من دور الإيواء إلى العالم الخارجي..

كيف يعود الأيتام إلى المجتمع بشكل آمن

camera iconمجموعة من الأيتام في دار "البخاري" لإيواء الأيتام وأمهاتهم في اسطنبول- 19 من تموز 2022(عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي– لجين مراد

في بناء واحد تُتخذ بعض شققه غرفًا دراسية، بينما تُتخذ أخرى بيوتًا لعائلات لا مأوى لها، تعلو أصوات أطفال ينشدون أغاني بشكل جماعي، وسط طقوس مبهجة تظهر تفاصيلها على وجوه جميع الحاضرين.

يتجمع الأطفال معًا بمودة أخوية، يغنون ويتعاون كل منهم ليفوز الآخر، لتغيب اختلافات بيئاتهم وتنوعها، ما يمنح كل حجر من ذلك البناء قيمة البيت الذي يرتبط به الطفل ويترك ذكريات في كل زاوية منه.

يُظهر الأطفال ارتباطهم بذلك المكان، الذي يجمعهم معًا، بينما تغيب عنهم لحظة الوداع المستقبلي.

في إحدى الغرف، يرتفع صوت ضحك الأطفال في أثناء جلسات تجمع الأمهات مع أول سيدة عاشت في الدار لتعلمهن فن “الكروشيه”، كنوع من رد الجميل للدار وأهلها بعد أن استطاعت مغادرتها، بحسب ما قالته فاطمة جراد (55 عامًا)، لعنب بلدي.

وتتبادل الأمهات الحديث، بينما يجلسن أمام طاولة مزدحمة بقطعهن المُحاكة بعناية.

ورغم أن سيناريو مغادرة الدار في عمر أو ظروف معيّنة يعتبر مكررًا، أظهرت الأمهات اللواتي تحدثت إليهن عنب بلدي ضمن الدار خوفهن من احتمالية أن يفقدن المجتمع الصغير.

خلال السنوات الماضية، ظهرت العديد من دور الأيتام السورية في تركيا وشمال غربي سوريا، لحماية الأيتام الذين تزايدت أعدادهم مؤخرًا.

ورغم الحاجة الكبيرة لوجود هذه الدور، يمكن أن يولّد بقاء الأطفال ضمن بيئتها مشكلات حقيقية في حياتهم الشخصية تصل آثارها إلى المجتمع بأكمله.

عنب بلدي التقت مع أطفال وأمهات وعاملين في منظمات ترعى الأيتام، وحاورت اختصاصيين نفسيين مطّلعين على ما يعيشه الأطفال في دور الرعاية، وتحدثوا جميعهم عن آثار سلبية تظهر بشكل واضح في شخصيات الأطفال قبل مغادرتهم تلك الدور وبعدها.

الدار ممر..

المتطوعة في جمعية “الشام لرعاية الأيتام” والمسؤولة عن دار “البخاري”، عالية قصاب باشي، قالت لعنب بلدي، إن دور الإيواء تعتبر ممرًا للأطفال وأمهاتهم، موضحة أن الأطفال الذكور يغادرون الدار عند عمر الـ15 عامًا، بينما تغادر بقية العائلات عندما تصبح قادرة على تأمين حياة كريمة.

ولا تقتصر هذه الإجراءات على الدار التي تعمل بها المتطوعة، إذ تضع جميع الدور السورية وغير السورية حدودًا عمرية لإقامة الذكور فيها، ما اعتبرته قصاب باشي ضروريًا في ظل وجود فتيات شابات وأمهاتهن في الدار نفسها.

وأوضحت قصاب باشي أن وجود شباب في سن البلوغ ضمن تلك البيئة، يمكن أن يسبب حرجًا للطفل نفسه وللنساء والفتيات ضمن الدار.

مجموعة من الأيتام في دار “البخاري” لإيواء الأيتام وأمهاتهم في اسطنبول- 19 من تموز 2022(عنب بلدي)

التعليم سند للطفل وأمه

في وقت يعتبر فيه الخروج من دار الإيواء للعيش ضمن مجتمع أكبر ضرورة لا مفر منها، يحتاج الأطفال إلى العديد من الخدمات الأساسية التي تؤهلهم لتلك المرحلة، وتقيهم أخطار السير دون خارطة للعالم الجديد، ودون وجود مرشدين.

“اليوم تعلمنا حرف الذال، مين بيعطيني كلمة بحرف الذال”، تسأل معلمة الروضة لتعلو أيادي الأطفال للإجابة، في دروس تضع حجر الأساس في رحلة التعليم.

وفي صف آخر، يروي أستاذ اللغة العربية قصة لبطل تاريخي أمام تلاميذ تتراوح أعمارهم بين 9 و14 عامًا، محاولًا أن يزرع في عقولهم قيمًا تنفعهم في مستقبلهم.

ويشكّل التعليم سندًا للأطفال وأمهاتهم بعد خروجهم من دور الرعاية، إذ يؤمّن لهم فرصًا أفضل، ويعطيهم أملًا بعيش كريم يغنيهم عن أيّ دعم خارجي.

وبحسب ما قالته المسؤولة عن الدار، عالية قصاب باشي، تضع الدار والجمعية المسؤولة عنها التعليم كأولوية ضمن الخدمات المقدمة للعوائل المقيمة في دور الإيواء.

وتقدم الدار التعليم من مرحلة الحضانة إلى أن ينتقل الأطفال إلى مرحلة دراسية أخرى، ليتابعوا تعليمهم في المدارس الحكومية التركية، أو بمنح من بعض المدارس الخاصة في حال عدم امتلاك الطفل بطاقة “الحماية المؤقتة” (الكملك).

كما تقدّم دورات صيفية يمضي فيها الأطفال وقتهم ضمن ذلك المبنى، ليمارسوا نشاطات تعليمية وتثقيفية.

في المقابل، تقضي الأمهات ساعات طويلة من يومهن في دروس جماعية لتعلم اللغة العربية والقرآن، إلى جانب دورات “الكروشيه”، والكمبيوتر، والعديد من الدورات الأخرى التي يمكن أن تؤمّن لهن عملًا في المستقبل، وفق ما قالته قصاب باشي.

واستطاعت عشرات الأمهات العمل والاعتماد على أنفسهن بعد خروجهن من الدار، مستفيدات من الدورات التعليمية خلال وجودهن فيها، أضافت قصاب باشي.

من جهتها، استطاعت إحدى الأمهات المقيمات في دار “البخاري” ريمة الفران، ومن خلال دورات إعداد المعلمين التي قدمتها الدار، أن تنخرط ضمن الكادر التدريسي في الدار، وفق ما قالته لعنب بلدي، معتبرة أن هذه المهنة يمكن أن تؤمّن مستقبلًا أفضل لها ولأطفالها.

الاختصاصي التربوي والمحاضر في جامعة “إدلب” بكلية التربية حسان حسين، قال لعنب بلدي، إن “التأهيل العلمي للطفل، ومنح الجانب التعليمي الاهتمام الكافي، إلى جانب تزويدهم بمهارات خاصة بما يتعلق بالحياة المهنية، يمكّن الأطفال من خوض غمار الحياة”.

بدوره، أكّد مسؤول العلاقات العامة في منظمة “أسرة لرعاية الأيتام والطفولة”، يحيى مراد، أن تقديم الخدمات التعليمية للطفل من أهم الخدمات التي يمكن أن تهيئ الطفل للخروج من الدار، وهذا ما تحرص عليه منظمة “أسرة”، وتحاول تعزيزه ضمن جميع المنظمات والجهات المعنية بالأيتام.

أطفال خلال حصة اللغة العربية في دار “البخاري” لإيواء الأيتام وأمهاتهم في اسطنبول-19 من تموز2022 (عنب بلدي)

بيئة متوازنة

تشرف على دار “البخاري” إدارة نسائية، وتقدم الدروس معلمات بعضهن من الأمهات المقيمات في الدار، بينما يغيب وجود الرجال عن الدار، وغيره من الدور، ما يجعل الأطفال يمضون فترة طويلة من حياتهم دون الاختلاط بالبالغين من أبناء جنسهم.

“أطفالي كانوا خجولين ومشاركتهم قليلة بالدرس، ولكن اليوم، بعد مجيء أستاذ للدار، شعرت أن هناك فراغًا امتلأ في حياتهم، وأنهم صاروا أقل خجلًا”، هذا ما قالته ريمة الفران المقيمة في دار “البخاري”.

ويرى المعلم الوحيد في دار “البخاري” محمد نعيم سنجاب، أن قلة اختلاط الأطفال بأبناء جنسهم، يمكن أن يؤدي مع مرور الوقت إلى آثار سلبية كبيرة على شخصيتهم.

وأضاف أنه يحاول بناء علاقة ودية مع الطلاب، ويسعى ليكون شخصية يتأسون بها، وفق قوله.

بدوره، قال الاختصاصي التربوي والمحاضر في جامعة “إدلب” بكلية التربية حسان حسين، إن عدم الاختلاط بين الأيتام الذكور وأقرانهم من نفس الجنس، يؤثر بشكل سلبي في الناحية النفسية والاجتماعية والعاطفية والسلوكية للأطفال، ويمتد تأثيره عليهم في المدرسة والحياة خارج دار الأيتام، ولاحقا في تكوين أسرة فضلًا عن الحياة المهنية.

الدمج التدريجي

بعد سنوات من بقاء الطفل في بيئة صغيرة، يحاول معظم العاملين ضمنها العمل لمصلحته ومساعدته، وخلق روابط عائلية بينه وبين أقرانه، ويمكن أن يؤدي النقل المفاجئ للطفل إلى بيئة مختلفة كليًا للعديد من الانعكاسات السلبية على حياته.

وقال مسؤول العلاقات العامة في منظمة “أسرة لرعاية الأيتام والطفولة”، يحيى مراد، إن من الضروري ألا يشعر الطفل بأنه صار منبوذًا في المكان الذي نشأ وعاش فيه.

كما تجب توعيته بالأسباب التي خرج من الدار لأجلها، إلى جانب تقديم نوعٍ من الدعم النفسي ليكون أكثر قدرة على الاعتماد على نفسه، وفق ما قاله مراد.

يمر الإعداد والتأهيل لخروج الطفل من الميتم بمراحل:

–        الدمج التدريجي مع المجتمع المحيط وتعزيز المشاركة مع الآخرين.

–        التأهيل الأخلاقي للطفل، والعمل على تطوير مهارات التواصل والكفاءة الاجتماعية.

–        التهيئة النفسية للمرحلة المقبلة بعد الدار، وتعليم الطفل أن عليه أن يكون قادرًا على الاعتماد على نفسه.

–        تدريب الأطفال على مهارات إدارة المشاعر وتنظيمها والقدرة على تحمل المسؤولية.

–        إخضاع الطفل لبرامج خاصة تضمن خروجه من الدار بشكل سليم وآمن.

–        التنسيق مع المجتمع المحلي والجهات الفاعلة (الرسمية وغير الرسمية) من أجل مساندة الأيتام.

التربوي حسان حسين

عودة إلى المجتمع دون تأهيل.. ما الأثر؟

تخلق إعادة الأطفال إلى المجتمع دون تأهيل مسبق، بيئة غير مستقرة للطفل في حاضره، ويمكن أن يمتد أثرها ليطال مستقبله.

الاختصاصي التربوي حسان حسين، اعتبر أن تأهيل الطفل في دار الأيتام قبل خروجه عامل محوري ومطلب ضروري ليستطيع لاحقًا النمو والارتقاء في مناحي الحياة المختلفة، لافتًا إلى أن غياب التأهيل من قبل مسؤولي دار الأيتام يجعل الطفل يخرج من الدار ضعيفًا عاجزًا عن السير والانطلاق في حياته.

وأوضح حسين أن التأهيل للمرحلة المقبلة سنة كونية من سنن الله وضعها في الإنسان والكون، فمن خصائص النمو تلبية متطلباته في كل مرحلة، وعدم تلبية هذه الحاجات والمتطلبات يعني أن هذا الطفل انتقل للمرحلة اللاحقة دون نمو مكتمل.

كما أكّد مسؤول العلاقات العامة في منظمة “أسرة”، أن غياب التأهيل المسبق لليتيم يجعله فريسة سهلة للتسرب من الدراسة، وفريسة سهلة لعمالة الأطفال هذا على أحسن تقدير إن لم يقده لحياة التشرد والجريمة، خصوصًا في حال بقائه بلا قدوة أو عون أو رقابة.

وتنشط العديد من المنظمات داخل وخارج سوريا برعاية الأيتام من خلال إنشاء دور وقرى لإيوائهم في شمال غربي سوريا، أو تقديم كفالات شهرية تقدر بحوال 50 دولارًا شهريًا، بينما تعتبر جمعية “الشام لرعاية الأيتام” أولى الجمعيات التي توجهت لإنشاء دور في تركيا.

ورغم غياب الإحصائيات عن عدد الأيتام السوريين خلال سنوات الصراع، قدّرت منظمة “Yetim Vakfı” التركية غير الحكومية عدد الأيتام السوريين في محافظة إدلب وحدها بحوالي مليون و200 ألف يتيم، بحسب أحدث إحصائية صدرت عن المنظمة في أيار 2021.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة