tag icon ع ع ع

لعبت العادات والتقاليد المختلفة بين العرب والكرد في الجزيرة السورية دورًا في تغليب حالة المقارنة، ورفض التغيير، بدافع الخوف من الانصهار، والحفاظ على القومية، الأمر الذي عمل النظام السوري على تعزيزه بطرق شتى، كبطاقات الهوية والحقوق المدنية، والتي حاول من خلالها ترك مسافة بين القوميتين.

إلا أنّ مقاومة هذه العادات أخذت طابعًا إنسانيَا سلميّا، عبر وسائل عدّة كان أبرزها الزواج بين العرب والكرد، وعلى الرغم من تلقائية الأمر، لارتباطه بالمشاعر الإنسانية، إلا أنّ تأثيره تجلّى في تكريس صور وألوان من التعايش في الجزيرة السورية.

وبتغليب الحالة الإنسانية، الحاملة للعاطفة، على المخاوف الاجتماعية، نرى الشباب في الجزيرة مؤيدين بشكل كبير للزواج بين العرب والكرد، حتى في حال بقي هذا التأييد جزئيًا بسبب المعوقات الاجتماعية، إلا أنّ الاختلاط الكبير مع بقية المحافظات السورية، في أعوام ما قبل الثورة السورية، منح شباب محافظة الحسكة الرغبة في اكتشاف المكونات الأخرى، بشكل أبعد من ذلك المعبّر عنه داخل مدن أقصى شمال شرق سوريا.

أما قوانين الفصل التي تتغذى من فروق التاريخ واللغة والصراعات السياسية، وقفت عاجزة أمام رابط الدين الواحد، والاندماج المناطقي والتجاري الذي فرض استخدام لغة واحدة للتواصل، بينما تقاوم صلات الدم، والجيرة، محاولات التفرقة السياسية.

البيوت في الحسكة، وعامودا، والقامشلي، والبلدات والقرى الصغيرة القريبة، ما تزال تصدح باللغتين العربية والكردية، كدليل تلقائي على الروابط الطبيعية بين المكونين، لتحافظ على فسيفساء ملوّنة ترفض دخان الحروب، في شمال شرق سوريا.

الشام في عامودا… حب لا تعترضه عقبات القومية والسياسة

يجمع ذكريات شبابه، وأيام الحب، وكتب الفلسفة التي درسها في دمشق، في لمعة عينيه، وهو يداعب “شام” بكلمات عربية وأخرى كردية، دون أن يفكر في تقديم واحدة عن أخرى، مدفوعًا بمخزون من الحب، يتسرّب من غرف منزله في مدينة عامودا، ليسقي الشجيرات الصغيرة في باحة المنزل.

لواء سليمان مع زوجته يحتفلان بعيد ميلاد ابنهما جود (عنب بلدي)

لواء سليمان مع زوجته يحتفلان بعيد ميلاد ابنهما جود (عنب بلدي)

لواء سليمان، شاب كردي يعمل مراسلًا إذاعيًا لراديو محلي في مدينة عامودا، اختار الزواج بفتاة عربية، أثناء تواجده في مدينة دمشق لدراسة الفلسفة، ويعيش اليوم مع زوجته وطفليه شام وجود، حياة بناها على الحب، ليغلق الباب على أصوات الحرب، ويمنعها من الوصول إلى منزله الصغير.

يقول لواء لعنب بلدي “أسميت ابنتي شام، تيمّنًا بمدينة دمشق التي عشقتها، وقضيت فيها عشرة أعوام جمعتني بزوجتي العربية، ودرست الفلسفة في جامعتها، وعشت فيها تفاصيل لا تنسى قبل أن تبعدني الحرب عنها”.

مدينة عامودا، مسقط رأس لواء وموطنه الحالي، تزخر بعشرات الشبان والشابات الذين اختاروا الزواج من شركاء مختلفين عنهم في القومية، الأمر الذي جعل العلاقات بين المكونات المختلفة للمجتمع المحلي أكثر تداخلًا وارتباطًا.

ووصل عدد سكان عامودا قبل الثورة السورية إلى نحو 75 ألف نسمة، وشكل الكرد غالبية سكانها بنسبة 95 %، إلى جانب نسبة من العرب والمسيحيين لا تتجاوز 5%، إلا أنّ صغر مساحة المدينة وطبيعتها الريفية خلقت نوعًا من البساطة في العلاقات الاجتماعية، حدّ من تأثير اختلاف العادات والتقاليد بين مكوناتها القومية، ومنح المشاعر الإنسانية المجال لصبغ طبيعة العلاقات.

يضيف لواء “أتحدث مع طفلي باللغتين العربية والكردية، وأسعى كي يتمكنا من التحدث بهما”. الإصرار على الأمر يأتي من حب لواء للغة العربية، التي يعتبرها “الموسوعة الأغنى”، فضلًا عن المجالات الأكبر التي تفتحها أمام طفليه في المستقبل على مستويات عدّة، “في حال أراد أحد أطفالي مستقبلًا تعلّم الموسيقى ووجد عنده الرغبة في الغناء، ستفتح أمامه اللغة العربية الفرصة للاندماج والتعلم أكثر في مجاله، وستوفر له إمكانية المشاركة في مسابقات على مستوى أكبر”.

ورغم محاولات الفصل الكبيرة التي انتهجها النظام السوري على مدى ستة عقود، بين العرب والكرد، إضافة إلى بعض العادات التي تضع العراقيل أمام حالات الزواج بين المكونين، إلّا أن الظاهرة ما تزال ملحوظة في مجتمع الجزيرة السورية، الأمر الذي يفرضه وجود المئات من الأشخاص الذين يحملون انتماءين لعائلتين عربية وكردية.

ويعتبر، كاميران خليل، الشاب الكردي، أنّ الزواج رابطة إنسانية غير متعلقة بأية طائفة أو مذهب أو عرق، ويضيف “العالم تجاوز هذه المرحلة حتى على مستوى العرق، ونحن متعايشون هنا عربًا وكردًا منذ مئات السنين، ينبغي ألا توضع هذه الحواجز من باب العنصرية”.

أما ظروف الثورة السورية، التي باعدت بين لواء ومدينة دمشق قسرًا، وأعادته إلى مدينته الأم (عامودا)، فخلقت أيضًا نوعًا من التردد في حالات الزواج بين المكونات المختلفة، كصورة عن حالة الفصل التي رافقت الثورة نتيجة الاختلافات في الآراء بين السوريين داخل المنزل الواحد.

ونتيجة الظروف السياسية خلال الأعوام الخمسة الماضية، تحرّك الخوف لدى أقليات المجتمع السوري، من حالة التقبّل العامة، وأخذت العلاقات الاجتماعية داخل الجزيرة السورية التي تضم مكونات قومية مختلفة، شكلَا أكثر حذرًا.

 

وتفسر الرئيسة المشتركة لمكتب شؤون الأديان في محافظة الحسكة، عزيزة الخنافر، الأمر بأنّ مكونات المجتمع السوري أصبحت تعاني من التوجس، نتيجة تسليط الضوء على الفروقات وتعميقها، مؤكّدةً أن الأمر انعكس في التراجع الكبير، في حالات الزواج بين العرب والكرد.

وجهة نظر الخنافر، لا تنطبق على حالات عدّة داخل الجزيرة السورية، ومنها حالة لواء الذي يفصل بين أزمات السياسة وحياته الشخصية، كما يفصل بين عمله كمراسل صحفي، وبين الساعات التي يقضيها مع عائلته في المنزل، يمنح أطفاله خلالها ساعات من اللعب وتبادل الأحاديث بلغتين مختلفتين، متيحًا الفرصة أمامهما لتشرب أفكار يؤمن بمثاليتها، عن قيمة العلاقات الإنسانية مقابل العرق والقومية.

كما تمكّن لواء وزوجته من تأصيل مفهوم تقبل الآخر من خلال، الحرية في التعبير عن الآراء الشخصية، والمواقف السياسية خلال الثورة، ويؤكّد “آراؤنا الشخصية لا تؤثر على حياتنا، كل منا سعى للاحتفاظ بموقفه دون محاولة فرضه على الآخر، الأمر متعلّق بالقناعة ولا يمكن أن أغير قناعة زوجتي والعكس صحيح”.

ويسعى لواء لتنشئة طفليه على حرّية الاختيار، والأريحية في انتقاء الشريك، على أمل “أن تلغى مفاهيم الفصل في المستقبل”،

 أسميت ابنتي شام، تيمنًا بمدينة دمشق التي عشقتها، وقضيت فيها عشرة أعوام جمعتني بزوجتي العربية، ودرست الفلسفة في جامعتها، وعشت فيها تفاصيل لا تنسى قبل تبعدني الحرب عنها

حسب تعبيره، مؤكّدًا أنه سيشجعهم على تجاوز الصعوبات في حال اختاروا الزواج من أي قومية أخرى.

ويستوحي لواء وزوجته المستقبل الذي يرسمانه لطفليهما شام، وجود، من سياق تاريخي للعلاقة بين العرب والكرد في الجزيرة السورية، يمتلك روابط أمتن من أن تكسر بحوادث معاصرة، ويحمله الآلاف من الأشخاص المنتمين إلى الثقافتين العربية والكردية، عبر رابطة الدم، كصلة عليا تجمع على الحب، وتشكل مادة خام لصنع الولاء.

توليفة أعراق وأديان تتفرد بها الجزيرة السورية

عانت منطقة الجزيرة السورية من تهميش على جميع المستويات، اعتبره بعض المؤرخين مقصودًا، ولا سيما خلال حقبة حكم البعث، امتدادًا من العام 1963، وحتى ما قبل الثورة ضد النظام عام 2011، ما جعلها بقعة غامضة لدى كثير من السوريين، رغم تفردها بتوليفة أعراق وأديان شكّلت نموذجًا مشرقًا للعيش المشترك.

وتضم محافظة الحسكة شمال شرق سوريا معظم مناطق الجزيرة السورية، وتبلغ مساحتها حوالي 23 ألف كيلو متر مربع، أما عدد سكانها فكان نحو 1.5 مليون نسمة قبل عام 2011، وفق إحصاءات حكومية.

قسمت الحكومة السورية محافظة الحسكة إلى أربع مناطق: الحسكة، القامشلي، رأس العين (سري كانيه)، المالكية (ديريك). وتضم 14 ناحية منها: عامودا، الشدادي، الدرباسية، القحطانية (تربه سبي)، الجوادية، اليعربية (تل كوجر).

تضم منطقة الجزيرة ثلاثة أعراق رئيسية، هي العرب والكرد والآشوريون، ويعتبر العرب مكونًا رئيسيًا في المحافظة، ويتركز وجودهم في مدينة الحسكة وريفها الجنوبي والشرقي وفق طابع عشائري بحت، إلى جانب وجود أقل في الريف الشمالي والغربي.

الكرد هم المكون الثاني الرئيسي في منطقة الجزيرة، وينتشر الآلاف منهم في قرى وبلدات الريف الشمالي الشرقي، والشمالي، والشمالي الغربي.

في حين يتركز وجود الآشوريين في ريف الحسكة الشمالي والشمالي الشرقي، ولا سيما في منطقتي القامشلي والمالكية، وتعتبر بلدة تل تمر مركزًا رئيسيًا لهم في الجزيرة السورية.

كذلك تضم الجزيرة ثلاثة أديان مختلفة، هي الإسلام والمسيحية والإيزيدية، إلا أن الهوية الإسلامية تطغى على المحافظة بشكل واضح، ضمن القوميتين الرئيسيتين فيها.

مسيحيو الجزيرة السورية معظمهم من العرق الآشوري، وينقسمون إلى سريان وكلدان، وينحدرون من أقدم حضارات الشرق الأوسط، وهم من أوائل المسيحيين في العالم، وفقًا للمصادر التاريخية.

بينما الديانة الإيزيدية، وهي خليط من فلسفات فارسية وإسلامية ومسيحية، فتبقى حكرًا على القومية الكردية، وتنتشر القرى الإيزيدية في أقصى الشمال الشرقي من الجزيرة، وبلغ عددهم قبيل الثورة السورية نحو 50 ألف نسمة.

خرجت الجزيرة عن سيطرة النظام السوري بشكل شبه كامل، عدا عن بعض النفوذ في مدينتي الحسكة والقامشلي، لتنتقل إلى حكم “الإدارة الذاتية” المعلنة من قبل حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي، لتكون نواة إقليم فيدرالي محتمل في سوريا مستقبلًا.

عامودا.. ناضلت الفرنسيين وانتفضت على النظام قبل الثورة

مدينة في محافظة الحسكة، تقع في أقصى شمال شرق سوريا على الحدود السورية- التركية، تبعد عن الحسكة، مركز المحافظة، 80 كيلومترًا إلى الشمال، وتُقدّر مساحتها الإجمالية بنحو كيلومتر مربع، وتتبع لها 160 قرية.

يعود تاريخ المنطقة القديم إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، وتوصل علماء الآثار من خلال التلال الأثرية الثلاثة القريبة من المدينة، وهي تل عامودا وتل موزان وتل شاغر بازار، إلى الكشف عن المؤشرات الحضارية على وجود بشر في عامودا.

أما عن تسميتها فتتداول المراجع التاريخية قصصًا دون شواهد كافية، ومن أشهرها الأسطورة التي تقول إنّ ابنة ملك ماردين بعد إنجابها لطفلها أمرت بإبعاده، فعلقه المكلّف بهذه المهمة على عمودٍ نُصب قرب تل قريب من المدينة حمل اسم تل عامودا فيما بعد، وعندما اكتشفته قافلة مرّت من ذلك المكان، تناقل القوم قصة العامود والطفل حتى صارت المنطقة تُعرف باسم العمود، أو عامودا.

وصل عدد سكان عامودا قبل الثورة السورية إلى نحو 75 ألف نسمة، وشكل الكرد غالبية سكانها بنسبة 95%، إلى جانب نسبة من العرب والمسيحيين لا تتجاوز 5%، وبعد الثورة السورية ونتيجة الهجرة التي طالت المدينة تراجع عدد السكان إلى 50 ألف نسمة تقريبًا.

من أبرز العشائر الكردية في المنطقة: الأومرية، وكيكان، وغولي، وتمكي، إلا أنّ التأثير العشائري بين الأكراد تراجع بشكل كبير.

وقلل طغيان المكون الكردي في عامودا، من حالات التزاوج بين العرب والكرد، وكان خروج الشباب والشابات للدراسة في الجامعات السورية، سببًا لكثير من الزيجات بين مكونات المدينة.

شهدت عامودا خلال القرن الماضي تحركات ثورية، كان أبرزها انتفاضة العشائر الكردية، ضدّ الاحتلال الفرنسي، بزعامة سعيد آغا دقوري، والتي تعرّضت على أثرها المدينة لقصف جوّي من الطيران الفرنسي عام 1936، ويُعرف اليوم الذي قصفت فيها المدينة بـ “طوشة” عامودا.

أما في عام 2004، انتفض أهالي عامودا كباقي المدن والمناطق الكُردية، دعمًا لتظاهرات أبناء مدينة القامشلي التي شهدت فقدان 27 شبابًا كُرديًا حياتهم على يد الأمن السوري، وبقيت المدينة منذ ذلك الحين وحتى اندلاع الثورة السورية خاضعة لإجراءات أمنية مشددة.

ومع انطلاق الشرارة الأولى للثورة السورية، اندفع شباب عامودا في مظاهرات مناهضة للنظام السوري، الأمر الذي أدى إلى اعتقال المئات من شبابها، ومقتل العشرات، برصاص الأمن السوري، فيما تخضع المدينة اليوم لحكم الإدارة الذاتية.

تقول الأسطورة إن ابنة ملك ماردين بعد إنجابها لطفلها أمرت بإبعاده، فعلقه المكلف بهذه المهمة على عمودٍ نصب قرب تل قريب من المدينة حمل اسم تل عامودا فيما بعد، وعندما اكتشفته قافلة مرّت من ذلك المكان، تناقل القوم قصة العامود والطفل حتى صارت المنطقة تعرف باسم العمود، أو عامودا

شباب وشابات الحسكة أمام خيار الزواج من مكون آخر.. ماذا قالوا؟

أثرت الثورة السورية على توجهات الشباب السوري في مختلف مجالات الحياة، وغيّرت من أنماط التفكير بشكل كبير، واتخذت اتجاهات الشباب بعد الثورة مناحٍ متفرّقة تشترك في بعدها عن حالة التهميش وتوجهها للتعبير عن ذاتها بطرق عدّة.

وبقدر ما حملت الثورة من رغبة في التخلص من الرواسب الاجتماعية المقيدة للحرية في التفكير والعمل والزواج وغيرها من صور التعبير عن النفس، إلا أنها في الوقت نفسه دفعت الكثيرين للتمسك بأنماط اجتماعية كانت على وشك الاختفاء أو التلاشي، كنوع من مقاومة التغيير، والخوف من الانسلاخ والذوبان في تحركات مجهولة الأفق.

وفيما يخص المجتمع السوري في منطقة الجزيرة، وضعت النقلات السياسية السريعة السكان في مواجهات كبيرة، على المستويات الأمنية والفكرية والاجتماعية، وهو ما دفع الكثير من الشباب إلى الهجرة من محافظة الحسكة، كخيار بديل عن التأقلم في مجتمع محكوم بإدارة سياسية ناشئة ومهدد بخطر أمني شبه دائم.

وبينما تبدو الهجرة الصورة الأوضح عن الهروب المجتمعي، إلا أنّ تفاصيل التعايش بين المكونات المختلفة داخل المجتمع الكردي تأثرت بدرجة كبيرة، وبدا ذلك واضحًا في تراجع نسب الزواج بين العرب والأكراد، كمكونين مسلمين في الجزيرة السورية.

عنب بلدي استطلعت آراء مجموعة من الشباب والشابات في محافظة الحسكة، حول إمكانية الزواج بين المكونات المختلفة، وتلمست عبر كاميرا مراسلها في المحافظة أصوات الجيل الذي وجد نفسه أمام شروط تاريخية صعبة، وواقع طارئ، ومستقبل مجهول التفاصيل.

مؤيدو الزواج من الذكور والإناث أكثر حذرًا

غالبية من استطلعت عنب بلدي آراءهم من الذكور والإناث أبدوا ترحيبًا بزواج الكرد والعرب، إلا أنّ معوقات اللغة والعادات والتقاليد بدت مبرر من أكّد منهم أن الأمر غير مرحب به.

“الحب سبيل لتجاوز كافة الصعوبات”، يقول الشاب الكردي، شروان حسو، الذي أكّد أن العلاقة المبنية على الحب بين الزوجين من قوميتين مختلفتين، يمكن أن يرسم نموذجًا مثاليًا رائدًا ضمن مجتمعهما، ويؤدي إلى تخفيف آثار التفرقة.

أما الشابة العربية، سيأل محمد، فلديها رأي مختلف، فرغم تأكيدها على أهمية الزواج بين المكونّين كشكل من أشكال الاندماج الثقافي، والتعايش المشترك، إلا أنها تؤكّد في الوقت ذاته أنّ الأمر يمكن أن يخلق أزمات عدّة بين المتزوّجين على المدى البعيد.

رغبة في كسر “الصورة النمطية” محاطة بالمخاوف

تمدح منال حسن، وهي شابة كردية، ظاهرة الزواج بين العرب والكرد على مستوى الابتعاد عن الصور النمطية، لكنها تذهب إلى نقد الفكرة على المستوى الشخصي، نتيجة “وجود الحواجز”، وتواجه منال سؤالنا بسؤال آخر، “عند زواج كردي وكردية من منطقتين مختلفتين تظهر مشاكل متعلقةٌ باختلاف البيئات، والأمر كذلك بين عربي وعربية من مدينتين مختلفتين، فكيف يمكن أن ينجح زواج بين شخصين من قوميتين؟”.

أفدار حسن، شابة كردية، اعتبرت أن “ظاهرة تعدد الزوجات لدى العرب”، هي أكثر ما يخيف الفتاة الكردية عند الزواج بالشاب العربي، كونها لا تواجه ذات المشكلة مع الشاب الكردي.

البعد الإنساني أعلى من الفوارق الاجتماعية

آثار الزواج على المجتمع في الجزيرة السورية، يراها الشاب العربي، القاطن في مدينة القامشلي معاذ الحمد، “إيجابيةً”، إذ يؤكّد لعنب بلدي أنّ إيجابيات هذا الزواج يمكن أن تكون كثيرة، خاصة أن المجتمع في المنطقة يعيش أساسًا بناء على المكونين.

أما عبد الباري مسور، الشاب الكردي من مدينة القامشلي، فيعتبر أنّ الحب بين الفردين، غير مرتبط بالقومية، مضيفًا “في حال أحببت فتاة فيمكن أن أتخلى عن أمور عدّة مقابل البقاء معها، يكفي أن أكون مقتنعًا بها لأعيش معها حياة كاملة”.

 

كيف أثرت الثورة السورية على الزواج بين العرب والكرد؟

يرى المحامي خالد إبراهيم، من مدينة القامشلي، أنّ حالات الزواج بين الكردي والعربي وغيرها من الأقليات الموجودة في الجزيرة السورية، هي حالات قليلة، وتختلف من منطقة إلى أخرى، ومن حالة مجتمعية إلى أخرى.

ويوضح إبراهيم، لعنب بلدي، أنّ “الزواج بين العرب والكرد في المنطقة ذات الغالبية الكردية شمال شرق سوريا، يشهد حالات أقل مقارنة بدمشق وحلب، نتيجة التقارب في العمل والمهنة كمجتمع مندمج”.

ويضيف “أما في المناطق ذات الطابع العرقي الاثني، كالجزيرة السورية، فتتحكم العادات والتقاليد ويحد من الزواج بين المكونات المختلفة”، ويقول المحامي إنّ الحراك الثوري في سوريا ساهم بتراجع كبير لحالات الزواج، لأسباب غالبًا ما تكون سياسية.

ويرى إبراهيم أنّ إيجابيات زواج الكرد والعرب يمكن حصرها بالعيش المشترك والتعاون في مجالات مختلفة، أما السلبيات فهي تتعلّق في الخوف من ذوبان الأقلية في الأكثرية، ما يمكن أن يشكل حاجزًا مجتمعيًا كبيرًا.

من جانبها، ترى الرئيس المشترك لمكتب شؤون الأديان في محافظة الحسكة، عزيزة الخنافر، أنّ ظاهرة الزواج بين القوميتين، كانت منتشرة جدًا قبل عام 2004 الذي شهد اندلاع “ثورة القامشلي”، وأدى إلى “شرخ عميق بين القوميتين الرئيسيتين في الجزيرة السورية”.

وفيما أخذت الحساسية العربية– الكردية، تتعافى متيحةً المجال أمام حالات زواج أخرى بين القوميتين، شكلت الثورة السورية انتكاسة جديدة بطبيعة العلاقات في الجزيرة السورية، حسبما ترى الخنافر.

التباعد الذي يفرضه السياق التاريخي للأحداث، إلى جانب النطاق الجغرافي وطبيعة العوامل المؤثرة به، دائمًا ما يتخذ من صلة الدم مهربًا له، إذ تشكل علاقات الزواج الصورة الأكثر إنسانية، بوقوفها كعائق أمام أكبر محاولات التفرقة المرتبطة بأهداف سياسية في المجتمعات ذات القوميات المختلطة، كما تعمل على تخفيف أثر العادات والتقاليد المعيقة للنزعات الإنسانية، وتبدو الجزيرة السورية مثالًا على ذلك من خلال مئات حالات الزواج الناجحة بين العرب والكرد، ومن خلال آلاف الأفراد الذين لا تعبّر أسماؤهم عن حقيقة الخليط المجموع في دمائهم.

الخال و”الكريف” سمة للتعايش بين كرد وعرب الجزيرة

باز البجاري صحفي سوري

باز البجاري – صحفي سوري

باز البجاري – صحفي سوري

في دراسة للباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، محمد جمال باروت، يردّ أصل العلاقة بين الكرد والعرب إلى ما قبل وصول الزنكيين والأيوبيين إلى منطقة الشام.

ويأتي فيما بعد على الحقبة الاستعمارية الفرنسية لسوريا، فيقول باروت “الأكراد ظلوا جزءًا من سوريا، ومثّل حيُّ الأكراد في دمشق مركز جذب لهجرات كردية واسعة من ديار بكر”، وأضاف أن “المناضل الكردي علي زلفو آغا كان في طليعة من واجه المستعمر ودافع عن سوريا”.

وبالعودة إلى أساس الاحتكاك الثقافي للقوميتين، نرى أن انتشار الدين الإسلامي في المنطقة، كان له الأثر البالغ في التقارب الكردي- العربي، فانتشار القرآن كدستور للمسلمين، في كل أصقاع الأرض، عزز الاحتكاك الثقافي بين العرب وباقي القوميات، ومنهم الكرد، وجاءت الثقافة الإسلامية جامعة للموروث الثقافي لكل المجتمعات والقوميات المعتنقة للإسلام.

الخال و”الكريف”، المصطلحان الأكثر تداولًا بين أبناء منطقة الجزيرة السورية، وخاصة بين المكونين العربي والكردي، فطبيعة الجوار الجغرافي، لا بل التداخل الجغرافي في الكثير من المناطق، خلقت نوعًا من العلاقات الاجتماعية، كرابطة بين المجتمعين أو مكوني المجتمع، وتأطرت هذه الرابطة في نوعين من العلاقات العائلية، وأولها المصاهرة، فكثيرًا ما ترى شخصًا عربيًا يتقن اللغة الكردية، بالرغم من حظر النظام على المجتمع السوري عامة والكردي خاصة التعلم باللغة الكردية، وبالعودة إلى عائلة الشخص ستكتشف أن الأم كردية، وبالعكس، حين تصادف شخصًا كرديًا يتقن اللغة العربية، ستكتشف بعد السؤال أن أمه من عائلة عربية، هذا كان شكلًا من أشكال التأقلم والتمازج مع واقع الجوار بين كتلتين بشريتين مختلفتين في اللغة والعادات والتقاليد.

إضافة إلى ذلك سخرت الرغبة في التقارب بين المكونات القومية في الجزيرة السورية، حالة أخرى في سبيل التمازج والتعايش المجتمعي بين العرب والأكراد، وهي عملية طهور الذكور في حضن شخص من عائلة أخرى، ليصبح الرابط بين العائلتين تحت مسمى “كريف”، وهو مصطلح كردي يستخدم في مثل هذه الحالات، أضحى متداولًا حتى بين العرب الذين استخدموه للتعبير عن تقليد بات سائدًا في المنطقة.

ونتيجة لهذه العلاقات تشكلت ثقافة محلية بين أبناء المنطقة، ووضعت قوانين عرفية تحكم العلاقة بين مكونات المجتمع، وبالتحديد لحالة العشائرية وسطوة زعماء العشائر سواء العربية أو الكردية، خاصة في بداية القرن الماضي وحتى الثمانينيات منه، وكانت أشهر الجيزات بين أبناء زعماء العشائر، كدليل على المصالحة بعد صراع ما لأسباب متعددة، فحالة الثأر والصراعات الدموية الطويلة التي تحكم العلاقة بين العشائر بشكل عام، كانت دومًا تبحث عن مخرج لها، وكانت أفضل الحلول هي زواج فردين من العائلة الحاكمة للعشيرتين بهدف حقن الدم.

بالطبع لم يرق هذا التقارب للنظام السوري وحاول بشتى الوسائل، أن يخلق الشروخ بين القوميتين، عبر اتباع نهج عنصري تجاه الأكراد، تحت مسمى الانتماء لحزب “البعث العربي الاشتراكي”، فأعطى الامتيازات لعرب المنطقة على حساب الأكراد، فضلًا عن سياسة تعريب أسماء القرى الكردية في المنطقة، فترى قرى اسمها (يافا، فلسطين، حيفا، جلق…)، وهذا ما عملت على ترسيخه أفرع الأمن الموجودة في المنطقة، مستفيدةً من نقاط التباين بين الثقافتين، وحالات التعطش القومي.

كما أثر امتناع النظام عن تجنيس آلاف الأكراد حتى عام 2011، واعتبارهم أجانب، على الأريحية في التمازج، عبر الحدّ من إمكانية التزاوج بينهم، وتأصيل حالة من التفرقة، تحت مبررات طبقية، منحت المدّ للعطش القومي، الذي أخذ أشكالًا من البعد، مقابل حالة التقارب والتمازج.

بالطبع لا يمكن تقديم حالة التعايش بين القوميتين كصورة مثالية، خالية من الشوائب، ففي مقابل حالة التمازج بين المجتمعين، هناك تباعد وحالة من الخصومة بين ثقافتين مختلفتين في التفاصيل العميقة، إلا أنها تقف عاجزة أمام مئات السوريين الذين ينتمون حكمًا إلى قوميتين ويتحدثون اللغتين ويطمحون بمستقبل أفضل لأبنائهم الذين يحملون الجنسية السورية.

 

إقرأ الموضوع باللغة الكردية

 

أعد هذا الملف من قبل جريدة عنب بلدي بالتعاون مع إذاعة راديو آرتا إف إم


تابعوا حلقة خاصة عن الملف في إذاعة راديو ARTA FM

English version of the article

مقالات متعلقة