tag icon ع ع ع

جنى العيسى | لجين مراد | حسام المحمود

يأتي شهر أيلول من كل عام على السوريين مثقلًا بهموم لا مفر منها، تزيد من العبء الروتيني الذي اعتادوه في مختلف أشهر السنة.

ونتيجة لضرورة تأمين العديد من المستلزمات هذا الشهر (مدارس، مؤونة، مازوت التدفئة)، قد يضطر المقيمون على جميع الأراضي السورية للمفاضلة بينها، واختيار “الأكثر أهمية” منها بالنسبة للعائلة نفسها.

وفي ظروف معيشية منهارة حاليًا، لا تزال كثير من العائلات السورية تعتبر عودة الأطفال إلى المدارس “همًا إضافيًا” رغم مجانية المراحل الأولى من التعليم، جراء عدم قدرتها على تحمل أي مبالغ فوق مصاريف المواد الغذائية أو الأساسية اليومية، التي بالكاد تحصل عليها.

تستعرض عنب بلدي في هذا الملف، ظروف عودة الطلاب إلى المدارس في جميع المحافظات السورية خلال العام الحالي، في ظل واقع اقتصادي متردٍ.

كما تناقش مع خبراء ومختصين، أسباب عدم قدرة دعم الأهالي لتخفيف الضغط المرافق للعودة إلى المدارس، وسط نسبة تسرب للأطفال من المدارس تزداد عامًا بعد عام، وما يلي ذلك من آثار اجتماعية تلقي بظلالها على مستقبل الأطفال والمجتمع ككل.

على اختلاف مناطق السيطرة.. عودة “غير مبشّرة” إلى المدارس

تأثرت العملية التعليمية في سوريا، كمختلف جوانب الحياة، بالمتغيرات التي فرضتها ظروف نحو 12 عامًا من الحرب، أبعدت كثيرًا من الطلاب عن مقاعد الدراسة، فيما وضعت آخرين وذويهم تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية المتهالكة، بين تدني أجور وارتفاع أسعار، وفجوة لا تُردم بين الحالتين.

وإذا كانت المتغيرات العسكرية فرضت نفسها على الأرض، وحوّلت البلاد إلى مناطق مختلفة السيطرة والإدارة، فإن ما جمع تلك المناطق على اختلاف الجهة المسيطرة، صعوبة تأمين احتياجات الحياة وأولوياتها أمام غياب مردود ودخل يوازي المتطلبات، ولا سيما أمام مناسبات موسمية، كافتتاح المدارس.

مدرسو مدمرة في الغوطة الشرقية بريف دمشق – حزيران 2018 (رويترز)

أحمد خلف من أهالي مدينة تلبيسة في محافظة حمص، أب لثلاثة طلاب موزعين على مرحلتي التعليم الثانوي والإعدادي، أوضح لعنب بلدي أن التكاليف التي يحتاج إليها الطالب الواحد تصل إلى 150 ألف ليرة سورية مع بداية العام الدراسي، إذ يتطلب شراء لباس مدرسي لطالب واحد نحو 75 ألف ليرة، إلى جانب مبلغ مماثل لشراء لوازم الدراسة، كالحقيبة المدرسية والأقلام والدفاتر.

تقيم العائلة في منزل بعيد نسبيًا عن المدرسة، ما يعني نحو ألفي ليرة تكلفة يومية لتوصيل الطالب الواحد إلى مدرسته، عبر التعاقد مع “سرفيس” ينقل الطلاب، ولا سيما في فصل الشتاء، حين يغدو التنقل سيرًا صعبًا للغاية.

وحول البدائل أو الحلول التي يستعين بها رب الأسرة لتأمين تلك المصاريف، بيّن أحمد غياب أي قاعدة ثابتة أو وصفة جاهزة للتعاطي مع ظروف من هذا النوع، ففي العام الماضي، أرسل خال الأطفال مبلغًا لتأمين احتياجاتهم التعليمية، بينما قد تضطر الأسرة في العام الحالي لبيع شيء من مقتنيات المنزل، في إشارة إلى أسطوانتي غاز فائضتين عن الحاجة، قد تبيعهما العائلة لتأمين احتياجات الأبناء.

ومن مناطق سيطرة النظام أيضًا، تحدّث هاني (42 عامًا)، من أبناء مدينة طفس، لعنب بلدي، عن واقع العودة إلى المدارس، والأعباء التي تخلّفها العملية، باعتباره أبًا لستة أطفال، أربعة منهم في المدارس.

أكد هاني أن تجهيز أطفاله وتأمين مستلزماتهم يتطلب ميزانية مكلفة وشاقة على الأسرة، لكنه في الوقت نفسه مضطر لتحمل هذه النفقات، باعتبارها متعلقة بمستقبل أبنائه، ما يدفعه للاقتراض في سبيل تأمين لوازم المدارس من لباس وقرطاسية وكتب.

يشدد الرجل على أن افتتاح المدارس هم متجدد بشكل سنوي، لكن التكاليف هذا العام ارتفعت بسبب موجة الغلاء التي تشهدها أسعار الألبسة والقرطاسية، كما أن نسخة الكتب لطلاب المرحلة الثانوية لا يقل سعرها عن 50 ألف ليرة سورية، ما يعني أن تجهيز طالب في مرحلة التعليم الثانوي يتطلب نحو 300 ألف ليرة، إذ يحتاج إلى لباس مدرسي وحقيبة وحذاء وقرطاسية، إلى جانب المصروف اليومي، كما أن المعطف للفتيات (مانطو) لا يقل سعره اليوم عن 100 ألف ليرة، بحسب هاني الذي لا يملك مصدر دخل ثابتًا، باعتباره يعمل مزارعًا.

وتتفق “أم عمر”، وهي سيّدة من سكان تل شهاب في درعا، مع نظرة هاني إلى ارتفاع الأسعار وصعوبة مواكبتها، إذ أوضحت لعنب بلدي أن تجهيز طالبين، أحدهما في الثانوية والآخر في الابتدائية، يتطلب نحو 800 ألف ليرة تستعين لتأمينها بأعمال المياومة الزراعية، كعاملة في الحقول، بأجر يومي يبلغ عشرة آلاف ليرة سورية.

وأوضحت السيّدة في حديثها إلى عنب بلدي، أن تأمين مستلزمات الطلاب يترافق مع تجهيز مؤونة الشتاء ومحروقات التدفئة أيضًا، ما يضاعف حجم الحاجات أمام ضعف موارد تأمينها.

هذا “التحدي” في التعامل مع تأمين مستلزمات بهذا الثقل المالي على أرباب الأسر، تترجمه بشكل متواصل الإحصائيات وتصريحات المسؤولين والهيئات الأممية، وأبرزها تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي قدمه في 12 من كانون الأول 2021، وأكد خلاله أن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، يعاني 60% منهم انعدام الأمن الغذائي.

خارج سيطرة النظام.. واقع مشابه

إلى جانب ذلك، تتشابه ظروف الناس الاقتصادية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بتلك الواقعة ضمن نطاق سيطرته، مع ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور، وعدم استقرار في قيمة العملة، إلى جانب غياب الدخل الثابت لدى شريحة واسعة من السكان، وعدم دعم مستلزمات أساسية موسمية كحاجيات طلاب المدارس.

نوري الحسن، عامل في مستودع أغذية بمحافظة الحسكة، حيث تسيطر “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، يتقاضى أجره بشكل يومي، أوضح لعنب بلدي أن أعباء العام الدراسي لا تتوقف عند تأمين الملابس والقرطاسية، وهي مجموعة أقلام ودفاتر يحتاج إليها الطالب خلال عامه الدراسي، فهناك أيضًا أجور النقل من البيت إلى المدرسة مع النظر إلى طول المسافة بينهما، وهو ما يتطلب نحو 45 ألف ليرة سورية شهريًا، على خلاف عام 2021، قبل ارتفاع أجور النقل لنحو الضعف تقريبًا.

نوري بيّن أنه للتعامل مع التزامات مالية من هذا النوع، يضطر أولاده لاستخدام الحقائب والملابس لسنوات، والاعتماد على “البالة” (الملابس المستعملة)، إلى جانب حوالات نقدية من الأهل والأصدقاء المقيمين خارج سوريا، لافتًا إلى أن تكلفة تجهيز الطالب للمدرسة في بداية العام لا تقل عن 200 ألف ليرة.

وفي إدلب بشمال غربي سوريا، حيث تسيطر حكومة “الإنقاذ”، يرى “أبو محمد”، وهو بائع على “بسطة” جوارب و”إكسسوارات”، أن انخفاض قيمة الليرة التركية (العملة المستخدمة في التعاملات المالية والتجارية في المنطقة)، وانخفاض مستوى الدخل، أثّرا على الحالة الاقتصادية للناس إلى حد بعيد، أمام تعثّر العمل وارتفاع التكاليف.

وأوضح الرجل أن كل طفل من طفليه يحتاج إلى ما بين 200 و250 ليرة تركية مصاريف شراء حقيبة وقرطاسية، في ظل غياب حل يريح العائلة من عناء التكاليف المرتفعة.

أما في ريف حلب، حيث تسيطر “الحكومة المؤقتة”، فلا تختلف ظروف العودة إلى المدارس بالنسبة للأهالي عن مثيلاتها في مناطق أخرى، إذ أكد أمير، وهو مهجّر من الغوطة الشرقية، أن المصروف قاسٍ وصعب، باعتباره يعمل على “بسطة” للمحروقات.

لأمير طفلتان ستدخلان المدرسة خلال العام الحالي، رغم ظروف غير مبشّرة حول قدرة العائلة على تأمين احتياجاتهما، بالنظر إلى الالتزامات الطارئة الأخرى كنفقات إيجار المنزل والمأكل والمشرب.

“الله بيكرمنا وبيصير خير إن شاء الله”، قال الرجل بتأتأة وتردد يوحيان بغياب حلول تنقذ الأسرة من وطأة مصاريف مفروضة ترتبط بمؤقت زمني مع افتتاح المدارس.
رقم تقريبي بين 500 و800 ليرة تركية، يقدّر الرجل حجم التكاليف الملقاة على عاتق العائلة، وتشمل ملابس الطفلتين والقرطاسية، وهذا المبلغ لا يشمل المصروف اليومي، والأطعمة التي يُفترض أن تحتويها حقيبتاهما في أثناء الذهاب إلى المدرسة.

طلاب مدرسة في مخيم كللي بريف إدلب – 2021 (عنب بلدي/إياد عبد الجواد)

غير مخصص للأهالي أساسًا

الدعم والتمويل إلى انخفاض “مخيف”

في أي أزمة إنسانية، غالبًا ما يكون التعليم من أولى الخدمات التي تتعطل، وآخر الخدمات التي يمكن الحصول عليها، الأمر الذي يترك أثارًا طويلة المدى في مختلف قطاعات الحياة.

وفي مختلف المحافظات السورية، بغض النظر عن الجهة المسيطرة، يأتي الدعم النقدي والتمويل للعملية التعليمية اليوم من عدة مصادر، أبرزها عدد من المنظمات الأممية كـ”يونيسف”، أو المنظمات المحلية المعنية بقطاع التعليم، بالإضافة إلى جزء تقدمه الحكومات المسيطرة على المنطقة (بنسب تختلف بين منطقة سيطرة وأخرى).

بدورها، تحدد الحكومات المسيطرة على المنطقة بنفسها قيمة الدعم المادي الذي تنفقه في قطاع التعليم، بحسب مبادئ تعتمد على موازنتها وحجم الأموال لديها من جهة، وعلى إيمانها بفكرة دعم التعليم بغض النظر عن الحاجة له من جهة أخرى.

ولكن دعم وتمويل الجهات المسيطرة لقطاع التعليم في سوريا، يقتصر بشكل عام على استدامة سير العملية التعليمية بالحدود الدنيا، دون أن توجه الدعم بشكل مباشر لأهالي الطلاب، لتخفيف جزء من معاناتهم، يرتبط بالدرجة الأولى بالوضع الاقتصادي العام للمنطقة.

ويشمل هذا الدعم أولًا رواتب الموظفين، وتأمين التدفئة للطلاب خلال الفصل الدراسي الشتوي، بالإضافة إلى طباعة وتوزيع الكتب لصفوف معيّنة بشكل مجاني (من الصفوف الأولى وحتى مرحلة التعليم الثانوي)، وتأهيل المدارس.

كما تدعم منظمة الأمم المتحدة للأطفال (يونيسف) قطاع التعليم عبر تأهيل المدارس وتوفير المباني الجاهزة، وتوزيع اللوازم التعليمية والكتب المدرسية، وتطوير الأساليب التعليمية.

ودعمت “يونيسف” بأجزاء بسيطة، خلال السنوات الماضية، عددًا من الأسر السورية التي لديها طلاب بالمدارس، عبر المساعدة النقدية لتشجيعها على التزام أولادها بمتابعة الدراسة، وضمان تقليل عمالة الأطفال، لكون المشكلات الاقتصادية تعتبر أبرز ما تعانيه هذه الأسر.

ما طبيعة دعم القطاع؟

الباحث الاقتصادي محمد العبد الله، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن الدعم الأممي أو الحكومي لقطاع التعليم غالبًا ما يكون موجهًا بنسب كبيرة منه لدعم المدارس والكادر التعليمي، وليس للطلاب والأهالي.

وأكد العبد الله أن همّ عودة الأطفال إلى المدارس على عموم الجغرافيا السورية، يرتبط بشكل أساسي بالوضع المعيشي والاقتصادي للناس، لا بحجم الدعم المقدم لقطاع التعليم ككل.

تعاني معظم العائلات السورية من عبء اقتصادي كبير جدًا، ما يدفع بعضها لتشغيل أولادها بعمر مبكر لدعم الأسرة اقتصاديًا، بسبب عدم قدرتها على تحمّل مصاريف المدارس، لأن الأب غير قادر على تغطية مصاريف عائلة مكوّنة من أربعة أفراد مثلًا، إذ يعتبر المصروف المدرسي فوق قدرته على التحمل.

وأوضح العبد الله أن الدعم الأممي لأفراد وأسر في سياق العملية التعليمية، قد يقتصر على بعض الحالات الفردية التي لا تكاد تُذكر نسبتها، وذلك بهدف منع تسرب الطفل من المدرسة.

دعم القطاع إلى انخفاض مخيف

بحسب الأرقام الأممية، التي أشار إليها الباحث الاقتصادي محمد العبد الله، حول خطط الاستجابة لسوريا في العام الحالي، يبلغ الدعم المطلوب لتمويل قطاع التعليم في سوريا 351.4 مليون دولار أمريكي، بينما لم يصل حجم التمويل إلى الآن إلا لمبلغ 9.8 مليون دولار، بنسبة تغطية بلغت 2.8% فقط من حجم المبلغ المطلوب.

وفي عام 2021، كان المبلغ المطلوب لتمويل القطاع التعليمي في سوريا 299 مليون دولار، لم يغطَّ منه سوى 22% فقط، وفي عام 2020، كان المبلغ المطلوب 264.4 مليون دولار أمريكي تمت تغطية نحو 36.5% منه.

وتظهر الأرقام انخفاضًا واضحًا وتراجعًا في تغطية المبلغ المخصص لتمويل قطاع التعليم، ما اعتبره الباحث محمد العبد الله مؤشرًا خطيرًا، لكون التراجع يرتبط بالدعم على المستوى الأممي.

وبحسب العبد الله، ربما يرتبط تراجع التمويل بانخفاض التمويل الإنساني على مستوى الملف السوري بشكل عام، وليس في قطاع التعليم على وجه الخصوص.

يأتي تراجع التمويل الأممي لقطاع التعليم إلى مستويات “خطيرة” في ظل أزمات عدة تعانيها عموم المحافظات السورية، وسط عجز تام للجهات المسيطرة عن إيجاد حلول لها ولو بالحدود الدنيا، نظرًا إلى تراجع مواردها المالية، واعتمادها بشكل كبير على المنظمات الأممية في العديد من القطاعات.

ويأتي تراجع الدعم وسط تردٍّ في الأوضاع المعيشية للموظفين، منهم الكوادر التعليمية، إذ تنخفض رواتبهم الشهرية إلى نسب متدنية جدًا، ويعمل كثيرون دون رواتب لفترات تمتد لأشهر.

طلاب في ساحة إحدى مدارس مدينة إدلب – 21 من نيسان 2021 (عنب بلدي)

التسرب من التعليم.. عواقب قاسية

نتيجة للظروف المعيشية المتردية من جهة، وحاجة أكثر من فرد في العائلة إلى العمل لتغطية المتطلبات الأساسية للأسرة فقط، أو لعدم قدرة الأسرة على دفع مصاريف التحاق طفلها بالمدرسة، لا يحصل عدد كبير من الأطفال السوريين على حقهم في التعليم.

وبحسب إحصائيات أممية، تظهر الأرقام في عموم المناطق السورية وصول عدد الأطفال المتسربين من التعليم إلى حوالي مليونين و400 ألف طفل، إلى جانب مليون و600 ألف طفل تحت تهديد خطر التسرب، بحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في 10 من أيار 2022.

أعباء مادية

رغم اختلاف نسبة التسرب في المناطق الثلاث، أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها عنب بلدي في جميع المناطق، أن العامل الأساسي لتزايد أعداد المتسربين هو العبء المادي الذي يشكّله التحضير للعودة إلى المدارس.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها عنب بلدي من خلال المقابلات التي أجرتها، يعاني الأهالي فجوة كبيرة بين دخلهم الشهري وتكلفة العودة إلى المدارس.

هذا ما أكده الباحث الاقتصادي محمد العبد الله، خلال حديثه إلى عنب بلدي، إذ قال إن الوضع المعيشي للسكان في المناطق الثلاث هو أبرز أسباب تسرب الأطفال من المدارس.

وأضاف العبد الله أن الأهالي يتحملون أعباء كبيرة لتأمين تكلفة عودة الأطفال إلى المدرسة، باعتبار الفجوة بين الدخل الشهري للأهالي وتكاليف المعيشة كبيرة أيضًا.

كما انعكس الوضع الاقتصادي في سوريا بقدرة المدارس على تطوير الطرق التعليمية وتأمين مستلزمات الطلاب والمعلمين، إلى جانب ضعف المنشآت التعليمية، ما حدّ من رغبة الأطفال بالذهاب إلى المدرسة، وفق ما قاله الاختصاصي التربوي حسان حسين لعنب بلدي.

الزواج أو العمل

لا يقتصر أثر تدهور الوضع المعيشي على الوضع التعليمي والتسرب من المدارس لعجز العائلات عن تأمين مستلزمات المدرسة، إذ تجبر ظروف العيش الصعبة الكثير من الطلاب على العمل تحت السنّ المسموح بها وفق المعايير الدولية، كما تجبر كثيرًا من الطالبات على الزواج، بحسب ما قالته الباحثة الاجتماعية العاملة على دراسة قطاع التعليم في سوريا حلا حاج علي.

وأضافت الباحثة لعنب بلدي، أن الظروف الاقتصادية الراهنة وضعت الطلاب أمام خطر عمالة الأطفال، والفتيات أمام خطر زواج القاصرات، مشيرة إلى أن العديد من العائلات في مختلف المناطق أُجبرت على تزويج بناتها لتخفيف العبء المادي.

من جهتها، بررت إحدى السيدات في حمص، خديجة (44 عامًا) لعنب بلدي، انقطاع طفلها عن التعليم بغياب المعيل الذي أجبرها على إرساله للعمل في الزراعة.

ورغم رغبة طفلها بالعودة إلى المدرسة، تعوقه المسؤولية التي حملها بإعالة أمه وأختيه اللتين تتابعان تعليمهما، بحسب ما قالته خديجة.

بينما يعاني عبيد الحسين (45 عامًا)، من ريف القامشلي، ارتفاع تكلفة المدارس الخاصة، في وقت تغيب فيه المدارس الحكومية عن منطقة سكنه.

واشتكى عبيد لعنب بلدي عجزه عن تأمين تكلفة المواصلات، أو التجهيزات المدرسية لإرسال طفليه إلى مدرسة خارج القرية.

كما اضطر عبيد إلى إرسال ابنه للعمل ببيع الخبز لمساعدته في تأمين إيجار المنزل الذي يبلغ 200 ألف شهريًا (44 دولارًا)، بينما يبلغ دخل عبيد حوالي 350 ألف شهريًا (78 دولارًا).

ولا تختلف الحال في مناطق سيطرة المعارضة، إذ أجبر غنام محمود النار (47 عامًا) على الامتناع عن إرسال أطفاله إلى المدرسة، جراء عجزه عن تأمين تكلفة المستلزمات المدرسية التي قدّرها بحوالي 700 ليرة تركية، أي نحو 38 دولارًا.

في المقابل، يبلغ دخل غنام، وهو أب لثلاثة أطفال، نحو 100 دولار شهريًا.

غياب الاستقرار

لسنوات عانت العائلات السورية من النزوح المتكرر الذي خلّف حالة عدم استقرار وعجز لدى الأهالي عن منح أطفالهم فرصة الحصول على التعليم.

كما يشمل غياب الاستقرار العديد من مناطق سوريا، إذ أسفر الصراع المستمر عن تدمير بنيتها التحتية، وتوقف العملية التعليمية فيها.

لعبت هذه الظروف، حسب الاختصاصي التربوي حسان حسين، دورًا بارزًا في تسرب الأطفال من المدارس.

وقال حسين، إن حركات النزوح المتتالية خلال السنوات الماضية، حرمت آلاف الأطفال من حقهم في التعليم، ودفعت بالعائلات للامتناع عن إرسال أبنائها إلى المدرسة ريثما تستقر ظروفهم، في ظل النزوح المتكرر.

كما أُغلقت مئات المدارس في المناطق التي تعرضت للقصف وتحوّلت إلى بيئة غير آمنة وغير مستقرة، بحسب الباحث.

هذا ما تؤكده الحالة في مناطق شمال غربي سوريا التي شهدت أكبر أعداد تسرب، بحسب تقرير صادر عن “يونيسف” في 10 من أيار الماضي.

وبحسب التقرير، شهدت مناطق شمال غربي سوريا 13 حالة اعتداء على المدارس، على الأقل، خلال عام 2021، تزامنًا مع انعدام الأمان والاستقرار وغياب المنشآت التعليمية في المنطقة.

وتحدث التقرير عن انقطاع مليون طفل عن التعليم، من بين مليون و700 ألف طفل مقيم في المنطقة، جراء تلك الظروف.

وأثرت حالة عدم الاستقرار واللامركزية في قطاع التعليم التي تشهدها معظم المناطق على التسرب من المدارس، إذ عرقلت تطور العملية التعليمية وشتتت دعم القطاع، وفق ما قالته الباحثة حلا حاج علي.

الانقطاع عن التعليم

أجبر الصراع في سوريا معظم الأطفال على الانقطاع عن التعليم، لفترات متساوية، وأسباب عديدة، أبرزها غياب الأمان والاستقرار.
ويعاني العديد من الأطفال الذين انقطعوا عن التعليم مشكلات تعليمية، ووجود فجوة بينهم وبين زملائهم، تخلق حالة رفض لدى المنقطعين عند العودة إلى المدرسة، وفق ما قاله التربوي حسان حسين.

بدورها، اعتبرت الباحثة حلا حاج علي أن تسرب الطفل من المدرسة جراء انقطاعه عن التعليم مرتبط بعاملين أساسيين، أولهما العمر الذي انقطع فيه عن التعليم، والعمر الذي استطاع فيه العودة إلى مقاعد الدراسة.

وأوضحت الباحثة أن الطفل الذي ينقطع عن التعليم في سن صغيرة، ويحاول العودة في مرحلة المراهقة، يعاني مشكلات كثيرة، أهمها الفوارق بالنمو الجسدي بينه وبين أبناء صفه.

كما يعتمد ذلك على عدد سنوات الانقطاع، الذي يتحكم بحجم الفجوة المعرفية بين الأطفال وزملائهم، بحسب الباحثة.

عوامل اجتماعية ونفسية

يعاني كثير من الأطفال أثر ما عاشوه خلال السنوات الماضية، والذي خلّف العديد من الأمراض النفسية التي لم تتح لهم الظروف فرصة علاجها، وهو ما انعكس أثره بشكل كبير على قدرة الأطفال ورغبتهم باستمرار تعليمهم.

وقال التربوي حسان حسين، إن الطلاب الذين يعانون صدمات نفسية بحاجة لأساليب تعامل غير تقليدية.

وأوضح أن أسلوب التعليم الذي يحتاج إليه الأطفال في سياق الحروب، هو التعليم القائم على الدعم النفسي الاجتماعي، كي يتقبل الأطفال العملية التعليمية.

كما يبدي الأهالي مخاوف من المشكلات الاجتماعية المترتبة على تلقي أبنائهم مناهج تعليمية تخالف معايير المجتمع وأفكاره، كالحالة التي جسّدتها العلاقة بين قطاع التعليم والمجتمع في مناطق شمال شرقي سوريا، إذ قرر العديد من أهالي المنطقة عدم إرسال أبنائهم المدرسة، خوفًا من مناهج “الإدارة الذاتية”.

وبحسب دراسة لمركز “حرمون للدراسات المعاصرة“، عملت “الإدارة” على فرض سياستها من خلال هذه المناهج التي أُعدت استنادًا إلى فلسفة عبد الله أوجلان، باعتباره قائدًا روحيًا للشعب الكردي، ولقيت هذه المناهج رفضًا من قبل شريحة كبيرة من العرب والكرد والمكوّنات الأخرى، بسبب تخوفهم على مستقبل أبنائهم.

مجموعة طلاب في ساحة إحدى المدارس في مناطق سيطرة النظام-10 من أيار 2022(يونسيف)

عواقب التسرب تحكم على مستقبل سوريا وأطفالها

يترك التسرب من المدارس آثاره على الأطفال في الحاضر والمستقبل، لكنه في الوقت نفسه يترك أثرًا كارثيًا في مستقبل سوريا بأكملها.
ويرتبط استقرار البلد خاصة بعد الحروب بمستوى التعليم وعدد المتعلمين، بحسب ما قاله التربوي حسان حسين، معتبرًا أن خلق جيل متعلم واعٍ بذاته وعلاقاته ومسؤولياته تجاه البلد له الأثر الأكبر على التعليم.

وفي ظل غياب التعليم، تنتشر عمالة الأطفال والجهل وعدم تحمل المسؤولية، هذا ما يجعل عجلة التطور تتحرك بطريقة عكسية، وفق حسين.

وأضاف التربوي أن من المحتمل تحول أثر التسرب إلى مشكلات نفسية وسلوكية، مثل ارتفاع نسبة الإجرام.

وترى الباحثة الاجتماعية حلا حاج علي، أن دور المدرسة لا يقتصر على التعليم، بل تلعب أدوارًا اجتماعية ونفسية.

كما يتعامل الطفل المتسرب من المدرسة مع فئات عمرية أكبر منه وبسويّة أخلاقية مختلفة في كثير من الأحيان، ما يجعله عرضة لمشكلات أخرى، مثل الانحراف والمشكلات السلوكية وتبني الأفكار المتطرفة.

ويرتبط التسرب بالوضع الاقتصادي، إذ كلما انخفض مستوى التعليم تراجع التطور الاقتصادي وازداد الفقر.

حلول “محدودة” ضد التسرب

رغم كثرة الحلول التي تُطرح لتحسين واقع التعليم في سوريا والحد من التسرب، تعتبر الحلول المتاحة محدودة جدًا، في ظل الواقع الاقتصادي المتدهور واستمرار الصراع.

هذا ما يؤكده تقرير “يونيسف” الصادر في العام الحالي، إذ أفاد أنه وفقًا لمعدل التمويل الحالي، ستحتاج المنظمة وشركاؤها في قطاع التعليم إلى حوالي 30 عامًا لإعادة تأهيل جميع المدارس المتضررة والمدمرة، لتعويض الأطفال المنقطعين والمتسربين من التعليم.

ومن أبرز الحلول المتاحة، توعية الأطفال والأهالي بأهمية التعليم، إلى جانب توعية المعلمين بطرق التعامل مع الطلاب في ظل تفشي الصدمات النفسية، وفق ما قاله التربوي حسان حسين.

وأضاف حسين أن من الضروري وجود داعم نفسي اجتماعي في جميع المدارس، وإلغاء العقاب السلبي فيها.

كما يجب على الحكومات توزيع الموارد بشكل عادل، وتخصيص حصة جيدة منها لقطاع التعليم، إلى جانب وضع قوانين صارمة تمنع تسرب الأطفال.

ويسهم توفير الدعم المهني ضمن المدارس بالحد من التسرب، والحد من عمالة الأطفال، وفق التربوي.

ويرى التربوي أن من الضروري التركيز على “التعليم المتسارع” لمساعدة الأطفال المتسربين والمنقطعين.

التعليم المتسارع: هو برنامج مرن يناسب الفئات العمرية المختلفة، يُطبّق في إطار زمني مكثف، ويهدف إلى توفير فرص تعليمية لليافعين والأطفال المحرومين من التعليم ممن تجاوزوا سن دخول المدرسة. ويشمل هذا البرنامج الطلاب الذين تسربوا من المدارس، ومن انقطع تعليمهم بسبب الفقر والتهميش، والحروب والأزمات.

 

English version of the article

مقالات متعلقة