كيف يمكن أن يهضم مجتمعنا الأفكار الجديدة

tag icon ع ع ع

صفوان قسام

لن يصدق رجل بلغ مع العمر 80 عامًا خبرًا يقول إن الأرض دائرية، إذا عاش عمره معتقدًا أنها مسطحة، حتى لو ساق الخبر له كل حجج الأرض، لأنه سيشعر بذلك أنه عاش 80 عامًا وهو على خطأ. ليس في الأمر مفارقة ما، بل إنه من بديهيات علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، أن الإنسان يمر بفترات عمرية لكل منها خصائصها، ففي فترة الطفولة يمكن أن يتقبل الإنسان الأفكار بكل بساطة، ويمكن أن يتقبل نقيضها أيضًا، عند تقديم البراهين الكافية، وتبدأ هذه المرونة بالتحجر رويدًا رويدًا كلما تقدم بالعمر، وتلعب كثير من العوامل دورًا في تسريع هذا التحجر أو إبطائه، كمستوى التعليم ونوعه، ونوع الوافد الثقافي وتنوعه، وتنوع الأفكار والأماكن التي تمت زيارتها واقتناء الأجهزة الحديثة كالإلكترونيات وغيرها، وتنوع المجتمع والتعرض للصدمات والتجارب والخبرات الحياتية.

والمفارقة أن المجتمع بعكس الإنسان، من حيث تقبل الأفكار الجديدة، وكما قال الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا في كتابه “مبادئ التفكير العلمي”، فالبشرية كما لو كانت رجلًا بلغ من العمر 80 عامًا، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلا في السنتين الأخيرتين من عمره. وهذا يعني أن المجتمعات التي تعلمت في الأعوام الأخيرة هي الأكثر تقبلًا وانفتاحًا على الأفكار الجديدة، على عكس المجتمعات البدائية التي نصفها ظلمًا بـ”المتخلفة”، والتي تمثّل الفترة المبكرة أو طفولة البشرية.

إذًا، تقابل المجتمعات البدائية طفولة الإنسان، ولكنها الأقل مرونة وتقبلًا فكريًا، وعلى العكس، يمثّل المسن المجتمعات المتقدمة والأكثر انفتاحًا.

بالعودة إلى مجتمعاتنا العربية، التي وصفها المفكر والمؤرخ الفلسطيني هشام شرابي بأنها مجتمعات أبوية مستحدثة، فميز بين المجتمع الأبوي، وهو المجتمع البدائي المحصور في العائلة والعشيرة والقبيلة، الذي يستند إلى سلطة الأب ويبني كل شيء حوله، بيولوجيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وبين “البتريركية” التي تعتبر النظام الأشمل الذي تجاوز النظام الأبوي وشمله وعممه على كل النواحي الاقتصادية والسياسية، ويقول إن النظام الأبوي نظام ليس فيه حوار إلا من أجل فرض الرأي والسلطة، ولا وجود فيه للأنوثة إلا من أجل إظهار الذكورة وهيمنتها، وهذا النظام انبثق عنه نظام خاص بالمجتمعات العربية اسمه النظام الأبوي المستحدث.

هذا النظام الأبوي المستحدث، يستعبد المرأة ويحولها إلى شيء، ما تفسره الطبيبة والمفكرة نوال سعداوي، بأن جذره هو وضع “الجنس” بجوار الحاجات البيولوجية الأخرى، وبالتالي يصبح كالطعام والشراب، أي ممارسة مع جماد، والجماد هنا هو المرأة التي تتحول إلى وعاء تفريغ للرجل الذي يريدها كجسد لا كروح، وهو مجتمع لا مكان فيه للحجة إنما للقوة، والروابط بين أفراده تخضع لتراتبية تحدد تبعيتهم لبعضهم وفق علاقات الذكور، وهو ذو نزعة سلطوية شاملة لا تقبل النقد، وهو مجتمع هجين، بسبب جموده في نقطة ما عندما كان ينتقل من النظام التقليدي إلى النظام الحديث، حيث يعيش الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي، وأبناؤه يلدون آباءهم بمعنى أنهم يربون أبناءهم كما رباهم آباؤهم، وبالتالي جمع التقليد والحداثة دون أن يكون أيهما رغم تناقضهما، وهذا ما ضيع هويته. إنه مجتمع ابتلي حسب شرابي: “باللاعقلانية في التخطيط والتنفيذ والتحليل والتنظير والتنظيم، والعجز في التوصل إلى الأهداف والتغلب على التحديات”. والمشكلة الثانية أن المجتمع العربي هش أمام الخطاب العلمي، ويخفي ضعفه وهشاشته هذه وراء الفكر الديني. وهو يمارس سلوكًا شعائريًا وفق مراسم معيّنة في التقليد والأعراف ولا يخرج عنها، وهي ترتبط بشكل مباشر وغير مباشر بالأبوية المستحدثة.

من هذا الوصف الذي يمكن اعتباره معبرًا عن العطب الذي نعيشه، نستطيع أن نفهم أن هناك مشكلة في إرادتنا حول تقبل الأفكار الحديثة، فهي عندما تدخل على المجتمع تمر بـ”فلتر” معقد يقلبها بصورة لا معيارية، ويخرج استنتاج عنها قد لا يرتبط بقاعدة ثابتة، وربما كانت طريقة الترويج لفكرة جديدة طريقة ذات لحن، فاستهوت واستمالت الجمهور، واخترقت هذه الثقافة، وربما كانت ورغم أهميتها قاسية صدامية وقحة فأحجم عنها المجتمع واختصم حولها، ولنا في عمل المرأة ضمن المنزل مثال للتطبيق:

إن قال شيخ لنا إن على المرأة أن تعمل في المنزل وتلبي احتياجات زوجها وأطفالها ومنزلها، فسنجد أن الجميع قد تقبل الفكرة، لأنها تطرب مسامع الرجال، ولو قال اختصاصي اجتماعي إنه يجب إعادة النظر في عمل المرأة  المنزلي، وعلى الرجل أن يساعدها، لربما اختصم المجتمع حول هذا الرأي بين مع أو ضد، ولو قالت “نسوية يسارية” إن عمل المرأة داخل المنزل يضر بها من كل النواحي النفسية والاجتماعية والفكرية، ويعدم حياتها ويضيع جهدها، ثم قالت إن النساء في المنازل طبقة عاملة كطبقة العمال، فإن احجامًا شديدًا تجاه القائل والفكرة والفكر كله سيطال هذا المجتمع، الذي لمس شيئًا فيه تفسير شاذ “ثوري” لوضع المرأة التي اعتبرها أشبه بالجارية في المنزل وقض مضجع الفحولة فيه.

ماذا لو قال الشيخ إن على الرجال أن يساعدوا زوجاتهم في عمل المنزل؟ أو أن حيفًا وقع على المرأة وهي مثلها مثل الطبقات الكادحة في عملها ضمن المنزل؟ في الحالة الأولى سيتقبل المجتمع فكرة الشيخ، دون أن ندري إن كان سيقوم بالتطبيق أم لا، بينما في الحالة الثانية، سنجد اختصامًا في المجتمع حول هذا الرأي بين مع أم ضد.

نلاحظ هنا أن موقف مجتمع متشدد إزاء المرأة وعملها في المنزل، سيتغير عندما نغير حدة الخطاب وصداميته للثقافة المجتمعية، ومصدر الخطاب، وهذا ما تسعى الدول التي تحاول اختراق الثقافات للعبه في مجتمعاتنا الساذجة، فحتى تمنع المجتمع من التطور، تمول البرامج والمشاريع الصدامية للمجتمع الأكثر تطرفًا، وتوظف أسوأ الناس لتنفيذها، حتى يحجم المجتمع ويتقوقع ضدها، ويبقى متخلفًا، وعندما تريد تمرير مخططات بسلام تغيّر حدة الخطاب ومصدره، فيتقبلها المجتمع بصدر رحب.

وما يزيد الطين بلة أن مجتمعنا يعاني اليوم انغلاقًا شديدًا تجاه الأفكار الجديدة، وربما ارتبط هذا بالقهر الذي عاشه طوال الوقت السابق، إذ أصيب باليأس وصار يريد تمرير الأيام بشكل متشابه دون رغبة في التغيير والتطوير حتى تنقضي هذه الأيام ويحل الوعد الإلهي، لأن الدنيا بالنسبة لهم ليست مكانًا لتقبل الأفكار الجديدة، بل محطة مؤقتة فقط.

وعلينا أن نعي ونفهم هذا المجتمع فعلًا إن كنا نريد أن نحدث أثرًا إيجابيًا في وعيه.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة