من حكايات الصحافة وطرائفها

tag icon ع ع ع

علي عيد

صعوبة أن تكتب مقالات في الصحافة والإعلام تكمن في تفكيرك بجمهور ما تكتب، فقد يعتبره القرّاء “أكلة ناشفة”، وها أنا أحاول أن “أطرّيها”.

تُعرف الصحافة على أنها مهنة تستهوي الكثيرين. ومن أصحاب المهن والاختصاصات الأخرى، مثل الطب أو القانون أو حتى الميكانيك، يخرج مبدعون صحفيون، وهي ليست قاعدة، وكما يتميز فيها أذكياء ومحنّكون وأدباء، “يتعربش” عليها بعض الجهلة.

أحد أوجه “العربشة” وطرائفها التي عايشتها في سوريا لسنوات، ظاهرة مندوبي الإعلان، الذين تقدموا شيئًا فشيئًا حتى بات بعضهم مالكي مجلات ودوريات، وهذا ليس عيبًا، لكن بعضًا من المندوبين كانوا بالكاد “يفكّون الحرف”.

ذات مرة أراد مندوب أعرفه جيدًا أن يستدرج مدير مؤسسة إنتاجية حكومية ليحصل منه على حصة إعلانية، فاتصل به قائلًا: حضرة المدير، إذا سمح وقتك أنا الصحفي “فلان” بدي أعمل معك “كورتاج” صحفي، فأغلق المدير السماعة في وجهه، وتحولت القصة إلى “نكتة” ما زلنا نتداولها منذ نحو 20 عامًا.

وطرائف أذكياء المهنة، ما حدثنا به نقيب الصحفيين اللبنانيين، الراحل ملحم كرم، وكنت أعمل وقتها من دمشق لمجلة “الحوادث” التي يملكها عبر داره “ألف ليلة وليلة”، وأشير إلى أن “الحوادث” في عهد كرم هي أقل جرأة وأهمية بكثير منها في عهد الراحل، شهيد الكلمة، سليم اللوزي.

كان ملحم كرم صحفيًا مرموقًا، واستطاع محاورة كثير من الزعماء، لكن عينه كانت أكثر على دعم بقاء “الحوادث” ومجموعته الإعلامية بالمال، أكثر من قضية الصحافة وحملها الثقيل لقضايا البلاد والعباد.

في رحلة قادها كرم، الملقب بـ “النقيب”، أو “النئيب” باللبنانية الدارجة، إلى الكويت في الثمانينيات مع وفد من رؤساء تحرير الصحف، للقاء أمير البلاد، الراحل الشيخ جابر الصباح، خشي الوفد أن ينسى الأمير الهدايا، فغمز “النقيب” أحد أعضاء الوفد كي يسأله كم الساعة على اعتبار أن للقاء مدة محددة، وكل زيادة تعني فيها إشغال الأمير.

سأل عضو الوفد عن الساعة، فأجاب ملحم كرم المسيحي الماروني عن السؤال بالآية الكريمة: “إن الساعة آتية لا ريب فيها”، والتقط الشيخ جابر الغمزة، فأشار إلى إدارة القصر بإحضار الهدايا، وكانت ساعات من ماركة “رولكس”، وكان الوفد يعرف عادة أمير الكويت وهداياه.

أما من طرائف الصحافة المبكية التي عايشتها في سوريا بعد حراك الثورة عام 2011، ما حصل معي حين كنت أعمل في وكالة “سانا” الرسمية للأنباء.

كنت نائبًا لرئيس مديرية الإعلام الجديد وقتها، وأقرر في باقة الأخبار التي يتم بثها لمشتركي خدمة العاجل على الهواتف الذكية، فورد في الوكالات خبر اكتشاف مقبرة جماعية من العهد الروماني في أحد البلاد، وهو خبر ثقافي كان موضع اهتمامنا، فقمت ببث رسالة بالخبر.

ما هي إلا دقيقتان حتى كان مدير الوكالة يهاتفني ويصرخ، ماذا تقصد ببث هذا الخبر، قلت أي خبر، فأجاب: المقبرة الجماعية، مشيرًا إلى أنني أحرض الناس على ما يجري في سوريا.

أُسقط في يدي، وأنا أحاور ذلك المدير الذي أصبح وزيرًا، ثم ها هو الآن سفير في إيران، أقرب حلفاء دمشق، لكنني أدركت أنه كان مأخوذًا بأخبار المقابر الجماعية لضحايا حراك الثورة على أيدي أجهزة الأمن من جهة، وعدم ثقته بي وبموقفي وظنه أنني سأخرج ذات يوم بخبر عاجل عن سقوط بشار الأسد، أو ربما إعلان انقلاب، وهذه الأخيرة “نكتة” حول ما يدور في ذهن الرجل.

أما نكات الأخطاء المطبعية في عصر الصحافة الورقية فتلك قصة أخرى، فذات مرة، وكنت أعمل في صحيفة خليجية، ارتكب “الصفّيف” خطأ قاتلًا، وهو الشخص الذي ينقل النصوص من الورق إلى الكمبيوتر.

كتب الرجل دون انتباه كلمة الأمير دون أحد أحرفها، وكان ذلك عنوان خبر رئيس، ثم وفي مطحنة العمل والإرهاق، مرّ الأمر على المخرج الفني، وعلى المدقق اللغوي، ومدير التحرير ورئيس التحرير، فكانت الكارثة التي انتهت بتحقيقات وفصل، وأذكر أن نصف صحفيي الجريدة ظلوا لفترة طويلة يقومون من نومهم مذعورين، ظنًا من كل واحد منهم أنه نسي حرف الميم.

حصلت مثل تلك الحادثة في سوريا، وفي صحيفة “البعث”، إذ أرسل ياسين رفاعية مقاله الثقافي من بيروت على ما أذكر، وكان عن حبّ الغلمان عند العرب والمسلمين، وخرج المقال إلى النور، فحمله البوطي إلى الأسد الأب “تحت إبطه”، وانتهت القصة بسلسلة تحقيقات وفصل، وأود أن يكتب عنها زملاء صحفيون، بينهم عدنان عبد الرزاق، إذ كان وقتها ضمن “المعميكية”.

ما سردته “فوق” هو عن القصص الطريفة، وليس عن الصحافة الساخرة، وتلك قصة أخرى، فلطالما كانت الصحافة مهنة الطرائف.

مع مطلع القرن الـ20، خرجت المآسي بقالب هزلي، وقدمت نماذج لافتة في الكتابة الساخرة، وظهرت صحف ومجلات بارزة مثل: “الدبور”، “الخازوق”، “حط بالخرج”، “ضاعت الطاسة”، “انخلي يا هلالة”، “السعدان”.

وكانت الصحافة الساخرة سببًا في نقمة الأنظمة، وربما تكون “الدومري” لصاحبها علي فرزات، واحدة من الصحف التي أزعجت السلطة في سوريا مع صدور كل عدد منها حتى جرى إيقافها.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة