التخييم في تركيا.. بوابة الانفصال عن السموم الرقمية

camera iconمحمد العقيدي (يسار) خلال رحلة مسير في جبال مدينة نيدا جنوب شرقي تركيا عام 2019 (محمد العقيدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي- ضياء عاصي

نحو البرية، خذ نفسًا عميقًا، هيئ نفسك للهروب من كل ما يلحق بك، لا تنظر إلى محفظتك، وإن لم تملك مالًا، فأرض الله لا تطلب أجرًا، لكن لا تنسَ أن تستعير خيمة، لتعزل بها نفسك عندما يجن الليل.

والآن، احزم أمتعتك واتبعنا إلى شلالات “جوك سو” (Göksu şelalesi) في ولاية قونيا وسط جنوبي تركيا، في رحلة يأخذنا إليها محمد العقيدي (27 عامًا)، الابن والوالد والطالب والعامل، فيما لا يدع لك مبررًا إلا ويمكن تجاوزه.

محمد، الذي ينحدر من ريف حلب الجنوبي، يعيش بصحبة أهله في ولاية قونيا منذ 2013، متزوج ولديه ولد، وإلى جانب دراسته هندسة “الميكاترونيكس” في جامعة “نيدا” (سنة رابعة)، يعمل في مجال التجارة الخارجية.

شرارة البداية

بدأ محمد رحلات التخييم بمحض المصادفة في السنة الأولى من الجامعة عام 2018، بعد أن ألهمته زائرة مغربية قدمت إلى قونيا، وأثارت فضوله باستكشاف التخييم.

وبحلول عيد الفطر لعام 2018، الذي عادة ما يكون خاليًا من النشاطات في بلاد الغربة، اقترح محمد على ابن عمه أن يخرجا في رحلة تخييم غير مخطط لها مسبقًا، إذ لم يكن لديهما أي من الأغراض اللازمة لقضاء ليلة في الطبيعة المجردة.

استعار محمد من صديقته المغربية خيمتها لمدة يومين، وقصدا شلالات “جوك سو”، الواقعة بين مدينة مرسين جنوبي تركيا، وقونيا التي تبعد عنها قرابة 355 كيلومترًا، في رحلة وصفها بالمغامرة، لما واجهه من أمور لم تكن بالحسبان.

تاه محمد وقريبه في الطريق، وعلقا لأكثر من ساعتين في محاولة لإخراج السيارة من منطقة طينية غرزت بها عجلات السيارة، وبعد أن نجوا من الموقف، أكملا طريقهما ووصلا إلى الشلالات عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

نصب محمد خيمته، وكانت المرة الأولى التي يختبر فيها النوم في البرية، خارج منزله وبعيدًا عن سريره الدافئ المحاط بكل وسائل الراحة، كان الهدف من الرحلة، بحسب محمد، عيش الحماسة التي سمعها عن التخييم.

إدمان العيش في البراري

“أعجبتني فكرة الحياة البرية، وبدأت أجمع المال لشراء معدات التخييم”، قال محمد لعنب بلدي، وأضاف، تعرفت إلى موقع “كاوتش سيرفينج” (Couchsurfing) لطلب أو عرض ضيافة في أي مكان حول العالم، كما يعتبر موقعًا يجتمع فيه الرحّالة.

وبالمصادفة، وجد محمد تجمعًا لرحلة تخييم في العاصمة أنقرة عن طريق الموقع، وشارك فيما كان أول تخييم له مع مجموعة من الأشخاص الأتراك والأجانب.

استمرت الرحلة لمدة ثلاثة أيام وليلتين في “بارك كزلجي حمام” (Kızılcahamam Tabiat Parkı)، وهي غابات مخصصة للتخييم على بعد 70 كيلومترًا شمالي أنقرة، وأشار محمد إلى ضرورة وجود سيارة في بعض الأحيان، لبعد مثل هذه الأماكن عن المناطق المأهولة بالسكان.

مرة تلو الأخرى، زاد محمد رصيده المعرفي برحّالة “مغامرين”، وانضم إلى مجموعات تنظم رحلات تخييم على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأ يطور من معداته في كل مرة، وكان حينًا يخرج برفقة مجموعات، وأحيانًا أخرى برفقة أصدقائه على نطاق ضيّق.

لم يكتفِ محمد بدائرة أصدقائه، بل وصل به شغف التخييم إلى إقناع عمه بخوض التجربة، وذهبا معًا إلى مدينة أنطاليا الواقعة جنوب غربي تركيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وخيّما على الشاطئ لمدة يومين.

التخييم وسط كل شيء

في السنة الثانية من الجامعة 2019، أسست الجامعة الواقعة في ولاية نيدا جنوب شرقي تركيا، تجمعًا خاصًا بالتخييم والتسلق، وكانت تنظم رحلات تسلق ومسير في الجبال لمسافات تصل إلى 25 كيلومترًا، ما يستغرق من محمد وفريقه عشر ساعات تقريبًا لقطع المسافة.

عند حلول شتاء 2019، قرر التجمع القيام برحلة مسير وتخييم، وكان الطقس مثلجًا وباردًا في نيدا التي تصل فيها درجات الحرارة شتاء إلى أقل من 22 تحت الصفر في الأماكن المرتفعة.

رغم ذلك، وبحسب ما قاله محمد، “تجهزنا جيدًا، وكانت الرحلة أول تخييم شتوي لي، بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى قمة الجبل، حتى بوجود سيارة دفع رباعي”، ومع عدم توفر السيارة، اضطر محمد وفريقه لاستئجار جرار ليحتموا بمقطورته.

خيّم محمد في ولايات عدة من تركيا، لكن أجملها وفقًا له، كانت قرية أغوا/أغفا (Ağva)، الواقعة بين نهري “جوك سو” (Göksu) و”يشيل شاي” (Yeşil çay) في منطقة شيلا (Şile)، التي تبعد حوالي 97 كيلومترًا عن مركز مدينة اسطنبول شمالًا.

وتعني “Ağva” قرية بين النهرين، وهي ذات أصل لاتيني، وفقًا لقناة “CNN” التركية.

عيش التجربة بأقل الموارد

يختار محمد أماكن التخييم، وفقًا لما تتميز به المنطقة من جمال الطبيعة، والأهم من ذلك، بحسب محمد، أن تكون قريبة من أماكن الخدمات، ومناسبة لإشعال النار دون التسبب بحرائق.

تتعدد طرق السفر، ويفضّل محمد أرخصها مثل السفر عبر القطارات، أو عن طريق تطبيق “BlaBlaCar”، وهو منصة تتيح لأصحاب السيارات المسافرين بين الولايات أن يقدموا عروضًا للأشخاص الذين تتقاطع معهم طرقهم بسعر أرخص من وسائل النقل التقليدية.

ومن الطرق المجانية التي يستخدمها محمد للتنقل، لمن كان لديه الجرأة الكافية، الـ”أوتو ستوب” (Hitchiking)، وتكون برفع الإبهام للسيارات عند مخرج المدينة، أو بحمل لافتة للوجهة المقصودة.

لا ينصح محمد باستخدام الـ”أوتو ستوب” للمسافات البعيدة، لما تحمله من مشقة بحال الانتظار طويلًا، كما أن من المحتمل أن تضطر لتغيير أكثر من سيارة لتصل إلى وجهتك.

يقتني محمد مجموعة من الأغراض اللازمة للتخييم، مثل خيمة ذات جودة عالية، وفراش مطاطي قابل للنفخ والطي، وبطانية، ومعدات طبخ بسيطة، وجهاز إضاءة، وأداة حادة (سكين) للحماية ولتقطيع الطعام، بالإضافة إلى حقيبة إسعافات أولية للإصابات المحتملة.

التخييم من كل جانب

للتخييم في تركيا إيجابيات عدة، منها كثرة الأماكن الطبيعية في معظم الولايات والأجواء المعتدلة، وتوفر الأماكن المخصصة للتخييم من قبل البلديات.

وتتمحور سلبيات التخييم حول تعرض الشخص الأجنبي لمواقف عنصرية في بعض الأحيان، لكونه لاجئًا قدم من الحرب، ولا يحق له الاستمتاع من منظور البعض، وفقًا لما قاله محمد.

ويزيد من تعقيد القيام بتخييم مرن، صعوبة السفر والتنقل من ولاية لأخرى لمن يحمل هوية “الحماية المؤقتة” (كملك)، دون أخذ إذن للسفر من الولاية المقيد بها، والذي لا يُعطى إلا لسبب مقنع، ليس التخييم من ضمنها.

ويتعرض حاملو “الكملك”، الذين يتنقلون بلا موافقة، للمخالفات ودفع غرامات مالية، تصل إلى إلغاء قيد الهوية، وحتى الترحيل إذا تكرر الأمر.

وللتخييم نفسه أخطار أخرى، منها التعرض للدغات الأفاعي والعقارب، أو احتمالية التعرض لهجوم من قبل الذئاب والدببة أو الخنازير البرية، لذلك من المهم دراسة المكان قبل الذهاب إليه، بحسب محمد، كما يفضّل للعائلات أن تخيّم بأماكن محمية آمنة لتفادي المخاطر.

ويشجع محمد العائلات على التخييم، ولا يجد عائقًا في أن يكون الشخص متزوجًا ولديه أولاد، بل يحث على قضاء وقت فريد مع العائلة، بعيدًا عن صخب المدينة والسموم الرقمية بالانفصال عن التكنولوجيا، كما يرى في التخييم كسرًا للروتين وتجربة شائقة في اكتشاف الذات والاعتماد عليها، والتعرف إلى أشخاص جدد.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة