الجزيرة السورية تنتفض
إبراهيم العلوش
انتفاضة الجزيرة السورية رافد جديد من روافد الثورة السورية تضاف إلى انتفاضة السويداء، ما يجعل هذه الثورة حية ومتواصلة لتصل إلى أهدافها مهما كانت المعوقات.
اندلعت المواجهات بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) منذ 27 من آب الماضي، بعد اعتقال أحد أمراء الحرب ومجموعة من مساعديه، وهو أحمد الخبيل (أبو خولة)، وقد فهمت العشائر ذلك الاعتقال الجماعي تصعيدًا ضد المكون العربي في الجزيرة السورية، ما أدى إلى حصول انشقاقات كبيرة في صفوف القوات المتحالفة مع “قسد”، ومع التحالف الدولي، واندلاع اشتباكات أدت إلى سقوط أكثر من مئة قتيل، ومئات الجرحى حتى كتابة هذه السطور، في مختلف أنحاء الجزيرة السورية ومناطق شرق الفرات انطلاقًا من دير الزور وانتهاء بريف حلب ومنبج.
الانتفاضة العشائرية في مناطق شرق الفرات وضعت أمراء الحرب من جبال قنديل أمام حقائق الأمر الواقع، وهي أن الأغلبية العربية ترفض قواتها الدخيلة على المنطقة، وأن أيديولوجيا “عبادة” عبد الله أوجلان لا تعني بالنسبة لسكان المنطقة إلا إعادة جديدة لعبادة حافظ الأسد بقوة البنادق والسجون، أو هي إعادة ذكريات سيطرة “داعش” التي مهد إرهابها لتسليم المنطقة لمرتزقة جبال قنديل الذين يجيدون التلاعب السياسي مع التحالف الدولي ومع نظام الأسد ومع إيران، فإلهام أحمد ومظلوم عبدي ومساعدوهما يكررون بشكل دائم خطابات التقرب من الأسد، وموفدوهم يوجدون بشكل شبه دائم في دمشق وفي حميميم بحجج كثيرة!
مظلوم عبدي، قائد “قسد”، صرح في مقابلة مع قناة “العربية” بأن القوات الأمريكية تساند قواته وتدعمها بالطائرات، رغم أن الأمريكيين ينفون ذلك، ويؤكدون عدم تدخلهم في الصراع الدائر ضد “قسد”، وخرجت إلى العلن اتصالات أمريكية مع قادة العشائر للتفاوض معهم والتهدئة، والتزمت القوات الأمريكية بأنها لن تتدخل عسكريًا فيما يحدث في أنحاء الجزيرة السورية.
واتهم مظلوم عبدي المنتفضين بأنهم عملاء لنظام الأسد وإيران، وبأنهم يسعون لإدخال النظام إلى القرى والمدن التي خرجت عن سيطرته، في نفس الوقت الذي تسلّم فيه قوات “قسد” مزيدًا من القرى في ريف حلب لنظام الأسد في مفاوضاتها معه ومع الجانب الروسي، المستعمر الرسمي لسوريا مع إيران، بحجة حماية “قسد” وأنصارها من الاجتياح التركي.
تحالف “قسد” العلني مع القوات الأمريكية، ومن خلف الستار مع إيران، ضد المكون العربي، يعيد الحالة التي ولد فيها تنظيم “داعش” الإرهابي، بعد حالة اليأس والانهيار التي عمت غرب العراق إثر الهجوم الأمريكي مع حلفاء إيران على العشائر السنّية هناك.
التحالف الدولي الذي يسيطر اليوم على البترول وعلى السهول الزراعية الخصبة يمنع الوجود العربي في الجزيرة السورية من حكم نفسه بنفسه، من خلال قوات غازية من حزب “العمال الكردستاني” (بي كي كي) من الشمال التركي، فالتحالف الأمريكي رفض حكم العرب لمناطقهم بحجة أنهم يعطون أولوية لإسقاط الأسد على إسقاط “داعش”.
وفي الجانب الآخر، ترفض إيران، وهي الحليفة السابقة للأمريكيين في العراق، أن تحكم المناطق السورية نفسها، وترفض تحرر المناطق السنّية في دير الزور من الهيمنة الإيرانية ومن هيمنة نظام الأسد. ويضاف إلى كل ذلك الهيمنة التركية على المناطق العربية والكردية في الشمال السوري.
هذا الواقع المأساوي المتمثل بالتبعية للقوات والميليشيات الأجنبية، دفع بالعشائر العربية إلى الهجوم على “قسد” ومحاصرة حواجزها ومقارها في ريف دير الزور، وريف الرقة، وريف منبج وحلب، فهذه المناطق ترفض عودة الأسد، وترفض عودة “داعش”، وترفض أن تبقى رهينة قوات دخيلة أو أجنبية مهما كان حجم المساعدات التي يتم تقديمها كصدقة من قبل قوات التحالف، هذا التحالف الذي يتجاهل تعويضات تدمير المدن والقرى التي سحقتها الطائرات الأمريكية بحجة إخراج “داعش”، وأعادت مدينة الرقة مثلًا إلى العصر الحجري.
قبلت العشائر العربية التحالف مع “قسد” من أجل إخراج “داعش” والتخلص من إرهابها، ولعل قبيلة “الشعيطات” كانت من أكثر المتحمسين لطرد “داعش” وتحطيم منظومتها الإرهابية، ولكن القبيلة اليوم كانت من أبرز المنتفضين على الحكم الدخيل الذي تديره “قسد”، والذي يكرّس المنطقة كأرضية لمحاربة تركيا وبناء الدولة الكردية المرتقبة، ولو كان ذلك على حساب العرب في الجزيرة السورية، وتتجاهل وجودهم بحجة المظلومية التاريخية، التي لم يتسبب عرب الجزيرة السورية بها، والتي تتركز جبهاتها بشكل رئيس في تركيا وإيران والعراق.
مع ذلك لا أحد يستطيع تجاهل الوجود الكردي السوري ومتطلباته المشروعة، والجميع تعاطف مع المأساة الكردية التي خلّفها انهيار الدولة العثمانية خلال المئة عام الماضية، واستمر هذا التعاطف رغم وجود حزب “البعث”، وبعده “داعش”، وهما الطرفان الأكثر عنصرية، والأكثر كراهية للأقليات، الأقليات العرقية من جهة “البعث”، والأقليات الدينية من جهة “داعش”.
في بداية الثورة السورية كان لصوت مشعل التمو صدى واسع في الأنحاء السورية، ولا تزال تدور اتهامات اغتياله حول أنصار “البي كي كي” الذين أسسوا قوات “قسد”، لأنهم تبنوا العداء لأحلام السوريين في الثورة، وسلّمهم النظام مساحات واسعة في الحسكة والقامشلي على حساب الأحزاب الكردية الأخرى، وسلّمهم الأمريكيون منطقة الجزيرة منذ عام 2017 على حساب عرب المنطقة المنتفضين ضد حزب “البعث” وحكم الأسد!
انتفاضة العشائر العربية في الجزيرة السورية التي بدأت خلال الأسابيع الماضية لن تقبل استمرار هيمنة رجال قنديل على حياتهم، وسينتهي هذا الحكم المتغطرس عاجلًا أو آجلًا كما انتهى حكم “داعش” الإرهابي.
وهذه الانتفاضة رغم أنها لم تفرز بعد رؤية سياسية متماسكة، فإنها تذكير بأن الثورة السورية كانت وما زالت ثورة من أجل الكرامة والحرية، ومن أجل حكم الناس أنفسهم بأنفسهم بعيدًا عن الاستبداد، وبعيدًا عن النظم الطوباوية العنصرية التي عانتها المنطقة على يد “البعث” و”داعش”، واليوم على يد ميليشيات “قسد” و”البي كي كي”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :