من كل بيئة طبق.. النزوح يضع بصمته في “سكبة رمضان” بإدلب

camera iconعادة "سكبة" رمضان في إدلب- 27 من آذار 2023 (عنب بلدي/ أنس الخولي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – أنس الخولي

بعد يوم شاق من الصيام والعمل، يدخل محمد جوابرة (36 عامًا)، وهو سائق سيارة أجرة في إدلب، منزله ليجد أطباق طعام لم يألفها على سفرة الإفطار، كـ”الثريد” الديري أو “السفرجلية” الحلبية أو “حراق إصبعه” الشامية، أرسلها لهم الجيران كطقس من الطقوس الرمضانية التي يحاول السوريون الحفاظ عليها.

وقبل أذان المغرب بدقائق، تُطرق أبواب البيوت لتبادل أطباق مختلفة من وجبات الإفطار، ومع اختلاف أصول المقيمين في إدلب وتعددها، بسبب ما فرضه واقع النزوح، صارت “سكبة رمضان” طريقة للتعرف على ثقافات المحافظات الأخرى في إعداد الطعام، خاصة بعض الأطباق المشهورة.

السكبة“، خاصة في رمضان، عادة توارثها السوريون منذ عقود، ويعود تاريخها بحسب ما يرويه الباحث بالتراث الدمشقي منير كيال إلى حادثة، كان فيها أحد فقراء دمشق يتلقى أطباق الطعام من جيرانه يوميًا، إلى أن زاره في يوم ما شخص من الريف في وقت وجبة الغداء، حيث كان توقيت زيارته محرجًا.

وعندما دُعي الزائر إلى مائدة طعام الرجل، فوجئ بوجود أكثر من عشرة أطباق مختلفة على المائدة، كما طُرق الباب مرة أخرى قبل البدء بالطعام، ليعود صاحب المنزل بطبق طعام إضافي للمائدة، وحينها أصبح الزائر يروي ما شاهده لكل من يلتقيه، حتى انتشرت القصة بين العائلات، وأصبحت من عادات جميع السوريين، وفق ما قاله كيال في كتابه “دمشقيات مرابع الطفولة ومهوى الأفئدة”.

ومنذ ذلك الوقت، لا تعتبر “السكبة” حكرًا على الأغنياء فقط، بل كان الغني والفقير يصبان الطعام لبعضهما، وفق الباحث، مشيرًا إلى أن “السكبة” كانت جزءًا من طريقة الأخذ والعطاء التي كانت سائدة، ولعلها امتداد محرّف لطريقة المبادلة والمقايضة القديمة، لكنها في جميع الأحوال كانت تكريسًا للتداخل بين الأسر، والتعاطف القائم بين الناس، وتبادل المحبة.

تبادل ثقافي

لا يتبادل المقيمون في الشمال السوري أطباق طعام تحمل أصنافًا متنوعة من الأطعمة فقط، بل ينقلون عبرها ثقافات ومذاقات خاصة بمنطقة معيّنة، تبعد عن إدلب مئات الكيلومترات.

ووفق الإحصائيات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يبلغ عدد السكان في شمال غربي سوريا نحو 4.5 مليون نسمة، 2.9 مليون منهم نازحون داخليًا.

هناء منصور (59 عامًا)، مهجرة من درعا تقيم بإدلب، في بناء مؤلف من ثماني شقق، تسكن كل شقة أسرة من محافظة من سورية مختلفة، ليجتمع في البناء الواحد أبناء الشمال والجنوب والشرق والغرب، وحتى المناطق الوسطى، على حد قولها.

وأضافت هناء لعنب بلدي، “في البداية لم نتعرف إلى بقية الجيران، فلكل أسرة عاداتها وثقافتها، ومحيطها الاجتماعي المختلف، ومع حلول الشهر الفضيل، فتحت سكبة رمضان الأبواب لمزيد من الود، ومن خلال السكبة تعرفنا إلى عادات وثقافات جيراننا”.

جارة هناء المهجرة من حلب قدمت لها طبق “السفرجلية” الحلبي الذي لم تكن تعرف مذاقه من قبل، لتعيد لها الطبق مليئًا بوجبة “المليحي” الأشهر في درعا.

حسناء إبراهيم (35 عامًا) من إدلب، قالت لعنب بلدي، إنها تبادلت مع جارتها أطباقًا من نفس الطبخة تسمى في إدلب “الآرمان”، بينما تسمى في دمشق “شاكرية”، ومع أن الطبقين من نفس المكوّنات، فإن المذاق مختلف تمامًا، بحسب قولها.

ومن فوائد عادة “السكبة”، بحسب ما قاله الباحث منير كيال في كتابه “رمضان في الشام”، أن الطعام كان يُطبخ لأكثر من يوم، دون تنويع في الأطباق، لما ستسهم به هذه العادة من توفير عديد من الأطباق، إذ كانت تؤخذ “السكبة” بعين الاعتبار ويُعتمد عليها، خاصة في شهر رمضان، فلا تُكثر النساء من التنويع، خشية التبذير أو الإسراف.

عادة “سكبة” رمضان في إدلب- 27 من آذار 2023 (عنب بلدي/ أنس الخولي)

تراجع وانحسار

مع تدهور الوضع المعيشي، تراجعت عادة “سكبة رمضان” خلال السنوات الماضية، وأصبحت تقتصر على ميسوري الحال، أو أصحاب الدخول المتوسطة.

كما تصطدم معظم العائلات بارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وسط توقعات بارتفاعها أكثر.

وبحسب استطلاع أجرته منظمة “أوكسفام” على 300 نازح في حلب، فإن 90% منهم قالوا إنه لا يمكنهم وضع أي خطط للاحتفال برمضان، لأنهم استنفدوا مواردهم الأخيرة.

وقال ما يقرب من 70% ممن شملهم الاستطلاع، إن منازلهم دُمرت جزئيًا، بعد الزلزال المدمر الذي ضرب أربع محافظات سورية في 6 من شباط الماضي، و65% منهم كانوا يعتمدون على مساعدات المنظمات غير الحكومية للبقاء على قيد الحياة، كما فقد 22% وظائفهم أو مصادر دخلهم، واقترض 37% منهم أموالًا لتغطية احتياجات أسرهم.

عابس الحسين (45 عامًا) مهجر يقيم في إدلب، قال لعنب بلدي، إنه في ظل الغلاء الفاحش وضيق الحال اللذين يفتكان بالأسر في الشمال السوري، فإن تكلفة إعداد وجبة إفطار لأسرة مكوّنة من خمسة أشخاص تزيد على 14 دولارًا أمريكيًا، بينما يصل متوسط دخل العاملين اليومي في أحسن الأحوال إلى خمسة دولارات فقط.

ويتجاوز سعر كيلو اللحم نحو ثمانية دولارات، أي ما يعادل أجرة العامل ليوم أو يومين، ما أدى إلى عجر فئة كبيرة من المواطنين عن إعداد أنواع الأطعمة التي تحتوي على اللحم.

عبير الوادي (30 عامًا)، مهجرة تقيم في إدلب، قالت لعنب بلدي، إن هناك أصنافًا من الطعام يعتبر اللحم عنصرًا رئيسًا فيها، إلا أن ضيق الحال يجبرها على إعدادها دون لحم أو بكميات قليلة جدًا منه، “نخجل من إرسال طبق منها للجيران”، بحسب تعبيرها.

وتعاني ما بين 75 و80% من العائلات في سوريا باستمرار من فجوة في الدخل والإنفاق لتلبية الاحتياجات الأساسية، بحسب أرقام الأمم المتحدة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة