من يحاسبها؟

أجهزة أمنية تمارس التشهير في الشمال السوري

camera iconامنية حركة "التحرير والبناء" تعتقل شخصين قالت إنهما صورا مقطع فيديو مخلًا بالآداب والاخلاق العامة في مدينة الباب (صفحة "أخبار اعزاز" في فيسبوك)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسن إبراهيم

بلباس داخلي، حليقي الشعر، مطأطئي رأسيهما، أنظارهما نحو الأرض، ظهر شابان كُتب على راية خلفهما “حركة التحرير والبناء”، وهما يعتذران بعد الإدلاء باسمهما الثلاثي، عن “الإساءة” لنشرهما تسجيلًا مصوّرًا لهما في مدينة الباب، بريف حلب الشرقي، في أيار الحالي.

جاء اعتذار الشابين بعد أن أُلقي القبض عليهما من قبل أحد أجهزة الأمن التابعة لفصيل معارض في ريف حلب.

تنشط في مناطق شمال غربي سوريا عدة أجهزة أمنية بأسماء عديدة تتبع لفصائل المعارضة، تعلن بشكل دوري عن عمليات كإحباط أو ضبط تهريب حبوب مخدرة، أو القبض على أفراد خلايا اغتيال أو تعامل مع النظام السوري أو غيرها.

أجهزة الأمن تُحاسب إعلاميًا

تنشر الأجهزة الأمنية صورًا وتسجيلات مصوّرة عن عملياتها الأمنية، يظهر بعض المتهمين أو مرتكبي المخالفات فيها بصورة واضحة دون إخفاء التفاصيل، ما يعتبر تشهيرًا ووصمة تلاحقهم طوال حياتهم، بصرف النظر عما إذا كانوا مذنبين أم لا.

واحتوى تسجيل الشابين اللذين اعتقلتهما بسببه “أمنية حركة التحرير والبناء”، المنضوية تحت راية “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، طلبهما قدوم البنات إلى حديقة ومدينة ملاهي “المرح” في مدينة الباب، ونشراه على تطبيق “تيك توك”.

الأمر لا يقتصر على المعرفات الرسمية لهذه الأجهزة الأمنية، إذ يوجد العديد من المنصات والشبكات المحلية أو المعرفات المقربة من هذه الأجهزة، مهمتها نشر الصور والتسجيلات المصوّرة للمتهمين مع الكثير من الثناء على أجهزة الأمن التي أسهمت في “حفظ الأمن بالمحرر”، ما يسمح لهذه الصور والتسجيلات بالوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص والأهالي.

وفي مشهد آخر وبعيون امتلأت بالدموع، ووجوه فيها ملامح البراءة، ظهر ثلاثة أطفال أمام عدسة الكاميرا، يحملون علب السجائر تحت ملابسهم، في 30 من أيلول 2021، احتجزتهم “أمنية هيئة تحرير الشام”، في أثناء محاولتهم نقل علب سجائر تحت ملابسهم من مناطق سيطرة “الجيش الوطني” في ريف حلب إلى مناطق نفوذ “الهيئة” في إدلب.

ورغم أن “تحرير الشام” احتجزت الأطفال وأفرجت عنهم في اليوم ذاته، فإن الحادثة أثارت غضبًا واسعًا في الشمال السوري، وظهرت انتقادات عديدة طالت “الهيئة” وجهازها الأمني، لتوقيف الأطفال ونشر صورتهم بهذه الطريقة، كما أدانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” احتجاز “الهيئة” للأطفال الثلاثة وتصويرهم بطريقة “مهينة”، عدا عن كونهم أطفالًا لا يجب معاملتهم كمعاملة “المجرمين”.

انتهاك للخصوصية وأضرار لا تُشفى

مدير “المركز السوري للحريات الصحفية”، إبراهيم حسين، أوضح لعنب بلدي أن نشر صور أي إنسان دون إذنه يعتبر اعتداء على خصوصيته، فكيف إن كان النشر بطريقة مهينة مترافقة بالحكم والإدانة من جهة لا تملك هذا الحق.

وأضاف حسين أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي مبرم، وهذا يعني أن القضاء هو الجهة الوحيدة التي تملك معاقبة الأشخاص الذين يخالفون القانون، ويرتب عليهم العقوبات المناسبة.

وعلى الصعيد الإعلامي، قال مدير “المركز السوري للحريات الصحفية”، إن مواثيق الشرف تفرض على المؤسسات الإعلامية أن تراعي خصوصية وكرامة الإنسان، وألا تنشر أسماء وصور المتهمين قبل صدور حكم مبرم بحقهم، وبمطلق الأحوال، لا يجوز نشر صور مهينة للبشر تمس كراماتهم، حتى لو كانوا مرتكبي مخالفات قانونية، لأن كل جرم يقابله عقاب يحدده القانون.

ويرى مدير “المركز السوري للحريات الصحفية”، أن التشدد في هذا المنع أمر مطلوب لسببين إضافيين، الأول ألا تُستخدم وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام كأدوات للانتقام ممن يبدي آراء معارضة لسلطات الأمر الواقع، ما يحد من حرية التعبير.

والسبب الثاني لمنع مثل هذه السلوكيات، بحسب حسين، هو أن النشر لا يسبب الإساءة إلى من تنشر صورته فقط بل أيضًا لأسرته، وتسبب لهم ضررًا قد لا يُجبر، حتى لو تبيّن لاحقًا أن الشخص بريء مما أُسند إليه.

في كانون الثاني الماضي، انتشرت صورة لعنصر ملثّم في “جهاز الأمن العام” الذي ينشط في إدلب، يقف بجانب شاب أُلقي القبض عليه عقب نشره تسجيلًا مصوّرًا في أثناء قيادته للسيارة، تحدّث خلاله بألفاظ مسيئة طالت فتيات في الشارع بمدينة سلقين، شمال غربي إدلب.

وبحسب رصد عنب بلدي، انتشرت الصورة على نطاق واسع، وترافقت مع كلمات مسيئة وألفاظ نابية، طالت الشاب وعائلته وحتى قريته، كما نشرت معرفات مقربة من “هيئة تحرير الشام”، صاحبة النفوذ العسكري في محافظة إدلب، الصورة مرفقة بتسجيل صوتي ساخر من الشاب.

لا محاسبة.. مظاهر تحاكي النظام السوري

أستاذ علم الاجتماع في جامعة “دمشق” سابقًا، والباحث في مركز “حرمون للدراسات” الدكتور طلال مصطفى، قال لعنب بلدي، إن سلوك بعض أجهزة الأمن بمسمياتها المختلفة بمناطق الشمال السوري، غير مقبولة في بعض التصرفات المهينة، وحتى في طريقة الاعتقال وعملية التحقيق.

ويرى الدكتور مصطفى أن هذه السلوكيات تتماهى مع تصرفات أجهزة الأمن التابعة للنظام السوري، مع غياب امتلاك هذه الأجهزة ثقافة خاصة بالأجهزة الأمنية الخاصة بالدول الديمقراطية التي تحكمها القوانين والدساتير.

وأوضح أستاذ علم الاجتماع، أن فقدان هذه الثقافة، يجعل أجهزة الأمن تتصرف بشكل مماثل كما تصرفت أجهزة النظام السوري معهم سابقًا.

وعزا الدكتور مصطفى أسباب هذه السلوكيات إلى غياب عدة عناصر من حوكمة، وقانون، ومحاسبة، وسلطة، وجهات مساءلة، وهذا أيضًا موجود في مناطق النظام منذ أيام الرئيس السابق، حافظ الأسد، حين غابت محاكمة أجهزة الأمن وتُرك لها العنان للتصرف مع المدنيين كما تشاء.

وأشار الدكتور مصطفى إلى أن مؤسسات المحاسبة لا تسمى مؤسسات عقاب أو سجون، إنما هي مؤسسات إصلاحية اجتماعية نفسية، وهذا الأمر مفقود في مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة الفصائل المعارضة.

قلق دائم ورهبة.. الموقوف إنسان

هذه السلوكيات من أجهزة الأمن ستدفع الناس إلى القول إنهم لم يستفيدوا من الثورة، وربما البعض يتحسر على أيام سيطرة النظام، بعد تصرفات كان يمارسها النظام وأجهزته، أصبحت تمارسها أجهزة الأمن في فصائل المعارضة بوجوه جديدة وأسماء جديدة بنفس السلوك، فالموضوع وجهان لسلوك واحد، بحسب الدكتور مصطفى.

أثر آخر لهذه السلوكيات أضافه الدكتور مصطفى، هو فقد المواطن شعوره بالأمان والاستقرار، أو بوجود مؤسسات تحميه، وعيشه بحالة دائمة من القلق والتوتر والخوف من الاعتقال بأي لحظة دون وجود إذن بالتوقيف، كما عاش وما زال يعيش الناس في مناطق سيطرة النظام.

ونوّه الدكتور مصطفى إلى أن قيام الأشخاص بسلوك معيّن مخالف، أو ارتكاب فعل جنائي، يتطلّب التوقيف لكن بشكل قانوني، بوجود إذن رسمي، ويبقى المتهم إنسانًا يجب التعامل معه ومحاكمته محاكمة عادلة وحتى علاجه في السجون، أو أماكن احتجازه، ومعالجة الأسباب التي دفعته لارتكاب السلوك المخالف، ومن المفترض وجود متخصصين نفسيين واجتماعيين، يعالجون المشكلة، وليس بالتشويه وحلاقة الرؤوس والإهانة أو السخرية.

لا أرضية قانونية

مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، قال لعنب بلدي، إن تعامل الأجهزة الأمنية مع المتهمين والمخالفين عبر وسائل التواصل بهذه الصورة، موضوع خطير وحساس ويؤدي إلى احتقان وعلاقات كراهية في المجتمع.

رفض عبد الغني أن تكون “السوشيال ميديا” (وسائل التواصل الاجتماعي) وسيلة للمحاسبة، فعرض الشخص بهذه الطريقة، واتهامه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون معرفة الأسباب أو الدوافع، مع غياب جميع التفاصيل، لا يعتبر نقد آراء أو حرية رأي، فقط هو “اتهام وإدانة عبر وسائل التواصل الاجتماعي”.

وبحسب رصد عنب بلدي، فإن معظم التسجيلات والصور التي نشرتها أجهزة الأمن في الشمال السوري، تفتقد إلى تفاصيل كثيرة، من بيان لأسباب الاعتقال أو التوقيف، أو مدة محاكمة الشخص في حال صدور حكم قضائي بحقه، أو الأسباب التي دفعته لارتكاب مخالفة أو انتهاك.

واقتصر ظهور عناصر أجهزة الأمن في بعض التسجيلات المصوّرة أو الصور، على وجودهم بلباسهم الميداني وسلاحهم صامتين ملثّمين بجانب المُتهمين.

وعزا عبد الغني ظهور وتكرار هذه الحالات لغياب أرضية المحاسبة القضائية، فالنشر دون إذن الشخص هو انتهاك لحقه، دون معرفة الأبعاد، والناس الذين يشاهدون التسجيلات سينحازون لصاحب النشر، دون معرفة أو سماع وجهة النظر الثانية.

وطرح عبد الغني تساؤلًا حول الجهة التي يمكن أن يشتكي إليها الشخص ضد ممارسات جهاز الأمن، مؤكدًا ضرورة تطبيق المحاسبة عبر قضاء فعّال، ومتابعة من قبل السلطات القضائية الموجودة في كل منطقة، وأن تكون المحاسبة وفق قانون ودستور واضحَين.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة