عنب بلدي.. من الصفر

tag icon ع ع ع

علي عيد

كنت قبل يومين في حوار مع رئيس تحرير عنب بلدي، جواد شربجي، وكان يطرح الأسئلة الكبرى، حول رسالة الصحافة، وما إذا كانت عنب بلدي وضعت نفسها على طاولة النقد والتقييم ليعرف جمهورها والعاملون عليها من كوادر أين تسير.

اتفقنا أننا في هذا الحوار نضع على رؤوسنا قبعة التنظير في استراحة قصيرة، دون أن تفلت أيدينا الأقلام، لكن تبين أنها ليست استراحة بالمطلق، بل قلقًا وشعورًا بالمسؤولية وأنت تسير بجمهورك في حقل ألغام.

اليوم، تدخل عنب بلدي عامها الثاني عشر، والمناسبة أن العدد المطبوع رقم “صفر” انطلق في 29 من كانون الثاني 2012، وعلى مدار تلك السنوات استمرت بالصدور كل يوم أحد، باستثناء أسبوعين عقب “مجزرة داريا الكبرى” في آب من نفس عام انطلاقها.

يحتار ضمير الصحفي وهو يكتب مقالًا في وسيلة إعلامية بات أحد كوادرها، وربما بين أواخرهم، وقد قضى وتعب دونها قبله صحفيون وناشطون أطلقوا تجربة صحفية من الصفر، تطورت في تلك السنوات، لكن، هي مناسبة أيضًا لإلقاء التحية والاستئذان من القرّاء طالما أنني أصبحت أيضًا بين كتابها مؤخرًا، لكنها ليست تحيّة المعجب بما يقول أو يكتب، ولا حتّى تلميع المكان الذي بات جزءًا منه، بل مناسبة للحديث عن الهواجس وطرح الأسئلة الكبرى التي خطرت خلال النقاش آنف الذكر، وأنتم مدعوّون للمشاركة فيه.

تطورت عنب بلدي، وبات موقعها الإلكتروني ومنصاتها على وسائل التواصل مصدرًا للمعلومة، وهي تقول في أدبياتها، إنها تسعى إلى “نقل المعرفة.. من خلال نشر الأخبار وإعداد التقارير المعمقة التي تعنى بالشأن العام، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا”، وقد لا يتفق كثير من المنظرين معها في جزئية نقل المعرفة، قدر وجوب كونها وسيلة إخبار، وهذه الجزئية بالذات تبقى موضع جدل لا على مستوى عنب بلدي فحسب، بل على نظريات الصحافة والإعلام.

خلال اجتماعات غرفة التحرير اليومية في عنب بلدي، يمكن لصحفي مثلي أمضى نصف حياته متنقلًا بين وسائل إعلام متعددة أن يلمس نوعًا مختلفًا من التفكير، الباب مفتوح للنقاش وصراع الأفكار، لكنه موصود أمام اختراق المعايير والأخلاقيات، وهذه الأخيرة معركة يخوضها الكادر طوال الوقت، ويصابون دونها أحيانًا بالإحباط في محيط يعجّ بصحافة “الترند” والإثارة.

الصحيفة التي صدّرت كوادر إلى وسائل إعلام أخرى، تدفع كمثيلاتها ضريبة أن تكون إعلامًا مستقلًا، وأن تبني كوادرها من النقطة صفر، لكنها غالبًا ما تصل إلى نقطة جرى التوافق على أنها أحد عناصر قوتها، وهي أن تبني شخصية الصحفي على أسس مهنية معقولة.

إشكالية الرسالة وبناء الشخصية الإعلامية، هي أكثر ما يقلق في عنب بلدي، وهذا جزء من الحوار، إذ تقول عنب بلدي إنها تركز على “تعزيز طرق المقاومة السلمية ومحاربة الطائفية ولغة العنف”، وهي مسؤوليات كبيرة في بلاد لا يستند الصراع الممتد فيها إلى مشروع موحّد، فلا أحد يقدم نظرية عقد اجتماعي لبيئات مزّقتها الحرب، ولم تتوصل الأطراف إلى مشروع وطني يمكن أن تنتقده الصحافة أو تلقي الضوء عليه وتحاور أصحابه.

وبعد هذا كلّه، كيف يمكن أن تدير الصحافة الحرّة رسالتها، وأن تحدّد مهمتها، وتعرف مسؤولياتها تجاه ما تقدّم، طالما أن هناك انقسامًا حادًّا بين الجمهور، يحمل أحيانًا صبغة طائفية، أو حقدًا مجتمعيًا، يغذّيه إعلام منفلت، أو سلطة حاكمة، أو قوى أمر واقع، ثم هل يحقّ للصحافة أن تدعم مشروعًا، حتى ولو كان وطنيًّا.

تحاول عنب بلدي “تقديم معلومات موثوقة للسوريين حول الأحداث”، حسب ما تعرف عن نفسها، ومجرّد أن تلتزم المعايير المهنية، فهي بذلك تلعب الدّور المفترض لها، فهي تخبر، وإذا نجحت في الثبات على مهنيّتها، فهي لا تدعم فقط، بل تؤثر وتشارك في صناعة مشروع وطني، عندما تنقل انفعالات الجمهور وآراءه، ما يفترض أن تكون منشغلة بمعظم إنتاجها في إحضار الجمهور بجميع مكونات الطيف إلى الواجهة.

تبدو الرحلة طويلة، فقد تغير شكل الإعلام، وعندما تحاول السلطة في بلد ما مثل سوريا إمساكه من الناصية، هناك مساع في بلاد أخرى للإلمام فقط بما يحصل حتى لا تمزق ثورة الإعلام الجديد مجتمعاتها وتغذي الجريمة وخطاب الكراهية فيها، وشتان بين العمل على عقلنة الإعلام ووضعه أمام مسؤولياته، وبين مساعي ضبطه وتسخيره لتثبيت قواعد سلطة أو حزب أو الدفاع عن مصالح مموليه.

أين تقف عنب بلدي اليوم وأين ستصل، هذا ليس سؤالًا يخصّها فقط، بل يخص ملايين السوريين، وبلادهم التي تشهد مأساة غير مسبوقة في تاريخها الممتد لأكثر من 100 عام بشكلها الجغرافي الحاضر.

وأنا أتحدث عن عنب بلدي، أجدني مدفوعًا لاستعادة التذكير بأن الصحافة جزء من الصراع من أجل الحرية والعدالة، وهو صراع طاحن تشعر به وسائل الإعلام المستقلة والمهددة بكل أشكال المنع، كما أستعيد استعارة مقولة الأديب النمساوي، شتيفان تسفايغ، “كان علينا أن نتعود بالتدريج أن نعيش بلا أرض تحت أقدامنا، وبلا عدالة، ولا حرية، ولا أمن”، وهو تمامًا ما تقاومه الصحافة المسؤولة المستقلة، ومنها عنب بلدي، وهو الجمرة التي تقبض عليها اليوم.. أوليست حرية الصحافة جزءًا أساسيًا في الحريات العامة، بل في صدارتها.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة