تمهد لانتكاس طبقي..

الحفلات والمهرجانات.. صورة ناقصة لـ”سوريا بخير”

camera iconالمغنية اللبنانية نجوى كرم تغني في قلعة دمشق_ 18 من آب 2022 (نجوى كرم/ فيس بوك)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي– حسام المحمود

“والله ما بي وطن من بعد سوريا، أريد أرجع للوطن بس ما ريد حرية”، بجملتين من موّال أداه بحفله الأول في سوريا منذ سنوات، لخّص المغني السوري عمر سليمان انطباعه عن العودة وضريبتها ومقايضة الحرية بالوطن، دون تفسير الآلية التي يكون بها مكان أو بلد ما وطنًا في غياب حقوق أساسية لمواطنيه، كالحرية.

مغنّي “ورني ورني” الذي طاف كثيرًا من بلدان العالم وغنّى في أوروبا بلغة لا يفهمها الشارع الأوروبي، وكلمات قد لا تفهمها شريحة من الشعب السوري، معتمدًا على سرعة الإيقاع الموسيقي وطغيانه على الكلمة حد الإلغاء، واحد من مغنين كثر يتوافدون بصورة واضحة منذ حزيران الماضي، للغناء وإحياء الحفلات في مناطق متفرقة خاضعة لسيطرة النظام السوري.

وعلى وقع الموسيقا الصاخبة التي تغلب عليها سرعة الإيقاع بما يناسب أجواء المهرجانات، تعيش بعض مناطق سيطرة النظام أجواء حفلات متواترة تأتي مغلّفة بأسماء مهرجانات محلية، دون تفريغ المهرجان وتوقيته من الرسائل التي يمكن أن يحملها بحفلاته وأحاديث من يحيون تلك الحفلات لوسائل الإعلام، إلى جانب حشد الناس على شرف الموسيقا، بما يخدم أغراضًا قد تكون أبعد من الفن، كقيمة خالصة.

اعتدال المناخ في ليالي الحفلات لا ينسجم مع حالة “التطرف” الاقتصادي والسياسي والأمني التي تشهدها المناطق ذاتها، فسرعة إيقاع الموسيقا لا تنفي الحياة البطيئة حتى في الأماكن التي تستضيف تلك الحفلات والمهرجانات.

ومنذ أيام أيضًا، تشهد محافظة حمص مجموعة من الحفلات المقامة تحت اسم “عيد السيدة” في منطقة وادي النصارى بحمص، يشارك بها مغنون سوريون ومن جنسيات عربية أخرى، وبطاقاتها مطروحة بأسعار لا تتناسب مع مستوى الدخل العادي للمواطن السوري، ما يجعلها بالضرورة منحازة لطبقة أو طيف اجتماعي أو اقتصادي على حساب غيره.

وفي 18 من آب الحالي، أحيت المغنية اللبنانية نجوى كرم حفلًا ساهرًا في قلعة “دمشق”، استمر لنحو ساعتين، وذلك بعد غيابها عن الغناء في سوريا لنحو 12 عامًا، معربة عن “امتنانها” لسوريا التي كانت محطة بارزة في بداياتها الفنية.

وقالت نجوى كرم حينها لوسائل إعلام محلية، “فتت عالأوتيل شميت ريحة النصر، شميت ريحة الفرح، شميت ريحة النجاح”.

إلى جانب ذلك، ووفق ما نقله موقع “كيو ميديا” الفني، فإن ما لا يقل عن تسع حفلات، أٌقيم بعضها، وستقام بقيتها ضمن فعاليات حفلات “عيد السيدة” في وادي النصارى، وتتراوح أسعار تذاكر حضور الحفل الواحد بين 150 ألفًا و500 ألف ليرة سورية، إذ يختلف الرقم باختلاف الفنان ومدى وصوله الجماهيري، كما يختلف أيضًا باختلاف المقاعد نفسها، التي تأتي مصنفة ضمن فئتين أو ثلاث فئات متفاوتة التكلفة.

هذه الحفلات ينقسم محيوها ضمن فئات زمنية أيضًا، فهناك حفل يحييه مغنٍّ واحد، وآخر اثنان، وحفل آخر يحييه ثلاثة مغنين، ويجري ذلك بالتزامن مع حفلات العاصمة، وبعد أربع حفلات أُقيمت ضمن فعاليات مهرجان “ليالي قلعة دمشق”، أواخر حزيران الماضي، وأحياها كل من ناصيف زيتون وحسين الديك، واللبناني جوزيف عطية، والعراقي سيف نبيل.

تمهيد لانتكاس طبقي

أمام غياب أي تطور سياسي يدفع بالملف السوري للخروج من حالة المراوحة، تأتي بعض الفعاليات والمهرجانات والحفلات، لتنقل صورة المناطق الخاضعة لسيطرة النظام بعدسة الإعلام الرسمي، الذي يسلّط الضوء بكثافة على فعاليات من هذا النوع، أمام تغييب أجزاء أخرى من المدن نفسها، مدمرة وخاوية على عروشها وتغيب عنها الحياة، لا مظاهرها فقط.

الباحث الاجتماعي صفوان موشلي، أوضح لعنب بلدي أن الرسالة الأبرز التي ينشد النظام إيصالها تكمن في كونه ليس بمرحلة انتقالية و”مؤقتة” بمفهومه، ويحاول التصرف بمنطق الدولة المتعافية والتي تعيد أيضًا بناء نفسها.

موشلي أوضح أن الحفلات والمهرجانات، وغيرها من الفعاليات التي تتطلّب المشاركة بها بطاقات دخول ليست بثمن بخس، ترسم حالة انقسام المجتمع السوري بين منتفعين من “اقتصاد الحرب”، وقد يكون منهم بعض منظمي تلك الحفلات وجمهورها، وبين فئة أخرى تقف على طوابير للحصول على أولويات عيشها، كترجمة بصرية لحالة الفاقة والفقر ضمن مناطق سيطرة النظام.

وعلى مدار السنوات الماضية، قدّمت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في سوريا شكلًا مختلفًا للحياة في مناطق سيطرة النظام، حافظت خلاله الطوابير وحالات الازدحام على حضور متواتر جراء أزمات ومشكلات لا تُعالَج من جذورها مقدار ما يجري دفعها للأمام، ولا سيما فيما يتعلق بالكهرباء والمحروقات، وارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الأجور وقيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، ما أبقى سوريا واحدة من “نقاط الجوع الساخنة”، بسبب “انعدام الأمن الغذائي الحاد”، وفق تقرير أممي مشترك، صدر في 6 من حزيران الماضي.

الباحث الاجتماعي لفت إلى أن ظواهر من هذا النوع تقسم الشعب ضمن فريقين، وهي بوابة لانتكاس طبقي، يجعل الناس يتساءلون: “من هم؟ ومن نحن؟”.

وتقدم هذه الحفلات رغم تصوّر يكوّنه بعض السوريين عن الفئة التي تشارك بها، صورة متضاربة للسوريين خارج البلاد، فاللاجئون والمغتربون عندما يرسلون الأموال والحوالات للداخل السوري يشعرون بالامتنان عند الدفع والإنفاق بهذا الاتجاه، بما يعتبرونه إسهامًا ثوريًا، فإذا شعر اللاجئ والمغترب أن من يقيم في مناطق سيطرة النظام يعيش حياة أجمل من حياته، فيمكن أن يسبب ذلك استقطابات اجتماعية إذا تجاوزت حدها ربما تصل إلى ثورة اجتماعية، وفق موشلي.

ويتطلّب إجراء أي حفل فني سوء كان خاصًا، عبر دعوة الفنان أو المغني للمشاركة في حفل زفاف أو أي حفل يجري في مطعم أو منتج، أو عامًا للمشاركة في مهرجان أو فعالية تنظمها جهة حكومية، الكثير من التحضيرات والتجهيزات، التي تتضمّن الاتفاق على الأجر، وهو قيمة متغيرة وفق الحجم الفني للمغني وشعبيته، وعدد الحضور أيضًا، وما إذا كانت هناك بطاقات مأجورة لحضورهم، ومكان إقامة الفنان، وفرقته إن وجدت، وتنقلاته خلال فترة إقامته في البلد المضيف الذي سيجري فيه الحفل.

عنب بلدي تواصلت مع “أبو بحر”، أحد منظمي الحفلات، الذي تحفّظ على نشر اسمه الصريح لاعتبارات عملية تتعلق بطبيعة العمل وعلاقاته ضمن الوسط، واستبعد المنظم عبر مكالمة صوتية تحقيق النظام أي فائدة مالية من الحفلات التي ينظمها القطاع الخاص، كصاحب مطعم أو منتج، وعلى مستوى القطاع العام والحفلات التي تنظمها جهة حكومية، يتقاضى كثير من فناني الصف الأول ما لا يقل عن 70 ألف دولار أمريكي، متضمنة أجور الفرقة، ومجردة من تذاكر الطيران وتكاليف الإقامة.

ويختلف الرقم باختلاف الفنان وقيمته السوقية، وباختلاف عدد الحضور، وأسعار التذاكر أيضًا، وفق المنظم.

الفن لخدمة السياسة

في السياق نفسه، ركّز الكاتب و”السيناريست” السوري حافظ قرقوط، في حديث إلى عنب بلدي، على الرسائل السياسية التي يركّز عليها النظام عبر فعاليات من هذا النوع.

وأكد قرقوط أن أي مهرجانات أو فعاليات فنية أو رياضية تنظمها جهة حكومية، هي ذات غايات سياسية، تخدم بقاء النظام والدعاية له، والرسائل التي يسعى لتوجيهها للداخل أو الخارج، من خلال التشويش على الأزمات الداخلية والسياسية.

كما اعتبر المهرجانات والحفلات طريقة لتمييع الواقع وتلميعه وخلق صورة غير واقعية أمام الناس حول المناطق التي يسيطر عليها، عبر تسخير الفن للأغراض السياسية.

وحول القيمة أو المكاسب الاقتصادية التي يمكن تحقيقها من هذه الحفلات، عند تنظيمها من قبل جهات حكومية، استبعد حافظ قرقوط إيلاء النظام أي أهمية للمكسب المالي عبر فعاليات من هذا النوع، موضحًا أن النظام يمكن أن يدفع الكثير من أجل الدعاية السياسية والأمنية، عبر إظهار مناطق سيطرته على أنها مناطق آمنة ومستقرة وغنية بالفعاليات والحفلات وتدب فيها مظاهر الحياة، بما يوحي أن الحرب وكل المعاناة التي عاشها السوريون ولا يزالون، صارت من الماضي.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة