من الجنوب إلى الشمال.. كيف أثرت الحرب على تقاليد الضيافة في سوريا

camera iconتعبيرية (تعديل عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – خالد الجرعتلي

لطالما وضع أبناء الأرياف والبادية السورية الضيافة في مقدمة اهتماماتهم، وكان إكرام الضيف الصفة الملازمة في تلك المناطق، وفي المدن السورية، حافظ السوريون على عادات الضيافة وتقاليدها في مجلس الرجال و”صبحيات” النساء وجلساتهن.

كانت “الذبيحة” (لحم الأغنام) لأبناء دير الزور ودرعا، و”الثرود” في الحسكة والرقة، و”النزالة” لأبناء مدينة الحسكة، عادة لا بد منها عند نزول ساكن جديد.

وكانت المضافات لا تغلق أبوابها في حوران من القنيطرة حتى السويداء، مرورًا بدرعا، فتوضع دلال القهوة في حال تأهب بانتظار ضيف أو عابر سبيل طوال 24 ساعة.

وخلال العقد الأخير، والحرب التي عصفت بالبلاد، وما رافقها من أزمة معيشية امتدت على مختلف المناطق، تغيّرت الأمور، وانتشرت طوابير المنتظرين لشراء السلع الأساسية في المدن، أو معاناة النازحين والمهجرين داخليًا، ومنازل الصفيح المنتشرة على هوامش وأطراف المدن.

وعامًا بعد عام، لازمت الأزمة حياة ملايين السوريين، وباتوا غير قادرين حتى على تأمين خبزهم، فكيف بهم يحافظون على عادات إكرام الضيف المرتبطة بثقافتهم، وقد وصارت أبسط وسائل استقبال الضيوف، من الأمور التي يجب جدولتها بعناية، والتعامل معها بدقة.

عنب بلدي وصلت إلى بعض المناطق والمدن لمعاينة التغيّرات التي طرأت على عادات الضيافة.

بدائل الضيافة

لطالما اختلفت أساسيات وطقوس الضيافة لدى السوريين بين أرياف المحافظات ذات البيئة الريفية، ومراكز المدن فيها، إذ يعد إكرام الضيف في ثقافة الريف من الأمور الرئيسة، حتى لو كان مجرد عابر سبيل.

وكان المتعارف عليه بالنسبة لمحافظة درعا التي ينحدر منها جبر (55 عامًا)، أن الضيافة تختلف فيما إذا كان الضيف من أبناء البلدة أو من خارجها، فإذا كان غريبًا عن المنطقة يولَم له بذبح خروف، ثم يتبعها في الوجبة الثانية تقديم وجبة من الدجاج.

أما الضيوف من أبناء البلدة، سواء في السهرات التي اعتاد السكان إقامتها، أو في الولائم غير الروتينية، فيستقبَلون في إحدى المضافات، ويقدّم فيها الشاي والقهوة الحلوة، إلى جانب القهوة المرّة، التي تعتبر عنصرًا أساسيًا في كل جلسة بالنسبة للمنطقة المعروفة بتركيبتها العشائرية.

لكن الحال اليوم لم تعد كما كانت عليه سابقًا، خصوصًا أن أسعار السلع الأساسية واللحوم ارتفعت عشرات الأضعاف، تزامنًا مع انخفاض المدخول بالنسبة لمعظم أبناء محافظة درعا.

عادات الضيافة تغيّرت مع تغيّر الأوضاع المعيشية في منزل “أبو محمد” (65 عامًا)، إذ كانت تُذبح الذبائح على شرف الضيف سابقًا، أما اليوم فصار سعر الذبيحة يتراوح بين 400 ألف و500 ألف ليرة سورية، في حين يبلغ سعر الكيلو الواحد من لحم الفروج 17 ألف ليرة.

وعلى الرغم من الضائقة التي يعانيها سكان من محافظة درعا، ما زالوا متمسكين بعادات الكرم وحسن الضيافة رغم التكاليف المرتفعة، ويستعيضون عن المستلزمات المرتفعة السعر بالحلويات والأطعمة المحضرة منزليًا.

ومن الضيافة التي تتميز فيها درعا حلويات تُعرف محليًا باسم “اللزاقيات”، وهي نوع من أنواع الحلويات الشعبية تُخبز على الصاج ويُضاف إليها السكر والجوز، وهو ما يعتمد عليه سعيد (50 عامًا)، من أبناء المحافظة، اليوم خلال استقبال الضيوف، إلى جانب لحوم الدجاج.

أما في درعا المدينة، فقال “أبو علي”، وهو أحد وجهاء المدينة، إن أبناء درعا حافظوا على “عرف الضيافة”، باعتباره موروثًا من الأجداد، وهو ثابت لن يتغيّر بتغيّر الظروف مهما حصل من ضيق على الناس.

وأضاف أن الحياة أصبحت صعبة على عامة الناس، لكن أصول إكرام الضيف لا تزال واجبًا بالنسبة لكل حوراني، حتى لو اضطر لاقتراض المال، “عليه أن يقوم بواجبه تجاه ضيفه”.

أصناف من الضيافة محضرة في المنزل في محافظة درعا (عنب بلدي)

تغيير في الثقافة

ومن أقصى الجنوب إلى شمال شرقي سوريا، حيث الجزيرة السورية، تحدث جاسم (63 عامًا)، وهو من أبناء بلدة جزعة شرقي الحسكة، عن تجذّر الطبيعية العشائرية لأبناء المحافظة، واهتمامهم بأصول إكرام الضيوف.

وأبرز ما اشتهرت به المنطقة، حسب جاسم، تقديم وجبة “الثرود” للتعبير عن مدى احترام صاحب البيت لضيفه، وهي وجبة مكوّنة بشكل أساسي من أرغفة خبز الصاج تطبّق فوق بعضها (ستة أو ثمانية أرغفة وسطيًا)، يُسكب فوقها مرق ولحوم الأغنام حصرًا.

ومع التغيرات التي طرأت على حياة السوريين على صعيد الوضع المعيشي، تغيّرت مكونات هذه الوجبة في منزل جاسم، إذ صار “الثريد” يُطبخ بلحم الدجاج، رغم أنه كان أمرًا “معيبًا” بالنسبة لسكان المنطقة سابقًا، بحسب ما قاله لعنب بلدي.

ولم يعد من الممكن بالنسبة لسكان ريف الحسكة الشرقي شراء ذبائح كما جرت العادة لديهم، إذ وصل سعر الخروف الواحد إلى نحو 500 ألف ليرة سورية.

ارتفاع الأسعار، بحسب جاسم، غيّر من ثقافة المنطقة، وصارت هناك مرونة تسمح بتقديم لحم الدجاج، رغم أن أسعاره مرتفعة أيضًا، وليس بمتناول الجميع.

قلّة قليلة من وجهاء العشائر وشيوخها بقيت محافظة على عادات الضيافة على شكلها القديم، إذ لا يزالون يحضّرون الولائم، ويعدون “الثريد” من لحوم الأغنام حتى اليوم، كما قال جاسم.

أثّرت الظروف المعيشية المتردية على نمط وأسلوب حياة صالح (48 عامًا)، الذي ينحدر من مدينة الحسكة، وعلى طبيعة العلاقات الاجتماعية، ومن ضمنها أصول الضيافة.

غياب “النزلة”

أصبحت المائدة أقل تنوعًا حتى بالنسبة لأفراد العائلة نفسها، بحسب ما قاله صالح لعنب بلدي، حتى في ظل غياب الضيوف، وصارت تقتصر على عدد قليل من أصناف الطعام.

ومن خلال وعي أغلبية السكان بالظروف المعيشية المتردية، بات معظمهم يتجنبون الزيارات في أوقات الطعام، كموعد الغداء مثلًا، بهدف عدم إحراج المضيف، وإجباره على تجهيز وجبة غداء مكلفة تعادل أحيانا نصف راتبه الشهري.

كان من عادات أهل الحي الذي يقطنه صالح إعداد وجبة طعام تدعى “النزالة”، تحضّر في حال انتقل شخص جديد للسكن في الحي.

وكانت شروط هذه الوجبة تقتضي إعدادها من لحم الأغنام حصرًا، وتعتبر مبادرة للتعارف بين الجار الجديد وسكان الحي.

واستُنبط اسم وجبة “النزالة” من نزول ساكن جديد في الحي، لكن الأوضاع المعيشية أثرت أيضًا على هذا العُرف.

وغاب هذا الطقس عن مدينة الحسكة منذ سنوات، لعدم القدرة على إقامته، وكان ذلك محرجًا في البداية، لكنه صارًا أمرًا طبيعيًا اليوم، فالأحوال معروفة بالنسبة للجميع، حسب تعبير صالح.

الريف والمدينة

مقابل العادات العشائرية في الريف والبادية، تفاوتت الأمور في المدن، حسب الدخل والظروف الاقتصادية للشخص، إلا أن الأمور تغيّرت بالعموم.

الأوضاع المعيشية المتردية أثرت في نمط الضيافة بالمدن، هناك من ألغاها بالكامل، خصوصًا في مراكز المدن التي لم تدخل الطبيعة العشائرية إلى أصول الضيافة فيها، كمدينة سلمية شرقي حماة مثلًا.

ورغم أن سلمية تحيط بها عشرات القرى التي يقطنها البدو وأبناء العشائر، لم تكن عادات إكرام الضيف متطابقة مع المناطق ذات الطبيعة العشائرية.

“رغد” اسم وهمي لسيدة أربعينية من أبناء مدينة سلمية، قالت لعنب بلدي، إن أساسيات دخول الضيف كانت مقرونة دائمًا بإعداد المتة، والحلويات، لكن ارتفاع الأسعار في المدينة التي تشتهر بفقر سكانها أساسًا، حال دون الحفاظ على هذه العادات.

ويلجأ اليوم قسم من سكان المدينة من ضعيفي الحال إلى استبدال الشاي بالمتة لأغراض الضيافة، كون سعر علبة المتة اليوم نحو 16 ألف ليرة سورية في المدينة، وهي لا تكفي بضعة أيام للاستخدام الشخصي.

وكنموذج عن تراجع القدرة على استضافة سكان المدينة لبعضهم، تحدث حسن (34 عامًا) لعنب بلدي عن فترة زواجه قبل بضعة أشهر، والزيارات العديدة من الأقارب والأصدقاء للتهاني.

وبما أن الجميع تعايش مع الأوضاع الصعبة وتفهم ظروفها، بات الضيوف يطلبون عدم تقديم أي شيء سوى الشاي، لتجنب إحراج المضيف، وفق ما قاله حسن.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة