"حتى لا نكون حطبًا للمرحلة"

من الغوطة المحاصرة إلى ألمانيا.. كيف تغيرت حياة ناشطي الثورة السورية؟

tag icon ع ع ع

حنين النقري – عنب بلدي

لم يتوقع كثير من السوريين عندما حملوا راية الثورة أن يطول بهم الأمد ﻷكثر من بضعة أشهر، استمدّوا أملهم وتوقعاتهم من تجارب الربيع العربيّ السابقة، ومن نواميس كونية تقول إن الحقّ ينتصر، وكان ذلك كفيلًا بتكريس وقتهم جلّه لما يؤمنون به.

فتجاهلوا زوايا حياتهم كلها إلا العمل الثوريّ، التعلم والعمل والزيارات والترفيه عن النفس، كلّه توقّف “مؤقتًا”، بشعارات من قبيل “لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس”، ريثما يحققون الهدف وتنتصر ثورتهم، وهكذا تخلّف كثرٌ عن دراستهم الجامعية أو أعمالهم لعام، أو عامين، لكن هل استمر ذلك حتى اللحظة؟ وما هي أولويات ناشطي الثورة الأوائل اليوم؟

نور الموسى (اسم وهمي)، وهي طالبة جامعية في كلية الهندسة من مدينة داريا، شكّلت المظاهرات والأعمال الثورية محور حياتها في العامين الأولين، كما تقول، “كانت النشاطات المتعلقة بالثورة هي أولوية وكل شيء آخر ثانوي، ويحتمل الانتظار والتأجيل، من التزامات الجامعة إلى التزامات العائلة”.

عندما كانت الثورة محور الحياة

تغيّبت نور عن الجامعة بشكل متكرر لالتزامها بالأعمال الثورية، بل لدرجة التوقف عن الدوام كليًا، وتضيف “امتنعت عن تقديم بعض الامتحانات احتجاجًا على اعتقال بعض من أصدقائنا، وعلى احتجاز البعض الآخر في أماكن محاصرة ومشتعلة حيث حرموا من الالتحاق بجامعاتهم”.

تقول نور إن من شاركها من الطلاب بموقفها “الإضرابي” هذا كانوا قلة، لكنها تعزّي نفسها “المهم أنني قمت بما وافق مبادئي وقيمي”.

“كنا حينها في منزلنا بداريا” تضيف بحسرة، هناك كانت حريصة على المشاركة بأي مظاهرة تعلم بتنظيمها مع دائرة من أصدقاء الثورة المقربين، وتنقل جزءًا من نشاطها في تلك الحقبة “كنا نجتمع لنفكر بنشاطات ثورية جديدة تدفع الناس للتفاعل وتزيد نسب المشاركين، كالإضرابات وتوزيع المنشورات، وأعمال الغرافيتي على الجدران، وغيرها من طرق الاحتجاج السلمية”.

كانت نور تقوم بنشاطاتها خفية عن أهلها، فهم، ورغم معارضتهم للنظام وتأييدهم للثورة من حيث المبدأ، يرفضون الانخراط في الحراك حينها، حسب نور “لم يكن أهلي يعلمون بشيء، وكنت أمضي وقتي كله مع شركائي في العمل الثوري، الأمر الذي جعلني بعيدة عن كل حياة اجتماعية وكأني في عالم آخر”.

سوريا.. الثقب الأسود

لكن الأمور لم تستمرّ على هذه الشاكلة، وبدأت نور تفكّر تدريجيًا بمستقبلها الشخصي بالتزامن مع نزوحها وعائلتها إلى دمشق، تضيف “بدأت الإحباطات تتالى وتتكرر، وتسلل إلي الشعور بالعجز، بفقد الدور الذي كنتُ أشارك من خلاله بـ (العمل السلمي)، وصارت أدوات الثورة على الأرض مختلفة عن الأدوات التي أمتلكها… السلاح سيّد الموقف، وأنا أرفض حمله كليًا ومقتنعة بأن دخوله للثورة كان أكبر تدهور لها”.

تعيش نور في دمشق حتى الآن، وتقول إن مسألة الانتقال لمنطقة محررة تعاود العمل الثوري فيها موجودة دائمًا، “لكن ذلك يعني خلافًا شديدًا مع أهلي قد يصل إلى قطيعتهم تمامًا، ورغم أن حياتي الثورية الآن معدومة، إلا أنني من خلال عملي التطوعي أحاول أن أغير ظروف الناس للأفضل وهو ما كنا نسعى إليه بعد مرحلة إسقاط النظام”.

ونتيجة لذلك كله استأنفت نور حياتها الجامعية، وتوضح “أحاول أن أبني نفسي علميًا، ورغم تخلّفي عن جامعتي أسعى للتخرج الآن ومتابعة الدراسات العليا في إحدى الدول الأوروبية، نحن هنا في سوريا نعيش في ثقب أسود، يمر الوقت علينا دون أن نطور ذواتنا”، وهي بذلك تسعى أن يكون بين يديها ما تقدمه للبلد عندما يتاح لها ذلك مجددًا.

وعن الاختلاف في أولوياتها بين أول عامين من الثورة والآن، ترى نور “في أول عامين كان هدفي إسقاط النظام، كنا نعتقد أن الأمور سهلة لدرجة استنزفنا معها أوراق حراكنا السلمي في أول عامين، اليوم أولوياتي أن أبني ذاتي وفق استقرار نسبي لأقدم جهدًا مستدامًا للثورة”.

محمد: مازلنا مستمرين

محمد، طالب هندسة زراعة من مدينة دوما في الغوطة الشرقية، شارك بالثورة من يومها الأول، لكنّ نزوحه المتكرر عنها جعل حياته الثورية تمرّ بمرحلة “سبات”، كما يسميها، “حاولت حينها أن أتابع دراستي وأنخرط مجددًا في المجتمع، لكنني لم أستطع، كنت أشعر بخطر كلما مررت على الحواجز، عندها قررت العودة إلى دوما ولم تكن قد حوصرت بعد”.

عاد محمد إلى مدينته “المحررة” في آذار 2013 بشكل نهائيّ، تاركًا خلفه جامعته وأحلامه بالتخرّج، وبدأ التفكير بطريقة يشارك فيها بالعمل لبلده، “خضعت لتدريبات عسكريّة تمكنني من حمل السلاح والدفاع عن نفسي عند الحاجة، لكن إصابتي في قدمي جعلت انخراطي بالعمل المسلح أمرًا مستحيلًا”.

تحول قرار محمّد نحو العمل الطبّي، وتلقّى تدريبًا ليصبح من المسعفين في النقاط الطبية، ويقول “أنا أسكن اليوم في النقاط الطبية، أحيانًا يكون ذلك بسبب ضغط أعداد الجرحى بعد إحدى المجازر، وأحيانًا لعدم رغبتي بالعودة لمنزلي فارغًا بعد خروج أهلي من سوريا”.

“لا خيار لنا إلا الاستمرار”، يضيف محمّد، فحياته في منطقة محاصرة تعني وجود واجبات أكثر بكثير من الإمكانيات، ما يحتّم عليه البقاء لتقديم ما يمكنه المساعدة به، ويضيف “البقاء هنا لم يعد من منطلق ثوري فحسب، بل إنساني بشكل أساسي”.

كانت أولويات محمد فيما مضى أن يتخرّج من الجامعة، لكنها اليوم بعيدة كل البعد عن هذا “أولوياتي في هذه المرحلة أن أساهم بتخفيف الألم وجعل ظروف الحياة أفضل هنا، سأستمر بهذا حتى ينكسر الحصار ويعود أهلي وأتابع دراستي وحياتي”.

ميس: أحلام بحجم الوطن

كحال نور، كانت ميس مع الثورة في مخيم اليرموك، تفرّغ تام للعمل السلمي ونشاطاته جعلها تلغي كل زوايا حياتها الأخرى، وتقول “لا أتوقع أنني كنت سأتخرج من الجامعة لو لم أتخرج منها قبل الثورة، كنت أشارك بكل ما أستطيعه من وقت وجهد”. دخلت الثورة إلى كل جوانب حياة ميس في تلك الفترة، وتتابع “لا أذكر أي شيء من حياتي الشخصية ينفصل عنها، حتى أنني تعرفت على زوجي الحالي خلال عمل ثوري مشترك، أحلامنا كانت بحجم وطن”.

تمثّلت أولويات ميس في تلك المرحلة بزيادة الوعي لدى الناس بحقوقهم وتوسيع رقعة المشاركين، بحسب توصيفها، الأمر الذي دفعها ومحيطها الثوري لتنظيم جلسات ثقافية “كنا نحضر جلسات توعية سياسية وتاريخية ونقرأ كتبًا تتعلق بها، ككتب الأنشطة السلمية ودروس من الثورات السابقة كفصل الثورة الفرنسية في كتاب قصة الحضارة”.

تعيش ميس في ألمانيا منذ شهرين في رحلة لعلاج زوجها ومتابعة الدراسة، وتقول “أولوياتي اليوم اختلفت، فهي تنحصر بتخصصي بشكل أكبر في مجالي، لأتمكن من تقديم شيء بإمكانه أن يصنع فرقًا، بالإضافة لمساعدة اللاجئين إنسانيًا هنا”.

من التظاهر إلى الصحافة

يخبرنا طريف، وهو مدوّن وطالب جامعي، أنه وأصدقاءه كانوا ينتظرون إشارة لاشتعال شرارة الثورة في سوريا ليبدؤوا تنظيم المظاهرات في مدينتهم حمص، “كنا نشجع من حولنا على النزول والتظاهر، وإن لم يكن لدينا رؤية لما بعد النزول للشارع، كان ذلك خلال السنة الأولى من الثورة تقريبًا”.

خفّت وتيرة المظاهرات في حمص بعد اقتحام بابا عمرو الأول، لكنها بقيت تتنقل من حيّ لآخر، وهنا بدأ طريف وأصدقاؤه بتنظيم أنواع مختلفة من النشاطات، إلى أن تفككت المجموعة بعدها، ويقارب ما حصل مع المجموعة بحال الثورة، “المجموعة التي كنت أنتمي إليها بات حالها كحال الثورة اليوم، فمؤسسها اغتيل، آخرون اعتقلوا، ومن بقي منهم على قيد الحياة نجا بنفسه مسافرًا”.

هنا انتقل طريف للمجال الإعلامي بحكم خبرته بالتدوين والكتابة، لنقل ما يجري في حمص، “ركّزت على الكتابة ونقل الواقع، أتابع وأراقب ما يجري وأكتب مقالات للصحف الثورية، تزامن هذا مع التزامي التام بالمنزل بسبب التضييق العسكري على حمص، نتيجة لذلك أهملت دراستي كليًا لعامين متتاليين لم ألتزم فيها حتى بالامتحانات الجامعية”.

“حتى لا نكون حطبًا للمرحلة”

تحوّل معظم الناشطين المقربين من طريف للعمل المسلح بعد سنوات ثلاث من التصعيد على حمص، فيما سافر آخرون، وكان الخياران مستبعدان بالنسبة له حسب قوله، “العمل المسلح لا يتقاطع معي البتة، كذلك السفر في ذلك الوقت، لذا تابعت بعملي الصحفي بالإضافة لعودتي للجامعة”.

اضطر طريف للسفر إلى تركيا منذ عام لتخلفه عن الخدمة العسكرية، لكنّه استمر بما كان يقوم به في حمص، ويضيف “اليوم أحاول تحسين أدائي الصحفي وفهمي للسياسة والمجتمع، أعمل حاليًا مع أحد مشاريع التوثيق لجميع مواد الثورة الرقمية، وما زلت أكتب مواد الرأي بين حين وآخر”.

يرى طريف أن المرحلة الراهنة يجب أن تكون للعمل على تطوير الذات لتقديم الأفضل لاحقًا، ويردف “العمل لثورتنا بات استراتيجيًا، ولم يعد متوقفًا على أسبوع ولا شهر، وإدراكنا أن المسار السوري وصل فعلًا لحالة الحرب الدولية يحتّم علينا معرفة دورنا وإمكانياتنا، لئلا نكون مجرد حطب لهذه المرحلة”.

نور، ميس، محمد، وطريف، أربعة ناشطين جمعهم عملٌ واحدٌ في السنوات الأولى من الثورة، الأولويات ذاتها والحلم عينه، ورغم تشتّتهم الظاهريّ في شرق الأرض وغربها، مايزال كلّ منهم يؤمن أنه يعد نفسه لدور منتظر في الغد، مهما تأخر.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة