وداعًا حيدر حيدر

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

بعد حياة حافلة بالإبداع الأدبي، غيّب الموت الكاتب والروائي السوري حيدر حيدر عن عمر 87 عامًا، اختتمها بالانزواء عن العالم كنوع من الاحتجاج على العجز الذي شعر به أمام ما يحدث في سوريا من مذابح وتدمير وتعذيب.

في 5 من أيار الحالي، أُعلن عن وفاة الكاتب حيدر حيدر (1936- 2023) بعد عزلة في جزيرة النمل قبالة طرطوس، حيث كان يعيش على الكفاف من راتبه التقاعدي ومن إيرادات كتبه التي أعاد إصدارها ابنه مجد حيدر في دار “ورد” التي يمتلكها.

وكان حيدر حيدر ولد في عائلة فقيرة من حصين البحر التابعة لوون، ودرس في مدينة حلب بمعهد دار المعلمين 1954، وعمل في الجزائر حتى عام 1974، وبعدها تشرد مع اليسار الفلسطيني في بيروت وقبرص إلى أن عاد مع روايته “وليمة لأعشاب البحر” إلى سوريا عام 1984 ليستقر فيها إلى يوم وفاته.

لمع نجم حيدر حيدر مع رواية “الفهد”، التي تحولت لاحقًا إلى فيلم سينمائي سوري شهير عام 1972، أخرجه نبيل المالح وتألقت فيه الممثلة إغراء إلى جانب شخصية “أبو علي شاهين” المأخوذة قصته عن متمرد في الساحل السوري يتحدى السلطات التي تعتبره إرهابيًا ومحرّضًا.

توالت الأعمال الأدبية لحيدر حيدر، واشتهرت مجموعته “حكايا النورس المهاجر”، التي صارت عنوانًا للتجديد في الكتابة القصصية السورية. وصدرت له مجموعات “الومض”، و”الفيضان”، و”التموجات”، و”الوعول”، وكتب في المذكرات.

أما روايته “الزمن الموحش”، فكانت تمتلك كثافة سردية وتصويرًا لهجرة أبناء الأرياف المحرومين إلى المدن الكبيرة، وخاصة دمشق التي تدفق إليها العسكر من الساحل السوري ومن غيره، باحثين عن بطولات ومغامرات، وكعادة الأدباء من أبناء الأرياف في العالم العربي، فإن المدينة في نظرهم مأوى للعاهرات والتجار، وتفتقد القيم النبيلة، ولكنهم يرفضون الرجوع إلى قراهم التي تتسم بكل ما هو دهري وثابت وأصيل، ويضيقون ذرعًا بمجرد زيارة قراهم التي صارت مهجورة بعد رحيل أبنائها إلى المدن على شكل عسكر ومثقفين وموظفين وباعة.

ورغم أن الظاهرة عامة، فإن الكاتب السوري محمد منصور اعتبر هذه الهجرة في رواية “الزمن الموحش” بمنزلة غزو وتمهيد للخراب الذي حل في البلاد لاحقًا. وبعدها هيمن بعض أبناء الأرياف على أجهزة المخابرات والجيش والوظائف الكبيرة، وصار كثير منهم من المنتفعين الذين مارسوا كل أشكال النفاق والقتل والقمع من أجل الحفاظ على مكانتهم.

أما العمل الروائي الأهم، والذي حمل اسم الكاتب إلى شهرة عربية، فهي رواية “وليمة لأعشاب البحر، نشيد الموت”، التي كتبها مستفيدًا من خبرته بالاختلاط بالمعارضين العراقيين الفارين إلى الجزائر، فالكاتب كان معلمًا للغة العربية في الجزائر.

الرواية تتحدث عن الحزب “الشيوعي العراقي” ومحاولاته المستمرة للسيطرة على الحكم في العراق منذ أيام عبد الكريم قاسم حتى أيام صدام حسين، وعن العصابات المسلحة التي شكّلها الحزب في الأهوار العراقية كتمهيد للقيام بالانقلاب الشيوعي المرتقب على طريقة جيفارا وفيديل كاسترو في كوبا، لكن المحاولات كانت مجرد رغبات أيديولوجية وتهويمات عن الثورة التي تفشل بقتل معظم عناصرها الحالمين بتفجير ثورة جيفارية عراقية، وتفشل أمام ضخامة القوة التي تجندها السلطات للقضاء على الجيش الثوري الشيوعي، حيث تذكر الرواية أن الشاعر العراقي مظفر النواب كان أحد عناصره، مع بطل الرواية مهدي جواد ومهيار الباهلي اللذين انتهى بهما المطاف معلمين في الجزائر، وتطاردهما السلطات حتى وهم في أقاصي الأرض.

اتسمت الرواية بتصوير حقبة من تاريخ العراق وأحلام شبابه، قبل أن يصل إليه الأمريكيون وملالي إيران ويغتصبون البلاد ويحوّلونها إلى ميليشيات طائفية، ولكنها في المقابل عانت من التجويد اللغوي والشعرية الزائدة التي أضاعت منطق الرواية لمصلحة خيالات الشعر والأيديولوجيا الهوائية، بالإضافة إلى الاحتفاء الدائم بمقولات عن الحرية والتحرر التي يناقضها أبطال الرواية في تصرفاتهم اليومية من خلال موقفهم المتخلف من المرأة، حيث تكون دائمًا مثار تشكيك وتعهير مجاني، ويتكرر وصف دم الطمث كقذارة في مواقع عديدة من الرواية.

ورغم أن السرد يتسم بسيول من الشتائم ضد المجتمع، ورفض الأديان، فإن الاستعمال الطائفي للأسماء لم يخرج عن الجانب الإيجابي للتدين الشيعي، فطقوسه تثير الحنين إلى الوطن والطفولة، أما الأسماء الطائفية المعاكسة فإنها تتجلى أحيانًا بشكل كريه، مثل اسم يزيد الذي يحمله الزوج الشرير للالا فضيلة، التي هي والدة آسيا من أب سابق من ثوار الجزائر، وآسيا هي طالبة مهدي جواد في الثانوية التي تحولت إلى عشيقته وظل يلاحقها بتساؤلات دائمة عن ماضيها.

تعتبر هذه الرواية هي المحرض على كتابات أحلام مستغانمي الشهيرة التي بدأتها في “ذاكرة الجسد” بنفس الميزات السردية في “وليمة لأعشاب البحر”، وهذه ريادة للكاتب في هذا المجال. لكن ما يلفت النظر في الرواية هي مقاطعتها للمجتمع الجزائري الذي يعايشه، فلا توجد شخصية جزائرية إيجابية من الرجال، فهم في الرواية دائمًا أشرار وعصبيون وغيورون ومتحرشون بالنساء، فالبطل مهدي جواد يحمل سكينه من أول الرواية إلى آخرها ليحمي وجوده مع آسيا، وقد ورث هذه العادة من والده في العراق، الذي كان بدوره يحمل نفس سمات الشخصيات الجزائرية الذكورية العنيفة التي تصفها الرواية.

إعادة نشر الرواية في مصر من قبل الكاتب إبراهيم أصلان في “الهيئة المصرية للكتاب” وضع الرواية أمام الانتقادات الدينية لـ”الإخوان المسلمين” وغيرهم، التي أعطت الرواية شهرة، وقد تمت دعوة حيدر حيدر أكثر من مرة إلى مصر للنقاش والمشاركات الأدبية، حيث ظلت الرواية مثار جدل بين معجبين بها وكارهين لها، وظل أسلوبها محط مديح أو انتقادات كثيرة، من أبرزها انتقاد الكاتب الشهير رجاء النقاش حول الإسهاب الزائد في الرواية.

بعد أن شارك الكاتب في عدة محاولات لإصلاح النظام في سوريا، ومنها اللقاء في فندق “سميراميس”، الذي ضم ممثلين للمعارضة والنظام، وأمام جبروت المخابرات وجرائم جيش الأسد، يحق للكاتب حيدر حيدر أن يقضي بقية حياته في جزيرة النمل ويصطاد السمك ويتأسف على ما آلت إليه سوريا ومن قبلها العراق، وهو يرثي حالة بلاده وزمنها الموحش، حيث يفر منها كل شيء ولا يبقى إلا “الكبتاجون” وسدنة التعذيب وصورة الدكتاتور الذي يضحك دائمًا لانتصاراته المزعومة.

رحل حيدر حيدر وخلّف كثيرًا من أبطال رواياته حائرين، ولعل مخابرات الأسد ستقبض على “أبو علي شاهين” بطل روايته “الفهد”، وتعذبه حتى الموت باعتباره إرهابيًا وعميلًا، أسوة بكل السوريين الذين ذاقوا طعم الحرية.

وداعًا لأحد أشهر ممثلي الصبوة الأدبية للماركسية في السبعينيات، وداعًا حيدر حيدر.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة