حكم العدالة في “جمهورية الموز”.. قضية تهريب وحماية خالد الحلبي

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – مشاركة

حملت العملية الاستخباراتية “الرفيعة المستوى”، التي جمعت أجهزة المخابرات النمساوية والإسرائيلية لتحقيق هدف مشترك، وهو حماية وتخبئة المدعو خالد الحلبي، اسم “الحليب الأبيض”. تجري إلى اليوم تحقيقات جنائية مكثفة ضد خالد الحلبي ومصعب أبو ركبة في النمسا للاشتباه بضلوعهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا في مدينة الرقة خلال عملهما لدى النظام السوري.

تولى خالد الحلبي منصب رئيس فرع “أمن الدولة” في مدينة الرقة، بالإضافة إلى كونه رئيس اللجنة الأمنية فيها، ما يجعله المسؤول الأول في سلسلة الأوامر عن جرائم قمع التظاهرات والتعذيب في الرقة، بينما كان مصعب أبو ركبة مسؤولًا عن التعذيب في فرع “الأمن الجنائي” بالرقة.

إلى حين كتابة هذا النص لم يتم تحريك ادعاء رسمي ضدهما لأسباب عديدة، أهمها بطء الإجراءات القانونية في النمسا، وصعوبة التحقيق في هذه الجرائم المعقدة، حيث لا توجد إمكانية وصول لمسرح الجريمة من قبل محققين، ولا إمكانيات عالية لديهم لفهم حساسيات وتنوعات السياق في سوريا.

بينما بدأت محاكمة خمسة مسؤولين نمساويين، هم أربعة عناصر في المخابرات ومسؤول في هيئة حماية اللاجئين، بتهمة “إساءة استخدام منصبهم عن عمد”، لتوفير الحماية للحلبي وتسهيل حصوله على حق اللجوء في النمسا، بشكل غير قانوني.

لكن لماذا ترغب إسرائيل بحماية خالد الحلبي؟ ما الذي تجنيه النمسا من عملية كهذه؟ ولمَ يجلس أربعة من عناصر المخابرات رفيعي المستوى في النمسا على كرسي الاتهام بتهم استغلال السلطة والنفوذ في هذه العملية؟ أسئلة لم تبرح تراودني طوال الأشهر الماضية. 

استيقظت صباح الجمعة، 14 من نيسان الحالي، وتوجهت إلى مبنى المحكمة في الحي الثامن، حيث جرت المرافعة في صالة المحلفين التاريخية الكبيرة نوعًا ما. لم تكن القاعة ممتلئة. بدأت المحاكمة بإلقاء المحلفين قسمهم ومن ثم طلبت هيئة المحكمة من محامية الادعاء البدء بسرد وقائع القضية. كان من السهل عليّ فهم مجريات المرافعة بسبب دراستي للقانون في جامعة “فيينا” واهتمامي المسبق بالتحقيقات التي تجري ضد المشتبه بهم السوريين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا والموجودين في أوروبا.

ذهبت ومعي دفتر ملاحظاتي وقلمي، بصفتي المساعدة القانونية للمحامية الموكلة عن ضحايا وناجين قدموا ادعاء ضد الحلبي وأبو ركبة، واستمعت بنهم لمرافعات كل من مكتب المدعي العام وردود محامي الدفاع عن المتهمين. لم أخطط في بداية المرافعة لكتابة هذا النص. لكني خرجت ورأسي ممتلئ بالانطباعات والمعلومات التي أرغب بمشاركتها مع السوريين والسوريات المهتمين بمعرفة ما جرى.

تمنيت لو أن بإمكاني نقل كل شيء قيل بحرفيته. فالمحامية الممثلة عن مكتب الادعاء كانت تستخدم لغة متهكمة ساخرة ومصطلحات عامية، محاولة بذلك إظهار عبثية القضية التي كانت مسؤولة عن بناء الادعاء فيها. كان الجو مشحونًا وشعرت لوهلة بأنني أحضر جزءًا من مسرحية ما ذات حبكة درامية رخيصة في “جمهورية الموز”.

“حركات بهلوانية” في “جمهورية الموز”

يستخدم النمساويون و آخرون حول العالم مصطلح “جمهورية الموز”، للسخرية من طريقة عمل الموظفين الحكوميين والسياسيين، التي تتسم عمومًا باللامبالاة والكسل، ما يسبب الحرج في الأوساط الدولية. فكلما حصلت فضيحة سياسية جديدة أو خرجت قضية فساد للعلن، لا يكف المواطنون في النمسا عن استخدام مصطلح “جمهورية الموز”  (Bananenrepublik).

هرّب موظفو المخابرات النمساوية المدعو خالد الحلبي من فرنسا، حيث وصل إليها طالبًا للجوء بعد سقوط مدينة الرقة بيد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في أيار 2013. وبسبب عدم حيازة خالد الحلبي آنذاك على جواز سفر صالح، ورفض فرنسا السماح له بمغادرة أراضيها، كان لا بد من القيام ببعض “الحركات البهلوانية”، ما أشعل الحماسة على ما يبدو في قلوب عناصر المخابرات النمساويين، فقاموا بنقله برًا مستخدمين سيارة نقل تابعة للدولة إلى العاصمة فيينا ومن ثم إلى مركز استقبال اللاجئين في ترايسكيرخن، حيث وصل أغلب السوريين والسوريات من طالبي اللجوء في النمسا.

وثيقة لجوء العميد السابق خالد الحلبي في النمسا (تعديل عنب بلدي)

لا تزال أسباب هرب الحلبي من سوريا وانشقاقه حتى اليوم غير واضحة. لا شك أن الضباط المنشقين من سوريا، وخصوصًا ممن كانوا يتقلدون مناصب عالية في المخابرات، غالبًا ما يسعون لإثبات حسن نياتهم من خلال مساعدة الثوار والانضمام للمعارضة، إلا أن خالد الحلبي انعزل تمامًا، واختبأ، ولا يمكنني شخصيًا سوى الاعتقاد بأنه ترك سفينة النظام في العام 2013 بسبب تكهنه بغرقها قريبًا.

لماذا الالتفاف على القانون؟

أشخاص مثل الحلبي لا يمكن منحهم حق اللجوء في الدول الأوروبية، فمن شروط منح حق اللجوء الإنساني ألا يكون طالب اللجوء يشكّل خطرًا على المصلحة العامة، وألا يكون ضالعًا بجرائم، كما هي الحال مع خالد الحلبي الذي كان مسؤولًا عن فرع “أمن الدولة” في الرقة، حيث جرى تعذيب وإذلال وقهر السوريين تحت إمرته. لذلك، لم يكن من الممكن منحه حق اللجوء من دون سلوك طرق ملتوية وارتكاب مخالفات قانونية ترقى لجرائم فساد واستغلال سلطة.

إن سلوك الطريق القانوني الصحيح كان سيجبر موظفي إدارة اللجوء في النمسا على ترحيل الحلبي إلى فرنسا أو رفض طلب لجوئه، بسبب كونه مجرم حرب فارًا من العدالة، الأمر الذي يؤسس لمسؤولية النمسا في فتح تحقيق ضده ومنحه فقط حق البقاء لأسباب إنسانية، بسبب عدم إمكانية الترحيل إلى سوريا حيث يوجد خطر حقيقي على حياته.

نص الاتفاق المخابراتي بين إسرائيل والنمسا على نقل الحلبي إلى النمسا والتدخل في ملف لجوئه، لضمان منحه حق اللجوء بأسرع وقت، وحمايته من الملاحقة في فرنسا، حيث كانت هناك تحقيقات جنائية جارية ضده. قام “الموساد” الإسرائيلي بتحويل مبلغ قدره خمسة آلاف يورو شهريًا متكفلًا بالتكاليف كافة، من سكن ومأكل وتأمين صحي.

وقد حجز موظفو المخابرات النمساوية مكانًا للحلبي في دورات تعلم اللغة الألمانية، ووصلوا الإنترنت لمكان سكنه، وخدمات أخرى ليست من واجبات عناصر المخابرات عادة.

اللعب على وتر “الدواعش”

لم تقدم المحامية الممثلة عن مكتب الادعاء العام أي معلومات عن طبيعة المعلومات الاستخباراتية التي سيقدمها الحلبي لإسرائيل أو للنمسا، إلا أن محامي الدفاع قدّم هذا الجواب، بتبرير وتوضيح لأهمية خالد الحلبي الاستخباراتية كونه كان مسؤولًا رفيع المستوى في مدينة الرقة التي سقطت بيد “داعش”، في فترة كان خطر “داعش” يزداد، وكانت السلطات النمساوية بأمس الحاجة لأي معلومات قد تكشف طبيعة التنظيم وآليات عمله، وقد تساعدها على فهم السياق في الرقة بشكل أفضل لحماية نفسها من خطر الهجمات الإرهابية.

حاول محامو الدفاع اللعب على الوتر العاطفي، حيث ذكّروا أيضًا بالهجمات الإرهابية التي حصلت بأوروبا في باريس وبروكسل في تلك الفترة، وأشادوا بقدرة المخابرات النمساوية على تفادي هذا النوع من الهجمات من خلال القيام بمثل هذه العمليات.

سُحب حق اللجوء من خالد الحلبي في هذه الأثناء، وصودرت وثيقة سفره، ويُعتقد أنه موجود في النمسا، بحسب ما عبّر محاميه، وأنه سيحضر كشاهد في هذه المحاكمة حينما تتم دعوته أصولًا.

لم تكن حقيقة ضلوع خالد الحلبي بجرائم تعذيب وقتل السوريين آنذاك ذات أهمية لجهاز المخابرات النمساوي، ولم يعتبر محامو الدفاع أن ضلوع الحلبي بمثل هذه الجرائم قد يكون إشكاليًا من أي ناحية، فهو بالنسبة لهم متهم بريء حتى يثبت العكس، بل إن العمل الاستخباراتي في بلد يحتم القيام بمثل هذه المقاربات لضمان الحماية والأمن في البلاد.

المخابرات ترفض الأدلة!

بدورها، تواصلت لجنة العدالة والمساءلة الدولية (CIJA)، المعروفة ضمن الأوساط السورية لدورها المهم بجمع وتحليل الأدلة للجرائم التي ارتكبت في سوريا بغرض استخدامها في محاكمات مستقبلية ضد مرتكبي هذه الجرائم، بشكل مباشر مع وزارة العدل النمساوية، وعرضت تقديم ملفات وأدلة تثبت مسؤولية الحلبي الجنائية عن جرائم تعذيب في سوريا.

يشترط القانون النمساوي وجود المشتبه به على الأراضي النمساوية بشكل دائم لبدء تحقيقات استنادًا إلى الاختصاص العالمي، ولا يكفي فقط وجود سجلات رسمية له. وبناء على ذلك، لم يكن من الممكن بدء التحقيقات ضده بسبب تدخل عناصر المخابرات وتغطية الحقائق عن موظفي وزارة العدل، ومنعهم من معرفة مكان الحلبي الحقيقي. وهذا يُظهر مجددًا إصرار هؤلاء الموظفين الأربعة على خرق القانون لحماية الحلبي، ليس فقط من الترحيل إلى فرنسا، بل أيضًا لحمايته من الملاحقة القانونية، فمن خلال عدم مشاركة المعلومات التي يمتلكونها عن مكانه، عرقلوا العدالة مستغلين نفوذهم كموظفي دولة. كل عنصر مخابرات يتقلد في ذات الوقت دور شرطي تحقيق جنائي، ما يلزمه قانونًا بتوصيل المعلومات التي يمتلكها لمكاتب الادعاء لبدء التحقيقات من هذا النوع.

بعد وصول مصعب أبو ركبة، مسؤول التعذيب في فرع “الأمن الجنائي” بالرقة، إلى النمسا وتقديمه طلب اللجوء، وتقديمه لمعلومات مهمة حول خالد الحلبي ودوره ومهامه التي تقلدها في سوريا، أخفى عناصر المخابرات أيضًا الحقيقة القانونية بأن مصعب أبو ركبة أصبح شاهدًا حسب أصول المحاكمات الجنائية، وبالتالي أخفوا حقيقة وجود المتهم والشاهد.

على عكس ما قد يتوقعه البعض، بأن المخابرات النمساوية ستقدّر عرض منظمة “CIJA” لتقديم أدلة ومعلومات، الأمر الذي تفرح لأجله أي وحدة استخباراتية في العالم، فقد رفض النمساويون تسلّم هذه المستندات، وقاموا من دون اللجوء إلى السلطات الهولندية بالتجسس وجمع معلومات وصور حول منظمة “CIJA” ومكتب عملها في لاهاي بهولندا.

لم يكن الدافع وراء هذا الفعل واضحًا بالنسبة لمكتب الادعاء العام. وقد يحلو للبعض الظن أن المخابرات النمساوية قامت بذلك بهدف معرفة ما إذا كانت “CIJA” على استعداد لمشاركة هذه الأدلة مع دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا أو فرنسا مثلًا، ما قد يكشف عمليتهم السرية “الأنيقة”، على حسب وصف أحدهم ضمن الرسائل التي صادرها مكتب الادعاء العام من هاتفه.

خلال ثلاث ساعات ضمن هذه المرافعة، لم يأتِ ذكر جرائم الحلبي في سوريا ولا لمرة واحدة. ورغم أن الادعاء العام ذكر فقط احتمالية ضلوعه بارتكاب هذه الجرائم، رد الدفاع بضرورة فصل القضيتين عن بعضهما، والتركيز على مصلحة النمسا وسمعة جهاز الاستخبارات الخاص بها.

السوريون محرومون من متابعة المحاكمة

لم يكن هذا الأمر مفاجئًا، لأن قانون أصول المحاكمات الجنائية في النمسا يشترط التزام السرية حول التحقيقات الجارية، ويفترض براءة المتهم حتى تثبت إدانته وحفظ حقوقه الشخصية. هذا يعني أن هيئة المحكمة ستمنع أي ذكر للحلبي بطريقة قد تلمح إلى حتمية كونه مجرمًا فارًا من العدالة. في النهاية، قدم محامو الدفاع طلبًا بتقييد وصول الرأي العام لهذه المحاكمة، بسبب تعاملها مع قضايا حساسة تمس بالأمن الوطني النمساوي.

المحامون الممثلون عن الناجين والضحايا المشتركين بالحق المدني ضمن قضية خالد الحلبي لضلوعه بجرائم التعذيب والقتل في سوريا، قدموا طلبًا بالنيابة عن 11 ناجيًا للانضمام بدورهم إلى محاكمة عناصر المخابرات، بكونهم المسؤولين عن حماية وتخبئة المجرم الذي كان سببًا في معاناتهم وعرقلوا مجرى العدالة من خلال خرقهم للقانون واستغلال نفوذهم.

رفضت هيئة المحكمة هذا الطلب مبدئيًا مبررة هذا الرفض بتقديم الطلب من دون كشف هوية المتقدمين. ولعل هذا مثال جديد عن قصور أنظمة وآليات حماية الضحايا في الدول الأوربية.

لا تستطيع هيئة المحكمة فهم حساسية السياق السوري ومستوى القمع الذي يتعرض له السوريون والسوريات، فهنا مالت المحكمة لحماية حقوق المتهمين عوضًا عن الضحايا، كون المتهمين في قضايا استغلال السلطة هم من النمساويين، والضحية في جريمة مثل جريمة استغلال السلطة بهذه القضية، حسب رأي المحكمة، هو الحق العام، وليس شخصًا بحد ذاته أو حتى الناجين من التعذيب الذين تم تجاهلهم وتجاهل احتياجاتهم ورغباتهم مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة