“كلارينيت” كنان العظمة.. رحلة إلى البلاد

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

بعد تصفيق صادق حار، غادر الموسيقي وعازف “الكلارينيت” السوري المحترف كنان العظمة مع ثلاثة عازفين (غيتار، بيز، درامز)، ووقف خلف الستارة منتظرًا أن يطلب منه الجمهور العودة، فرجع إثرَ استمرار التصفيق، وعادة يطلب الجمهور تمديد المقطوعة الأخيرة في برنامج الحفل، في أمسيات دافئة كتلك التي جمعته مع جمهور متعدد اللغات في اسطنبول. عاد ليقول إنه كان يسترق النظر من خلف الستار منتظرًا تمديد اللقاء، عاد بمقطوعة “درعا”. وليس كل عمل فني حمل اسم هذه المدينة ذات الخصوصية في الذاكرة السورية بعد 2011 قادرًا على تجديد هذه الذاكرة. “ميلودي” المقطوعة كان متراكبًا علوًّا وهبوطًا بملامح الهتافات الأولى، وقادرًا على بث روح تراكم فوقها الغبار واليأس والملل، بعد تبديد جمال الهتافات بجحيم الطائرات الحربية والبراميل.

عند حضور حفل لموسيقي سوري قضى الجزء الأكبر من حياته في الخارج، درس الموسيقا الغربية، وبات مؤلفًا في “الجاز”، لن تنتظر منه أن تكون كل مقطوعاته مرتبطة ببلد منشئه، ممزوجة بذاكرة بريئة غير مصطنعة. ستقول بكل منطقيّة إن تجربته خارج سوريا أكثر غنى وتنوّعًا وقدرة على التأثير الجذري في منتجه الفني، لكن كان لكل مقطوعة مما قدمه في سياق فعاليات مهرجان الموسيقا في اسطنبول (قاعة الفنون الجميلة بجامعة معمار سنان) قصة من طفولته في دمشق، تلقّف مفردتها من ذاكرته، من أشجار الغوطة إلى ثمارها التي تباع بأغانٍ يبتكرها الباعة. قاد هذه الحكايات إلى آلة غربية أتقن النفخ فيها منذ سنين طويلة، فجاءت كتركيبة فنية صعبة القراءة، لا تشي للمستمع بارتباطها بتفاصيل القصة التي حكاها. لكن تلك العلاقة بين القصة والمقطوعة، مرهونة بترجمة المؤلّف للذاكرة على أوراق النوتة. ليس مطلوبًا بعدها منك أن تتخيّل الحكاية وأنت تستمع، يمكنك ببساطة اختلاق حكايتك كما تشاء، وخلق تناسب بينها وبين ما يقدّم العازف المصرّ مرارًا على ربط مقطوعاته ببلاده.

قبل سنوات، قبل أن يحصل على الجنسية الأمريكية، أُجبر حاملًا جوازه السوري على خوض تدقيق إضافي في أوراقه، داخلًا إلى بلد إقامته الولايات المتحدة. في انتظار التدقيق جلس في غرفة مدّة ست ساعات، غرفة مليئة بحملة تلك الجوازات التعيسة، منهم سودانيون وأفغانيون وسوريون ويمنيون وسواهم. لا شيء يمكن أن تقوم به في جلسة الانتظار تلك سوى النظر في عيني شريكك في الانتظار، متخيلًا صوت غناء يبدؤه أحدهم فيكمل البقية الغناء بصوت يرتفع رويدًا رويدًا ليملأ المطار. تلك كانت قصة معزوفة “مطارات”، ذروة ما وصل إليه في حفله، وعلّها ذروة ما قدّمه في تجربته الفنيّة العصاميّة، التي قضى فيها سنين طويلة ينظّم أمسياته ومشاركاته الموسيقية بجهده الشخصي، منتظرًا في المطارات وعلى أبواب السفارات الحصول على “فيزا” لمواطن سوري مقيم في الخارج، علَّ كل سوري يحمل الجواز اللعين يستطيع إكمال تلك الحكاية.

فنيًّا لا يختلف مسعى العظمة عن مسعى عشرات من الموسيقيين العرب الذين يسعون لاحتراف “الجاز”، وتكوين هويّة خاصة بمؤلّفاتهم، تراوحت قدرتهم على الظهور والتأثير، من أنور إبراهيم المتمسّك بالعود كآلة ارتكاز بمؤلفاته في “الجاز”، إلى إبراهيم معلوف عازف “الترومبيت” المحترف، وصولًا إلى كنان العظمة ومجموعة من أولئك الباحثين عن زاوية يمكنهم إدخال القطعة الشرقية المنتظمة في جسد وصلة “الجاز” الخارجة عن قيود الجاهز، فمرة تنجح التجربة وأخرى تظهر مقحَمة، لتبقى العلاقة مرتبكة بين الموسيقا العربية و”الجاز”، وتجربة عدد الفاشلين فيها أضعاف عدد الناجحين.

أمام جمهور لا بد أن نسبة كبيرة منه كانت من الأتراك، في فترة تعتبر من أصعب الفترات التي يمرّ بها اللاجئون السوريون في تركيا، حكى كنان طويلًا عن وضعه كسوري، وعن ذاكرته في البلاد المدمّرة، عن الأحياء التي شكّلت طفولته وهي اليوم محاصرة بالمقابر الجماعية. حكى ذلك بلغة علَّ لها مكانًا في قلوب من حضروا وهم بالمئات لا العشرات، لغة أجمل ما كان فيها أنها موسيقيّة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة