سد المنصورة.. تحقيق يكشف مصير معتقلي تنظيم “الدولة” بالرقة

داخل منشأة حجز الأفراد مؤقتاً في المبنى "ب"- تموز 2013 (المركز السوري للعدالة والمساءلة)

camera iconداخل منشأة حجز الأفراد مؤقتًا في المبنى "ب" في سجن سد المنصورة- تموز 2013 (المركز السوري للعدالة والمساءلة)

tag icon ع ع ع

كشف “المركز السوري للعدالة والمساءلة” في تقرير استقصائي، أن تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا على صلة وثيقة بمقبرة جماعية تقع بالقرب من أهم السجون الذي كان يستخدمها التنظيم في الرقة، ومن المرجح أن المقبرة تحتوي على رفات بعض المعتقلين من السجن ذاته.

وينظر التقرير الصادر عن المركز الیوم، الخميس 22 من شباط، تحت عنوان “سجن سد المنصورة التابع لتنظیم داعش سابقًا: التحقیق في مصیر المعتقلین” في وثائق التنظيم الداخلیة والبينات الشرعیة المستخرجة من المقبرة والمتاحة حصرًا للمركز “السوري للعدالة والمساءلة”، بالإضافة إلى الشھادة الشفوية المقدمة في المقابلات التي قام بھا المركز مع أكثر من 24 عائلة مفقود يزعم أنه كان يحتجز في سجن سد المنصورة.

ويوثق الروابط التي نشأت بين سجن “سد المنصورة” ومقبرة “السلحبية الغربیة” غرب مدينة الرقة خلال الفترة ما بين عامي 2013 و2016، ویتابع سير أشخاص محددين مرتبطين بالموقعين وبما في ذلك أشخاص لا يزالون مفقودين حتى الیوم.

ويرتبط إصدار التقریر بإطلاق خریطة تفاعلیة تظھر مواقع أكثر من 200 مقبرة جماعية ومركز احتجاز تابع للتنظيم سابقًا حدده “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، وتستند الخریطة وكذلك التقریر إلى توثیق مفتوح المصدر ومیداني جدید تم جمعه من قبل المركز و”فریق شؤون المفقودین” و”الطب الشرعي السوري” خلال آخر 18 شھرًا.

وقال المدير التنفيذي “للمركز السوري للعدالة والمساءلة “، محمد العبد الله، إن نتائج ھذا التقرير لا تلقي الضوء على طبيعة الاحتجاز والإخفاء القسري خلال فترة سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” فحسب ، “بل يقدم أيضًا خيوطًا ملموسة يمكننا أن نتبعها ونحن نبدأ بمتابعة فحص الحمض النووي ونساعد عائلات في بحثهم عن أحبائهم المفقودين”.

ومن خلال تحديد فترات الاحتجاز لأشخاص مفقودين محددين في سجن “سد المنصورة” یمكن “للمركز السوري للعدالة والمساءلة” أن یبدأ حصر نطاق العينات الجينية المرجعية وتحديد ما يستحق الأولوية للفحص من العينات المستخرجة من مقبرة “السلحبية الغربیة”.

ولا يزال الغموض يكتنف مصير ومكان وجود الآلاف من السوريين الذين فُقدوا في المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” مثل الرقة، والحسكة، ودير الزور، إذ كانت هذه المحافظات مركزًا لسيطرة التنظيم في سوريا قبل عام 2017، عندما سيطرت “قوات سوري الديمقراطية” (قسد) بدعم من التحالف الدولي على شرق الفرات، بينما سيطر النظام بدعم من روسيا على غربه.

كما توجد آلاف الجثث المجهولة الهوية عقب انتشالها من مقابر جماعية ومن تحت أنقاض المباني التي دمّرها القصف.

ولا تزال عشرات الآلاف من العائلات غير قادرة على طيّ صفحة ألم فقد الأحبة لعدم معرفتها بمصيرهم، وإذا كانوا على قيد الحياة أم لا، بحسب التقرير.

وطيلة السنوات الثلاث الماضية عمل المركز مع فريق “شؤون المفقودين” و”الطب الشرعي السوري” (SMFT) بالرقة، في سياق التحقيق في قضايا المفقودين هناك.

وتولى المركز توثيق تفاصيل اختفاء نحو 600 شخص من المفقودين في المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم في سوريا، وتعاون في هذه الأثناء مع الفريق من أجل إجراء التحقيقات والاستقصاءات المتعلقة بأماكن احتجاز أولئك المفقودين ومواقع دفن من قُتل منهم.

ويأمل بأن تفضي تلك التحقيقات إلى إمكانية تحديد هوية ضحايا التنظيم، ومطابقتها عن طريق الاستعانة بتحليل الحمض النووي.
كما يهدف المركز من خلال فهم طبيعة الأفراد المحتجزين في تلك المنشآت وخصائصهم، وربطها بالمواقع المحتمل أن تكون مقابر جماعية دُفن الضحايا فيها، إلى تضييق هامش احتمالات المطابقة لتحديد هوية أصحاب الرفات التي تم استخراجها من مقابر بعينها، وتبسيط عملية التعرف إليها مستقبلًا باستخدام تحليل الحمض النووي.

كما يتم استقصاء مدى إمكانية العثور على المفقودين أحياء في مرافق الاعتقال التابعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو برفقة عناصر التنظيم المحتجزين في مخيم الهول وغيره من مخيمات إيواء النازحين، ولا سيما أن السلطات القائمة عليها غالبًا ما تمنع المُحتجزين في تلك المخيمات من التواصل مع العالم الخارجي، بحسب التقرير.

ويهدف المركز إلى تحديد هوية جميع الذين فُقدوا في المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم في أنحاء متفرقة من سوريا، ولمّ شمل الأحياء منهم بأفراد عائلاتهم، أو إعادة رفات المتوفَّين إلى ذويهم لمواراتهم الثرى حسب الأصول.

المنهجية والنتائج الرئيسية

في تقرير سابق صدر عن المركز في 2022 تحت  عنوان “إحياء الأمل: البحث عن ضحايا داعش من المفقودين”، تضمن تحليلًا لصور الأقمار الصناعية لمجمع سجون “سد المنصورة”، وتقارير أولية تربطه بمقابر جماعية في السلحبية الغربية.

ويضيف التقرير الصادر اليوم صورًا لمنشأة الاعتقال والمقابر، ومعلومات توثيقية جديدة مفتوحة المصدر بخصوص الوقائع المتعلقة بكلا الموقعيْن عندما كانا تحت سيطرة تنظيم “الدولة” (مثال: مصادر من قبيل وسائل التواصل الاجتماعي، وتقارير إخبارية محلية، وأحكام قضائية).

وحصل المركز وفريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري على شهادات شفوية مهمة عقب إطلاق مناشدات للجمهور لتقديم معلومات بهذا الخصوص، وعقب القيام بزيارات ميدانية إلى سجن سد المنصورة، والمقبرة في السلحبية الغربية.

وأما الإفادات الشفوية فمصدرها المقابلات والاتصالات اللاحقة التي أُجريت مع أفراد فريق شؤون المفقودين المشاركين في عمليات استخراج الرفات من السلحبية الغربية، ونحو 20 من عائلات ذوي المفقودين الذين يُزعم أنهم كانوا محتجزين في “سد المنصورة”، وستة من الناجين من السجن، وشاهدين اثنين على ممارسات التنظيم في مراكز الاعتقال (شهود داخليين)، وشاهد ثالث لديه إلمام ومعرفة مباشرة بمعلومات حول تجهيز المقبرة الجماعية في السلحبية الغربية.

وتشمل مقتطفات من المعلومات التوثيقية مخططًا توضيحيًا لموقع المقبرة الجماعية، وصورًا فوتوغرافية مُلتقَطة من داخل مجمع سجون سد المنصورة تتخلل مختلف أقسام التقرير.

ومن خلال تحليل المعلومات التوثيقية أكد المركز إعدام التنظيم المحتجزين في عهدته داخل مجمع سجون “سد المنصورة” عقب تعذيبهم، دون محاكمة في أغلب الأحيان.

وحدّد المركز هوية 11 معتقلًا شوهدوا في ذلك السجن في الفترة بين شباط 2014، وآذار 2015، كما حدد المحققون مواقع ثلاث مقابر جماعية يُحتمل أن تكون هي مثوى رفات سجناء “سد المنصورة” الذين أُعدموا لاحقًا.

ويقدّم التوثيق المزيد من الأدلة على “جرائم التنظيم” ويرسم معالم خارطة طريق لتحديد مصير ومكان وجود بعض من كانوا قيد الاعتقال في سد المنصورة.

سدّ المنصورة

يبعد سدّ المنصورة الواقع على نهر الفرات نحو 20 كيلومترًا عن مدينة الرقة، وفي شباط 2013، استولت جماعات المعارضة المسلحة بما في ذلك “جبهة النصرة” على السد، وبسطت سيطرتها على البلدات والقرى القريبة منه قبيل فترة وجيزة من انتزاع مدينة الرقة من النظام السوري.

وعقب انشقاق تنظيم “الدولة” عن “جبهة النصرة” ودحرها خارج مدينة الرقة، بسط التنظيم سيطرته على السد، وحوله إلى منشأة لاحتجاز المدنيين وعناصر الجماعات المسلحة الأخرى، وتوسع في استخدام السد كمكان لاحتجاز الأشخاص.

وتغيّرت طبيعة استخدام مباني مجمع “سد المنصورة” ومواقع منشآت الاعتقال فيه في الفترة بين عامي 2013 و2016، وظل السد يعمل طيلة تلك الفترة ولم يخرج من الخدمة، وتولّى الموظفون المدنيون تسيير العمل في المبنى الرئيسي، المبنى “أ”، وعملوا أحيانًا في بعض مباني المجمع الأخرى.

وفي 2013، استُخدم المبنى “ب” (كما يطلق المركز عليه) لاحتجاز الأشخاص وشاعت ممارسة التعذيب بشكل روتيني، بما في ذلك جلد المحتجزين، كما سبق أن ضمّ المبنى “ب” معدات فنية وورش عمل لإصلاحها.

 المبنى الرئيسي في السد (المبنى "أ")، ومنشأة الاعتقال المؤقت (المبنى "ب")، حزيران 2014

المبنى الرئيسي في السد (المبنى “أ”)، ومنشأة الاعتقال المؤقت (المبنى “ب”)، حزيران 2014

وتشير المعلومات التوثيقية المستقاة من مصادر مفتوحة في 2013 إلى احتمال استخدام التنظيم المبنى لاعتقال الأشخاص الذين يتم الإمساك بهم واحتجازهم أول مرة على أيدي أحد الأجهزة الأمنية الثلاثة التابعة للتنظيم، وهي “الشرطة الإسلامية” التي تولت ملاحقة القضايا المدنية والجنائية، و”جهاز الحسبة” الذي عَني بمتابعة الأخلاق العامة، و”المكتب الأمني”، وهو جهاز سري لاحقَ الأشخاص ذوي الأهمية السياسية من قبيل عناصر الجماعات المسلحة الأخرى والناشطين المدنيين.

ولا يزال من الصعب معرفة الجهاز الأمني الذي أدار شؤون الاعتقال في مجمع سجون سد المنصورة على وجه التحديد.

ويظهر من وحي أعمال التوثيق التي قام المركز بها أن عناصر من جهاز الحسبة هم من تولّوا إدارة ذلك الموقع، بيد أن وثائق من مصادر مفتوحة أشارت أيضًا إلى أن عناصر الجهاز الأمني كانوا يهيمنون على المكان ولهم الكلمة العليا فيه.

وفي 2014، وفقًا لما أفاد به أحد الشهود، شيد التنظيم منشأة إضافية في المنطقة نفسها داخل مجمع مباني سد المنصورة المبنى “ج”، وتشير صور الأقمار الصناعية الملتقطة سابقًا إلى وجود منشأة إضافية في الفترة بين حزيران 2014، وتشرين الأول 2015.

وبحسب التقرير شهدت تلك الفترة استخدام المبنيين “ب” و”ج”، لأغراض احتجاز الأشخاص العاديين مؤقتًا، أي من قام جهاز الحسبة والشرطة الإسلامية باعتقالهم على الأرجح.

منشأة ملحقة لأغراض احتجاز الأشخاص مؤقتا (المبنى "ج") تشرين الأول 2015

منشأة ملحقة لأغراض احتجاز الأشخاص مؤقتا (المبنى “ج”) تشرين الأول 2015

وحوّل التنظيم مطلع 2014 ثكنات استخدمها جيش النظام السوري سابقًا في مجمع مباني سد المنصورة إلى منشأة حجز سرية لاعتقال السجناء المهمّين لفترات طويلة داخلها.

ويرى المركز في هذه المنشأة تحديدًا أهمية خاصة في سياق البحث عن المفقودين، لأن من اعتقله التنظيم فيها فُقد أثره ولم يُشاهَد مجددًا، ويُرجّح أنه قد تم تصفيته.

وتقع الثكنات على بعد 700 متر إلى الجنوب الغربي من مجمع مباني سد المنصورة بمحاذاة خزان السد مباشرة، وسبق أن كانت الثكنات مقرًا لأحد فصائل فرقة الهجانة التابعة للجيش السوري، ومستودعًا لمعدات فنية مرتبطة بتشغيل السد وصيانته،  وتألف السجن من اثنتين أو ثلاث ثكنات من طابق واحد، ونصب التنظيم أسلاكًا شائكة بمحيط 20 مترًا، ومُنع المدنيون العاملون في السد من الاقتراب منها.

كما مارس التنظيم تعذيب المعتقلين في سجن ثكنات الهجانة الأمني السري مستخدمًا الجلد وممارسات الإذلال الجنسي بحقهم، بحسب التقرير.

موقع منشأة حجز المعتقلين الأمنيين لفترات طويلة (ثكنات الهجانة)، خارطة من وزارة الحرب

موقع منشأة حجز المعتقلين الأمنيين لفترات طويلة (ثكنات الهجانة)، خارطة من وزارة الحرب

ويصف التقرير مواصفات وخصائص الذين تم احتجازهم هناك، ويستعرض بعض الوقائع الرئيسية أثناء مدة الاعتقال، ويبيّن الأنماط المتّبعة في إعدام السجناء حينها.

كما يصف موقع المقبرة الجماعية في السلحبية الغربية وأبعاده وسماته، والتغيرات التي طرأت عليه بمرور الوقت، ويعرض باختصار النتائج الرئيسية المستقاة من بيانات استخراج الرفات من الموقع.

ومنذ عام 2017، تشكلت تحالفات عسكرية ضد تنظيم “الدولة” وبدأت عمليات السيطرة على المناطق التي تنتشر فيها مجموعاته في سوريا والعراق.

وفي شمالي سوريا انطلقت عمليات عسكرية لفصائل المعارضة السورية التي كانت توصف بـ”المعتدلة” آنذاك، في أرياف محافظة حلب الشمالية والشرقية بدعم تركي، تمكنت من السيطرة على مدينة أعزاز، واتجهت شرقًا.

وفي محافظات الحسكة والرقة أطلقت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عمليات عسكرية دعمها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة حتى اليوم مشكل من (86 دولة)، تمكن من السيطرة على مناطق واسعة أبرزها محافظة الرقة، ومناطق واسعة من محافظة دير الزور.

وفي الشرق السوري انطلقت عمليات متزامنة من قبل النظام السوري بدعم جوي روسي، وبري إيراني، انتهت بالسيطرة على ريفي حمص وحماة الشرقيين، ووصلت حتى نهر الفرات شرقي دير الزور.

تزامنت العمليات في سوريا مع أخرى أطلقتها الجيش العراق وقوات “الحشد الشعبي العراقي” بدعم من التحالف الدولي أيضًا، ونشاط من ميليشيات عراقية تدعمها طهران.

وفي عام 2019، انتهت سيطرة التنظيم الجغرافية الفعلية عندما سيطرة “قسد” على بلدة الباغوز الواقعة شرقي محافظة دير الزور على الشريط الحدود مع العراق.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة