لا علاقة للصحفي بالثورة ولا بالسلطة

tag icon ع ع ع

علي عيد

خلال السنوات التي أعقبت ثورات الربيع العربي، صار من الصعب تحقيق العدالة المهنية من قبل صحفي يكتب ضد السلطة أو آخر يقف ضد حراك الشارع.

انسحبت المواقف السياسية على أداء وخطاب الصحفيين قبل مؤسساتهم، وتبنى كثيرون منهم مواقف حدّية متطرفة باتجاه هذا الطرف أو ذاك.

صحفيون تبنوا رواية السلطة وزاودوا عليها، وتورط قسم كبير منهم في الترويج للاعتقال والقتل، والادعاء على الآخر بأنه إرهابي وخائن، ومنهم من حمل الهراوة مكان القلم.

صحفيون بالمقابل تبنوا رواية أن السلطة تكذب في كل ما تقول، وأن كل أجهزتها ومؤسساتها وموظفيها صغارًا وكبارًا هم مدانون تجب محاكمتهم، وبين هؤلاء من برر جرائم الصفّ الذي يرى نفسه فيه.

دون تقييم أداء السلطة، وكل سلطة قهر بطبيعة الحال، كيف يمكن تشخيص هذا الصدع الخطير بين خطابَين، ومن الذي يتحمّل المسؤولية في هذا كله.

يعتقد قسم من الصحفيين والناشطين الصحفيين أن للمعركة ضروراتها، وأن عليك استخدام كل ما يتاح من أدوات لكسب المعركة، وهذا كله اصطفاف مسبق لمصلحة طرف، ليس من الصحافة وقواعدها الأساسية في شيء.

بينما تدور رحى الحرب، يخوض الصحفي معركته الخاصة دون رصاص ودون دم ودون أفكار منحازة، وهذه مهمة صعبة.

أذكر قولًا للروائي الجزائري الطاهر وطّار يقول فيه، “إذا حضرت البنادق ذهبت العقول”، وعند هذا القول تحديدًا يمكن فهم مدى قدرة الإنسان على الاصطفاف إلى جانب مسؤوليته ومهنيته، قبل اصطفافه إلى جانب عصبته أو رغيف خبزه أو أمنه.

إذا أردت أن تبقى صحفيًا مسؤولًا وصادقًا، يمكنك أن تكون جزءًا من التغطية الإعلامية دون انحياز، ويمكنك أن تغطي المعركة، وأن تقدم المعلومة حول خسارة طرف تميل إليه، أو ارتكاب جريمة على يد جماعات تتقاطع معك عقائديًا أو بانتماء مناطقي أو عرقي.

قد يتساهل الصحفي بتمرير كذبة صغيرة في كومة حقائق، لكنه في هذه اللحظة يُفقد الرسالة نزاهتها ومعناها، ويُمهّد لثمن يدفعه من سمعته، وتدفعه الوسيلة الإعلامية التي يعمل لمصلحتها، كما ستدفع الحقيقة ذاتها ثمنًا باهظًا في وقت لاحق.

ليست هناك صحافة عادلة هذه الأيام، هناك ما يسعى منها أن يكون عادلًا، وهو قليل، ومشكلة الصحافة هي أنها جزء من الصراع المحتدم في كل اتجاه، فهي ليست قاعة محكمة متخصصة تضبطها قوانين ويصدر فيها القضاة حكمهم النهائي بعد حين.

الصحافة، وأقصد فيها الإعلام، هي جدل المجتمع وصراعاته، عواطفه، جرائمه، خدمات وأيديولوجيا السلطة، صفحة التسالي لمتقاعد ثمانيني داخل مأوى العجزة، أخبار كاذبة تفبركها شركات الأدوية لزيادة مبيعاتها، وأحلام الثائرين ونزق المتمردين، وكل ما سبق ومن سبق يريد أن يحجز مكانه على فضاء الإعلام.

وحده الصحفي في هذه المعركة المعقدة مُطالَب بالحقيقة قبل وسيلته الإعلامية، كأنه ربان طائرة يحافظ عليها من السقوط ليس حفاظًا على أرواح ركابها أو مصالح الشركة التي تملكها فقط، بل لكيلا يموت هو أيضًا، ولأجل هذا يلتزم بقوانين محطة الوصول، ويعرف أن مسار الرحلة ليس ملكه، وأن قوانين الملاحة أيضًا ليست ملك شركته.

أعود للسؤال، كيف يمكن تفسير الصدع المهني بعد ثورات الربيع العربي، وسأذهب إلى سوريا مثالًا.

هناك عوامل تتعلق بتأسيس البيئة المهنية وصولًا إلى رسالة مسؤولة، تتلخص هذه العوامل بتأهيل الصحفي في المهنة وأخلاقياتها أولًا، ثم وجود بيئة تشريعية وقانونية تضمن حماية الصحفي وقدرته على الوصول إلى المعلومة وإيصالها، وثالثًا وجود مؤسسة إعلامية مسؤولة ومستقلة وغير منحازة.

بالرجوع إلى الشروط الثلاثة في سوريا، نجد أن شرط المهنية وتأهيل الصحفي كان يقع على عاتقه، وبالتالي، هناك صحفيون مهنيون، مثل لاعبين مميزين في فريق كرة قدم فاشل، ولم تكن كوادر القطاع مؤهلة لاستحقاق تغطية ثورة بالشكل المطلوب، أما بقية الشروط، وهي تقع على عاتق الدولة ومؤسساتها، فلم تكن متوفرة بالمطلق.

نتج عن هذا الخلل اصطفاف في مختلف القطاعات، ولأن الصحافة مهمة في أوقات الحروب، فقد دفعت الثمن الأكبر عندما رسخت السلطة هذا الاصطفاف، وقررت أن تستخدم الدم بدل الحبر، وأن تلطخ الشاشة بمشهد الموت العريض، وألا تقبل الآخر.

مسؤولية السلطة هي أنها تحتكر القوة ولا تمارسها، وما حصل هو عكس هذا وفي كل المجالات، وبشكل مخطط، تم تطريف وشيطنة خصوم “الدولة” وتضخيم قوتهم وحجمهم لا كطالبي حق ومعارضي رأي، بل كقوى فصائلية مدججة بالسلاح والمفخخات، وتحول الناس إلى أهداف مشروعة، فأصبحت القاعدة أن السلطة لا تحتكر القوة لوحدها، لذلك مباح لها أن تمارسها، وجرى استخدام الإعلام بصورة ممنهجة لترسيخ هذا المبدأ.

ترتب عن حراك 2011، صحافة مواطن وناشط، يدعو كثيرون لعدم محاكمتها، لكن بالإمكان القول إنها دعوة للتنصل، إذ تم تسخير تلك الصحافة لتغذية كبريات وسائل الإعلام العربية والدولية، ونشأت صحافة داخلية بديلة مشوّهة، هي ليست صحافة بالمعنى المهني، إلا أن إصرار القائمين عليها على وصفها بالصحافة، يحتّم إعادة تقييم التجربة مهنيًا لا سياسيًا وعاطفيًا.

عرفنا أن الصحافة ليست حيادية، مهما كلفنا نفي ذلك من نظريات وتفسيرات، أي صحيفة أو قناة تلفزيونية ستنحاز في النهاية إلى قيمة أو موقف أو قضية.

انحياز الإعلام إلى القضايا العادلة، يكون بتقديم المعلومة الصحيحة عند نقل الخبر، والسماح لصوت ممثلي تلك القضايا بأن يظهر بشكل عادل مقابل أعدائهم.

مناصرة الثورات إعلاميًا تكون بضبط عواطف الناس وإعمال عقلهم، وإن كان هذا تنظيرًا رومانسيًا برأي البعض.

ليس صحيحًا أن خطاب الصحفي الثوري مهم لانتصار الثورة، أبدًا، وهذه ليست مهمته.

مهمة الصحفي تقديم المعلومة بالمستند دون انحياز، والاهتمام بنقل ما يحصل، واستحضار متخصصين لتفسيره، فإذا اعتبر الصحفي انتخاب بشار الأسد مجرد “نكتة” ينتصر عليها بإنتاج تقرير ساخر مع قليل من المؤثرات المدهشة ولقطات مقتطعة من دراما كوميدية، ستكون النتيجة فوز الأسد بالانتخابات، ولو كان مزيّفًا، واستمراره بالحكم حتى 2028، وربما لوقت أطول، مقابل خمسة ملايين مشاهدة للثورة وإعلامها.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة