نموذج توضيحي حول آلية مواقع التواصل الاجتماعي في صناعة الاتجاهات

tag icon ع ع ع

صفوان قسام

يُحكى أن العالم كان يُقسم خلال الحرب الباردة إلى ثلاثة أشكال من البلدان: بلدان العالم الأول، وهي البلدان الرأسمالية “المتقدمة”، وبلدان العالم الثاني، وهي بلدان الشيوعية والاشتراكية وكانت تسمى بلدان “الطوابير”، ففيها نجد دائمًا طابورًا ما، طابور السكر والشاي والأرز والقهوة والمستشفى والخبز والغاز… وبلدان العالم الثالث، وهي الدول المتخلفة (حاليًا صارت تسمى النامية).

وكانت تدور طرفة وقتها أن واحدًا من أبناء بلدان الطوابير شاهد طابورًا لم يُعرف لأي سلعة هو، فسأل آخر واقفًا لمَ هو في هذا الصف؟ فلم يعرف وقال: شاهدت طابورًا فوقفت لأخذ حصتي، فعاد صديقنا ليسأل من اصطف قبله وكانت الإجابة السابقة عينها، وبقي يسأل كل من في الصف حتى وصل إلى أول واحد، فأجابه: لا أعلم، كنت مارًا في الشارع فتوقفت لأربط حذائي ولما انتهيت وجدت طابورًا بدأ بالتشكل خلفي، ولأنني كنت أول الواقفين في الصف لم أشأ أن أترك مكاني لغيري!

تساعدنا هذه المقدمة “الخاصة بالدول الاشتراكية” في فهم آلية تشكّل الاتجاه والمواقف لدى الأفراد والجماعات، وصناعة الرأي العام، فعلى سبيل المثال، تلعب التنشئة الاجتماعية دورًا أساسيًا في تبلور الاتجاهات الفردية والاجتماعية، بالإضافة إلى ظروف أخرى تسهم في تكوين الشخصية والاتجاه وتبني الرأي، كالتجارب والخبرات الشخصية، والعمر، ومستوى تعليم الفرد والعائلة، والوضع المعيشي والاقتصادي والحضري… يقول علم النفس الاجتماعي، إن الفئة العمرية فترة اليفاع وبداية الشباب هي أسهل الفئات استمالة للأفكار الجديدة، خصوصًا الثورية منها واللانمطية، لذا نجد أن التيارات الأيديولوجية تتصارع وتتسابق في استمالة الشباب الغض لأنهم مندفعون يتبنون القضايا بعمق وبعنفوان يصل إلى درجة التطرف في الانتماء ورفض المغاير لها، كذلك نجد مثلًا أن السياسيين فترة الانتخابات يتسابقون لاستمالة الحياديين أو الرماديين، وليس الأنصار أو أنصار الخصم، فأنصار الخصم لن يحصل عليهم بسهولة، بينما يتم تكوين الأنصار خلال سنوت، أما الحياديون أو الرماديون وخصوصًا الشباب منهم، فهم الأسهل استمالة، واليوم نحن نرى هذه السباقات على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن الشباب التزموا بها كجزء من نمط حياتهم.

ومن بين الأمور التي تسهم في تبني الاتجاهات، الظروف العائلية، فقد تتبنى فتيات شاهدن أمهن تتعرض لشتى صنوف العنف والإهانة على يد زوجها، اتجاهًا خانعًا للرجال أو كارهًا لهم وللزواج عمومًا، وربما يتطرفن إلى درجة الميل للسيطرة عليهم وإذلالهم أو رفض الارتباط بهم أساسًا أو حتى الاتجاه نحو الارتباط بنفس الجنس، وقد تعاني إحداهن مشكلات زوجية أو ارتباطًا مسمومًا بشريك يدفعها لتبني اتجاه معارض للرجال عمومًا وتطرف في معارضتها. وهذه الظروف التي تولّد اتجاهًا حادًا يجد ضالته في الأفكار والحركات المتطرفة التي نتجت عن ظروف مشابهة، وهي التيارات النسوية المتطرفة ونخص بالذكر هنا: النسوية الماركسية والراديكالية والفردية.

ومن المعروف أن النسوية في بداياتها المبكرة كانت تطالب بالمساواة مع الرجل في الشؤون السياسية وتحديدًا حق التصويت والاقتراع، ثم ومع التعقد الاجتماعي وتطور الوعي الإنساني ودخول الأفكار والأيديولوجيات، بدأت تراكمات العلاقة بين الرجال والنساء وتفسير التطور الاجتماعي تضيف إلى هذه الحركة أبعادًا جديدة، أفضت إلى التطرف الذي نعيشه اليوم.

تبدأ القصة على مواقع التواصل الاجتماعي على النحو التالي: تجربة فردية لسيدة ما عانت فيها ظلمًا اجتماعيًا على يد رجل آخر، وبغض النظر عن حيثيات القصة، نجدها تخرج لتعبر وتنفس عن غضبها على موقع “فيس بوك” مثلًا، تهاجم الرجال عمومًا، وهو أمر مفهوم حتى اللحظة لأنها في غير وعيها نتيجة الضغط الذي عاشته، وتقوم بخطأ شائع جدًا وهو “التعميم”، ولكون الخطاب الحاد يلامس ويحفز من يقرأ، يتم التضامن معها حين تعبر عن مظلمتها، وسنجد أن المتفاعلين/ات مع ما تم نشره كثر، ولأن خوارزمية “فيس بوك” توسع نطاق نشر المنشورات التي تجلب تفاعلًا أكبر، يصل المنشور إلى عدد كبير، وهو ما يحوّل سيدة عانت مشكلة فردية إلى محط أنظار المئات فجأة. ولأن تجربة إيجابية بهذا الشكل حصدت هذا العدد من المعجبين، ستدفعها إلى تكرار منشورات من هذا النوع، فنجدها صارت في نظر المتابعين ناشطة ويقربونها إلى تيار فكري سياسي ما، ويعاملونها على هذا الأساس، وهو حسب الشائع (خطأً) مناهض للرجال، فتتبنى خطاب النسوية دون وعي بماهيتها.

سنجد أن مطالبتها للرجال تتمحور حول السلوك السيئ الذي تعرضت له، وتطالبهم بتعديله، لكنها لا تتبنى حتى الآن فكرة أعمق، كالعلاقات الأبوية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تناقشها النسوية، لكون انتسابها الظرفي لهذا التيار لم يكن على خلفية فكرية بل تجربة اجتماعية، وهنا وبسبب النقاشات التي تواجهها حول القضايا الجوهرية ترتكب كثيرًا من الأخطاء، التي تصبح نتيجة لعدد المتابعين وموقعها مسلّمة.

ثم تذهب للبحث عن إجابات، لتجد نفسها أمام أمور أعمق مما كانت عليها، فقد تكون السيدة تطالب بالمساواة التامة مع الرجال على صفحتها، ولا تعلم أن فكرة المساواة مع الرجل التي تنادي بها النسوية الأوروبية تشمل المساواة حتى بالعورة، والسيدة نفسها تضع حجابًا، وهنا تجد نفسها في مأزق، لتتراجع إلى تبني قضية العدالة الجندرية، والتي تعني تطبيق معاير كـ”الغوتا” النسائية سياسيًا، والتمييز الإيجابي تجاه المرأة الذي يعتبر تمييزًا سلبيًا ضد الرجل، ففي اللحظة التي تتساوى فيها الكفاءات تقريبًا بين الرجل والمرأة للتقدم إلى شاغر ما، يتم قبول المرأة لأنها امرأة ورفض الرجل لأنه رجل! نجدنا أمام لا مساواة، وهنا تظهر التناقضات بين المساواة والعدالة الجندرية التي تطالبنا بها الحركة النسوية.

لا يقف الأمر هنا، بعضهن يتبنين النسوية دون أي خلفية عنها وبشكل فردي مزاجي شخصي، فلا يعرفن أن التيارات النسوية المتطرفة تشملهن، وخصوصًا تيار النسوية الفردية (الذي انبثق عن النسوية الراديكالية) الذي يعتبر أن كل مشكلة نسائية فردية هي قضية النساء جميعًا ومنه ظهر شعار “الفردي سياسي”، لترفض تخطيء النسوة، وتعتبر مناقشة النسوية منطقيًا هجومًا ذكوريًا في غير أوانه، لأنهن في حرب ضد الذكورية، مع اجتراح مصطلحات، كالصوابية السياسية والذكورية السامة ودعم مجتمع “الميم” والزواج بين المثليين وعدم الالتزام بشريك واحد في أسرة كلاسيكية… وهي مفاهيم يتم إقحامها في أنوف المجتمع غصبًا، وتُسن السياسات والقوانين لأجلها، وتُستخدم لذلك أساليب كالعزل الاجتماعي والطرد من العمل والمحاربة في الأرزاق، وتبني سياسة دعم النساء لكل النساء أينما كن، فيما بات يسمى بـ”الأختية”، والتكتل والتنمر والتهجم بالمئات، حتى ولو كان لمجرد سوء فهم، وبإساءات لفظية، والفضح والتشهير، وتصديق الناجيات من عنف الرجال من دون تدقيق في خلفية الادعاء.

هنا تعود صديقتنا لتجد نفسها فجأة مضطرة لأن تعيد تقييم مواقفها النارية التي نُسبت إليها، ونعود للقصة التي بدأناها، حيث وجدت نفسها في أول الصف، تقف هناك دون أن تعلم إلى أين، هل تستمر في هذا السياق الذي يوصلها إلى تبني أمور قد لا تناسبها، أم تتراجع خطوة وتعلن تبنيها موقفًا أقل حدة، ومراعيًا للسياق الثقافي.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة