرانهم، ويُنظر إليهم على أنهم غرباء، وهو ما أثّر على الشعور بالأمان، فالغطاء الاجتماعي الذي كان يظلهم فُقد، وهم اليوم أمام واقع جديد عليهم التأقلم معه.

الفضاء العام غائب

وجدت دوائر الخوف لدى السوريين طريقها في الانتشار أكثر بالمجتمع السوري، بالتزامن مع عدم وجود فضاء عام يملكونه، وفق الباحثة زيدان.

ومن المفترض أن يبنى الفضاء العام في البلاد على الفعل التواصلي بين أفراد المجتمع، الذين يتناقشون ويتحاورون حول القضايا المشتركة بينهم، يغربلونها وينتقدونها، وهو ما يسهم في تشكيل القيم المدنية، أهمها التماسك الاجتماعي والاعتراف بالآخر.

مع تولي السلطة من قبل رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بدأ حراك مدني منتقد لسياسة الحكم، عُرف باسم “ربيع دمشق“، بين عامي 2000 و2001، شهدت سوريا فيه ازدهارًا في التعبير والتجمع والعمل السياسي الغائب منذ ستينيات القرن الماضي.

لكن سرعان ما أغلقت السلطة المنتديات الثقافية والاجتماعية التي تكوّنت خلال “ربيع دمشق”، أبرزها “منتدى الحوار الوطني”، و”منتدى جمال الأتاسي”.

وفي آخر شارع “العابد” الشهير بدمشق، من جهة شارع بوابة الصالحية، يوجد مقهى “الروضة”، وهو أشهر المقاهي الدمشقية، الذي أُقيم عام 1938، كان قبل الثورة ملتقى للمثقفين السوريين، من كتّاب، وإعلاميين، وفنانين، وباحثين، وبعض رموز المعارضة أحيانًا، حيث كان “برلمانًا من نوع آخر” للمجتمع، بحسب مقال منشور في جريدة “الحياة” عام 2011.

صُبغ مقهى “الروضة” بملامح نخبوية مثقفة، وكان بمنزلة فسحة بسيطة للتعبير عن الأفكار والمشاعر، وسط شلل في الحياة الحزبية والسياسية، ومنع السوريين من الانخراط في أعمال نقابية معارضة للحكومة.

لكن من وجهة نظر الباحثة زيدان، فإن “الفضاء العام ليس نخبويًا”، فمقهى “الروضة” هو “مكان يجتمع فيه أشخاص يملكون آراء متشابهة، وتتم مناقشة مواضيع ثقافية بعيدة نسبيًا عن الواقع المعاش، لا يخرج منها أي مبادرات عملية وحقيقية، لحل قضايا تمس الأفراد على اختلافاتهم الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية”، فالفضاء العام ينشأ وفق الحاجة والمصلحة، وهذه المصلحة متغيرة ومتعددة وفق المتاح والممكن.

مجتمع منهك بالخوف

يتوزع عناصر من الجيش ضمن مناطق مدنية في سوريا، يقطنون فيها داخل ثكنات عسكرية دائمة، هذا الأمر كانت له أيضًا وظيفة لتفكيك المجتمع، بحسب الباحثة زيدان، فالمناطق التي كانت فيها قطعات الجيش ضمن المدن، كانت تسهم في ترويع الناس، حيث لا يستطيعون عمل أي نشاط مدني معارض، كما كان العساكر والضباط يتدخلون في المواضيع التجارية والاجتماعية الخاصة بالناس، فكان أشبه بالحكم العسكري على المنطقة التي كان يسكنها العساكر.

“المزة 86″، هو أشهر نموذج يعكس حديث الباحثة، و”المزة 86” هي تسمية محلية للمنطقة، وأغلب قاطنيها من خارج محافظة دمشق، غالبًا من الساحل السوري، وتعد منطقة عشوائية بامتياز، إذ أنشأت الحكومة بيوت العسكريين على أراضي الناس التي تم استملاكها من دون تعويض، وبُنيت عليها مساكن لأفراد الجيش على أساس أنها مؤقتة وظلت باقية حتى اليوم.

نصّ الدستور السوري الصادر عام 2012 على ضمانة حق الملكية، وعمل على ربط نزع الملكية بتحقق شرطين: الأول هو وجود منفعة عامة، والثاني دفع تعويض عادل، إلا أن هذه النصوص لم تتعدَّ الورق الذي كُتبت عليه.

تصف الباحثة زيدان المجتمع السوري بأنه “منهك بالخوف من الآخر”، وإحدى ركائز هذا الخوف هي الطائفية والمناطقية، التي لم تكن تظهر على العلن بشكل مباشر قبل 2011، إنما نبتت في أرض الماضي الذي صنعه النظام في سوريا منذ توليه السلطة على مدار أكثر من نصف قرن.

وبحسب الباحثة، أعاد “البعث” طوال سنوات حكمه صياغة علاقات السوريين ببعضهم، من خلال إهمال خدمتهم وخدمة مدنهم، ولم يكن يتسع خلال تلك الفترة سوى مساحة الظلم، في مقابل تقلّص مساحات الأحلام والحب والحياة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة