كيف تعاملت وسائل الإعلام مع المعتقلين المفرَج عنهم في المرسوم “7”

camera iconوقفة تضامنية لعائلات المعتقلين في سوريا عند بوابة برلين في العاصمة الألمانية تزامنًا مع مرسوم "العفو" الصادر عن النظام السوري- 8 من أيار 2022 (عائلات من أجل الحرية)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – أمل رنتيسي

“يكتب الصحفيون ليرووا قصة، ويمكن أن تكون قصص الناجين من الأحداث الصادمة قوية ومؤثرة، ومع ذلك، لا ينبغي أن يصبح نشر مقال أكثر أهمية من رفاهية الناجين أنفسهم، وهذا يعني أن يأخذ الصحفيون الصحة النفسية لمصادرهم على محمل الجد، وألا يستخدموا قصصهم لمجرد الحصول على مكاسب ثانوية أو زيادة المشاركة”.

هكذا تقدم “شبكة الصحفيين الدوليين” (IJNet) مقالًا بعنوان “نصيحة في الإبلاغ الصحفي الأخلاقي في حالات الصدمة” عما يجب مراعاته في أثناء التعامل مع مصادر تعرّضت لصدمة عاطفية ونفسية شديدة، والتي يمكن اعتبارها مهمة صعبة لأي صحفي في سياق تحريه الدقة والاحترافية في العمل.

ولم تغب القصص الصادمة والمؤثرة، في ظل ندرة المعلومات الدقيقة وصعوبة التأكد منها والتحري عنها، عن مشهد إطلاق سراح المعتقلين في سوريا بعد “عفو عام” عن “الجرائم الإرهابية” بموجب المرسوم التشريعي رقم “7”، الذي أصدره رئيس النظام في 30 من نيسان الماضي، اتسمت بعدها عمليات الإفراج بفوضى وعشوائية زادت أضعافًا بتغطية إعلامية رأت في الحدث استغلالًا لا يمكن تجاهله.

التغطية الإعلامية التي شملت منصات التواصل الاجتماعي من قبل مؤسسات الإعلام السورية البديلة والمحلية، تم خلالها تداول قوائم غير دقيقة للمعتقلين لعدم نشر النظام السوري أي تفاصيل في البداية، إضافة إلى نشر قصص وشهادات مفبركة لتحقيق الإثارة، ما ميّع القضية الأساسية لمصلحة قصص جاذبة.

ومن جهة أخرى، ركّزت وسائل إعلام النظام السوري على لقاءات المفرَج عنهم وذويهم، في ابتزاز واضح يتضمّن تمجيدًا وشكرًا للسجان الذي “أعفى” عنهم، في انتهاك واضح للمعايير الإعلامية المهنية التي تتضمّن تعاملًا خاصًا ومراعاة لمن قضى سنوات من حياته في السجون السيئة السمعة.

تناقش عنب بلدي في هذا التقرير مع خبراء إعلاميين كيف تم الاستغلال الإعلامي للمعتقلين المفرَج عنهم بـ”العفو” الأخير، الذي وثقت فيه “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الإفراج عن 419 شخصًا، وكيفية تحديد وتوضيح المعايير الصحفية الأخلاقية التي كان يجب أن تتبعها مؤسسات الإعلام البديلة في هذه القضية، والتوصيات المهنية فيما يتعلق بالجانب الربحي من النشر على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تسليط الضوء على الترويج الذي اتبعته وسائل إعلام النظام.

السعي إلى الربحية يحتّم أسلوب “الإثارة”

تتعمّد بعض وسائل الإعلام نشر محتوى جاذب يشد الجمهور لزيادة عدد المشاهدات، إن كان مقطعًا مصوّرًا، أو لزيادة عدد “النقرات” للدخول إلى روابط المواقع الإلكترونية، لتحقيق ربح عبر المنصات في فضاء الإنترنت، وهو أمر ليس سيئًا بالضرورة، إلا أن هذه الممارسات لا بد أن تؤطر بمهنية وتراعي الأخلاقيات الصحفية.

عضو لجنة الشكاوى في “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين”، التي تضم 21 مؤسسة إعلامية سورية مستقلة، الصحفي أحمد مراد، قال لعنب بلدي، إن وظيفة الإعلام تحولت من صانع للخبر إلى مجرد ناقل، ففي سياق غياب المهنية عن عدد من المؤسسات الإعلامية في نشر قوائم المعتقلين، تعتمد هذه الوسائل على القص واللصق دون التأكد من المحتوى.

فالنقل هنا لا يتم عبر الوسيلة ذاتها، وإنما من مصادر غير دقيقة دون التحقق من مصداقية الأخبار من عدمها، وفق مراد، مضيفًا أنه لا يمكن إنكار انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم وعي مستخدمي هذه الوسائل بأهمية التحقق من صحة ومصداقية ومصدر المعلومات باعتبارها مصادر مفتوحة.

وصار تحقيق الإثارة أحد أوجه الضعف في الإعلام السوري بشكل عام، إذ تحول التعاطي مع أي قضية لمسألة ربحية نظرًا إلى توقف الدعم المادي عن معظم الوسائل الإعلامية، وعدم توفر مصادر بديلة للتمويل، إضافة إلى ما أتاحته وسائل التواصل من مقابل مادي لوجود الإعلانات في المحتوى البصري، فأصبحت عناوين المواد والمحتويات أقرب منها إلى “الصحافة الصفراء” أو “صحافة الكراجات”، حسب وصف مراد.

وأشار الصحفي في حديثه لعنب بلدي إلى ضعف التركيز على أن تكون هذه الصحافة ملتزمة بالقضية التي أُنشئت لأجلها، أو بمراعاة حساسية قضية المعتقلين على وجه التحديد، معتبرًا أن انتشار القوائم أو الأخبار المضلّلة، أو إنتاج مواد إعلامية تحمل طابع “الإثارة” من أجل تحقيق القراءات، هي انتهاكات بحق الناجين والناجيات، وبحق ذوي المختفين قسرًا، ولا تقل من حيث المبدأ عن الانتهاكات والابتزاز الذي يتعرضون له من قوات النظام ومحاكمه وأفرعه الأمنية.

وفي سياق السعي الربحي، قال الصحفي السوري نضال معلوف، إن اعتماد أسلوب “الإثارة” و”الصحافة الصفراء” والدخول في “التريند”، وتجاوز أخلاقيات العمل الصحفي بشكل عام الذي تتبعه بعض المؤسسات، يحقّق لها فائدة، لكن بشكل مؤقت وقصير المدى، إذ تفقد هذه الوسائل من مصداقيتها في المدى الطويل، ويصبح لها جمهور محدد غير مجدٍ.

وأوضح معلوف لعنب بلدي أن المكاسب هي آنية فقط، إذ يوجد العديد من الحسابات أو القنوات على “يوتيوب” لوسائل إعلام إخبارية لديها مئات آلاف من المشتركين، لاستخدامها “الإثارة” في حدث معيّن، إلا أنه بعد فترة من الزمن يصبح التفاعل عليها قليلًا وغير متناسب مع عدد الاشتراكات الكبيرة بالقناة، وبالتالي خسارة مادية.

ونصح معلوف بالتزام الأخلاقيات المهنية في العمل الإعلامي، لأنها تحقق استدامة أكبر في الموضوع الربحي وكسب الجمهور.

إتاحة الفرصة لتجار القضية

بدوره، الباحث الحقوقي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد منير الفقير، يرى أن النشر غير المسؤول، سواء للقوائم أو القصص المفبركة، لا يسهم فقط في “تمييع” قضية المعتقلين، بل أيضًا بالإيقاع بأهالي المعتقلين ضحية لشبكات الابتزاز والنصب والاحتيال.

وحذر الفقير، في حديث إلى عنب بلدي، من تجار القضايا والسماسرة الذين يعملون مع الأمن ويتاجرون بعواطف الأهالي، فعند نشر الجهات الإعلامية قوائم من المُفترض أنها صحيحة، فإنها تعيد إحياء أمل زائف لدى أهالي المعتقلين، ما يجعلهم عُرضة لشبكات النصب والاحتيال.

ونصح الفقير بوجوب التحقق والتواصل المباشر والتنسيق بين الجهات الإعلامية والحقوقية، وعدم استخدام قضية المختفين قسرًا كمادة للظهور الإعلامي، إضافة إلى أن نشر القوائم التي تتضمّن أعدادًا كبيرة تعطي انطباعًا أمام المجتمع الدولي والعالم أن النظام السوري “لم يترك أحدًا إلا وأخرجه”، حسب قول الحقوقي.

وتابع، “هذا يميّع القضية بشكل واضح، ويجعلها ملفًا مبتذلًا عاديًا (…)، ويفقد الأشخاص الثقة بهذه القضية بشكل كامل”.

الفقير وبوصفه المنسق في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، قال إن باب الرابطة مفتوح أمام الجهات الإعلامية والجمهور وأهالي المعتقلين، لتقديم النصيحة دون مقابل، وتقديم المساعدة لتتكامل الجهود.

وسبق أن أصدرت الرابطة توضيحًا فور صدور “العفو”، يتضمّن توخي الحذر وعدم تصديق قوائم الأسماء التي تنتشر على وسائل التواصل.

ويمكن التواصل مع الرابطة إما مباشرة من خلال موقعها الرسمي، عبر ملء نموذج يتضمّن الاسم والبريد الإلكتروني والرسالة المُراد توجيهها إلى الرابطة، وإما عبر رقم الهاتف 00905379365974 أو البريد الإلكتروني [email protected]، وإما عبر صفحتها على “فيس بوك“.

كيف تُحدد معايير النشر في قضية المعتقلين

“ميثاق شرف للإعلاميين السوريين” حدد في مواده “الموجبات الأخلاقية للإعلامي” التي من ضمنها تحري الحقيقة والنزاهة المهنية، واحترام الخصوصية، وعدم إلحاق الضرر بالأفراد أو المؤسسات جراء النشر الصحفي، واحترام رغبتهم أو رغبة ذويهم.

وهو ما شرحه الصحفي أحمد مراد، لعنب بلدي، إذ تتحدد المعايير عبر التحقق من المعلومة، ووضع إطار أخلاقي للنشر، والتعاون بين المؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة بقضايا المعتقلين.

كما أكد مراد أن روابط الضحايا والجمعيات الممثلة للمعتقلين لديها آليات توثيق وفق مواصفات حقوقية دولية، وتتعاون مع جهات دولية في سبيل الوصول إلى معلومات دقيقة، إضافة إلى مسؤولية وسائل الإعلام عن تدريب الصحفيين على أخلاقيات العمل الإعلامي، والصفات المهنية التي يتمتع بها الصحفيون حين تدريبهم على التحرير، “وهذا يؤدي إلى نقل هذه الوسائل من عبء على القضايا التي تمثّلها إلى وسائل مهنية تصبح مصادر للمعلومات، وتضمن الوصول إلى الجمهور دون الحاجة إلى اتباع أساليب الصحافة الصفراء”، بحسب ما قاله الصحفي أحمد مراد.

وحول التوصيات المهنية في القضايا الحساسة، كقضية الإفراج عن المعتقلين، عندما يتعلق الأمر بالجانب الربحي من النشر على منصات التواصل الاجتماعي، قال مراد، إن وسائل التواصل أتاحت الوصول إلى ميزات تتعلق بالإعلانات الممولة عبر المواد الصحفية، معتبرًا أن هذه الفرصة يجب أن تشكّل حافزًا للوسائل الإعلامية لتطوير كوادرها، والعمل على الجانب المهني من الصحفيين، وإنتاج محتوى يتناول أي حدث من أبعاده المختلفة، مع مراعاة الجانب الأخلاقي وعدم الإساءة للأشخاص، سواء عبر انتهاك خصوصيتهم، أو نشر أخبار دون الرجوع إلى مصادر والتأكد من مصداقيتها.

إعلام النظام السوري.. جزء من منظومة الانتهاكات

يصف إعلام النظام السوري المعتقلين المفرَج بـ”الموقوفين”، في محاولة للتخفيف من الأثر الكبير والقاسي الذي تشكّله قضية المعتقلين في السجون والأفرع السيئة الصيت على حياة العديد من السوريين، وهو الأمر الذي جعل مشهد تجمّع المواطنين تحت جسر “الرئيس” بدمشق، يعطي طابعًا سيئًا لصورة النظام السوري التي حاول تبييضها عبر لقاءات لاحقة مع شبان لم تمضِ ساعات قليلة على معرفتهم خبر الإفراج بعد سنوات من الاعتقال، لتهرع قناة “الإخبارية السورية”  وتجري مقابلات معهم يحمدون خلالها الله على “العفو من سيادة الرئيس”، في محاولة واضحة لابتزازهم أمام الكاميرا.

هذه المقابلات جاءت عقب غياب التغطية الإعلامية الرسمية في الدفعات الأولى من المعتقلين، وبعد حذف إذاعة “شام إف إم” المحلية، المقربة من النظام السوري، تسجيلًا مصوّرًا كانت قد بثته، في 4 من أيار الحالي، من منطقة جسر “الرئيس”، يُظهر عشرات الأشخاص الذين ينتقدون عشوائية إخراج المعتقلين، ويشتكون طول انتظارهم دون جدوى.

ويرى الصحفي أحمد مراد أن إعلام النظام هو جزء من المنظومة التي ارتكبت انتهاكات بحق السوريين، ولا يقل تأثيره وضحاياه عن الدبابات والطائرات التي قتلت وما زالت تقتل المدنيين، إذ مررنا خلال الثورة بأمثلة كثيرة في طريقة تعاطي الإعلام الرسمي، كما حصل في مجازر الكيماوي ومجزرة داريا والحولة والقبير وحصار الزبداني ومضايا وتهجير حلب وحمص وريف دمشق، في جميع تلك الأحداث كان سكان تلك المناطق من “الإرهابيين”، بحسب ما يصفهم النظام السوري.

هنا تنتفي أي صفة تتعلق بأخلاقيات العمل الإعلامي وحتى “الصحافة الصفراء”، ويمكن أن يوصف بصفة واحدة هي “إعلام الإرهاب”، حسب مراد.

وبالرجوع إلى المقابلات جميعها، فقد كانت تحمّل المعتقلين المسؤولية رغم معرفة السوريين بآليات الاعتقال، وكيف تُوزّع التهم على المعتقلين في المحاكم الاستثنائية التي لا تحمل أي صفة قانونية، كمحاكم الإرهاب أو محكمة الميدان.

وأشار مراد إلى أن “البروباغندا” الحكومية تركّز على مصير من يطالب بالحرية والكرامة، لإرهاب الموجودين في مناطق النظام، بالنظر إلى مصير من اعتُقل، كذلك أن منح حق الحياة هو شأن شخصي يصدره رئيس النظام.

التغطية تحمل عدة أبعاد، أولها أن “العفو” هو “مكرمة” من رأس النظام، وعودة من أفرج عنهم إلى جادة الصواب و”حضن النظام”، وأن المعتقلين أساؤوا لـ”الدولة” وللمجتمع ولأنفسهم، وأن هذا “العفو” يشمل جميع المعتقلين، إلا أنه لا يشمل سوى فئة قليلة فقط منهم، حسب مراد.

ومطلع نيسان الماضي، أصدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تقريرًا يوثّق استمرار النظام السوري في توقيف مئات آلاف المعتقلين دون مذكرة اعتقال لسنوات طويلة، ودون توجيه تُهم، وحظر عليهم توكيل محامٍ والزيارات العائلية، وتحوّل قرابة 68% من إجمالي المعتقلين إلى مختفين قسرًا.

وبلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرًا على يد النظام السوري منذ 2011 حتى أواخر 2021، نحو 131 ألفًا و469 شخصًا من بينهم 3621 طفلًا و8037 امرأة.

وما زالت “الشبكة” تتابع عمليات رصد ومراقبة حالات الإفراج عن المعتقلين على خلفية المرسوم “7” لعام 2022.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة