tag icon ع ع ع

عنب بلدي – جنى العيسى

 أمام انخفاض حاد بقيمة الأجور في مناطق سيطرة النظام، مقارنة بقيمة الليرة مقابل الدولار الأمريكي، والقدرة الشرائية التي يحققها الراتب، أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 15 من آب الماضي، مرسومًا بزيادة الرواتب والأجور المقطوعة للعاملين في الدولة، بنسبة 100%، بعد أشهر من الحديث عنها.

الزيادة التي طرأت رغم ارتفاع نسبتها، وبلوغها الضعف، لم تغير كثيرًا من ناحية قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم، التي تصل إلى أضعاف الدخل أيًا كانت قيمته.

قرار زيادة الرواتب تبعه بساعات رفع لأسعار المحروقات حتى 300%، ما أثر أيضًا في أجور النقل والمواصلات والسلع الأساسية المختلفة بسبب تأثرها بأسعار المحروقات، ما جعل من الزيادة التي انتظرها العاملون “غير مجدية إطلاقًا”.

ومنذ الزيادة، تكرر الحديث الحكومي عن تغطية الزيادة من خفض الدعم، وسط حديث غير رسمي عن نية الحكومة إزالة الدعم بشكل كامل عن المواطنين.

الاحتياجات أكبر من الرواتب بـ55 ضعفًا

بعد أحدث زيادة في منتصف آب الماضي، وصل الحد الأدنى لرواتب العاملين بالقطاع العام في مناطق سيطرة النظام إلى 185940 ليرة سورية، فيما يبلغ متوسط تكلفة المعيشة نحو 55 ضعف الحد الأدنى، وفق إحصائيات وتقارير متخصصة.

ويعادل الحد الأدنى للرواتب بعد الزيادة نحو 13.3 دولار أمريكي مقارنة مع سعر الصرف وقت تحرير التقرير، إذ سجل سعر الدولار الأمريكي في دمشق 13700 ليرة سورية للشراء و13900 للمبيع، حسب موقع الليرة اليوم المتخصص بمتابعة أسعار الذهب والعملات الأجنبية.

في منتصف العام الحالي، تجاوز متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، بحسب “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة“، حاجز ستة ملايين ونصف مليون ليرة سورية، فيما وصل الحد الأدنى إلى نحو أربعة ملايين و100 ألف ليرة سورية، ليتضح حجم الهوة التي تفصل الحد الأدنى للأجور عن متوسط تكاليف المعيشة الآخذة بالارتفاع باستمرار.

وعقب الزيادة تضاعف حجم هذه الاحتياجات، تأثرًا بارتفاع الأسعار الكبير المرافق لهذه الزيادة، إذ ارتفع متوسط تكاليف المعيشة إلى أكثر من 10.3 مليون ليرة سورية، فيما تضاعف الحد الأدنى لتكلفة المعيشة لنحو ستة ملايين ونصف مليون ليرة، وفق “مؤشر قاسيون“.

سوق البزورية في دمشق - 11 من تموز 2023 (عنب بلدي / سارة الأحمد)

سوق البزورية في دمشق – 11 من تموز 2023 (عنب بلدي / سارة الأحمد)

الزلزال أوقفها.. الليرة أخّرتها

عند إعلان الموازنة العامة للدولة لعام 2023، لم تشِر كتلة الرواتب والأجور فيها إلى احتمالية كبيرة لحدوث زيادة في قيمة الرواتب، حين ربط وزير المالية، كنان ياغي، زيادة الرواتب بالإيرادات المحصلة لخزينة الدولة من جهة، وتحسن الواقع الاقتصادي من جهة ثانية.

وبعد أشهر من الحديث عن زيادة ممكنة، قال رئيس لجنة الموازنات في “مجلس الشعب”، ربيع قلعجي، إنه كان هناك مشروع لزيادة الرواتب والأجور بنسبة “جيدة”، لكن الزلزال الذي ضرب أربع محافظات سورية في 6 من شباط الماضي أوقفها، وجرى تسخير المبلغ للاستجابة لتداعيات الزلزال الذي استنزف كتلة الاعتمادات المرصودة، وفق قوله.

واعتبر قلعجي في حديث مع إذاعة “نينار إف إم” المحلية، في 25 من أيار الماضي، أن موضوع زيادة الرواتب لم يُلغَ وإنما جرى تأجيله، لأن الوضع العام يتطلب زيادة في الرواتب.

ومنذ مطلع العام الحالي، شهدت الليرة انخفاضًا كبيرًا في قيمتها، إذ خسرت نحو 100% في سبعة أشهر، ويتطلب تدهور قيمة الليرة، وما يرافقه من ارتفاع كبير في الأسعار وضعف في القوة الشرائية، زيادة كبيرة في الرواتب توازي حجم الاحتياجات.

الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، قال لعنب بلدي، إن الاقتصاد السوري في حالة تدهور واضح، فالأجور دون الحد الأدنى اللازم للعيش بكثير، وسط ارتفاع قيم التضخم وتراجع كبير سجلته قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية، ومع عدم وجود توقعات دقيقة لدرجة تدهورها أكثر.

ويرى العبد الله أن أي زيادة في قيمة الرواتب لن تغطي إلا جزءًا بسيطًا لا يقارن بحجم الاحتياجات، كون “الحكومة” غير قادرة على إقرار زيادة “مجزية” يلمس أثرها المواطن، وهو ما أجبرها خلال الفترة الماضية على حلول “تسكينية” على شكل منح للموظفين والمتقاعدين المدنيين أو العسكريين، لـ”ذر الرماد في العيون”.

ويأتي عجز “الحكومة” عن تقديم زيادة “مجزية”، جراء ضخامة حجم الاحتياجات في ظل مستويات التضخم الحالية أولًا، فضلًا عن غياب مقومات الإنتاج بشكل كبير، وفق الباحث.

ويلجأ معظم السوريين إلى الاعتماد على أكثر من مصدر لمحاولة الموازنة بين الدخل والمصاريف، وأبرز تلك المصادر الحوالات المالية من مغتربين خارج سوريا، والاعتماد على أعمال ثانية، كما تستغني عائلات عن أساسيات في حياتها لتخفيض معدّل إنفاقها.

وبحسب تقرير صادر في 10 من آب الماضي، سجلت سوريا المرتبة الثالثة عالميًا بمستوى التضخم بنسبة 238% على أساس سنوي، بعد زيمبابوي وفنزويلا، وفق “لوحة هانكي لقياس التضخم الاقتصادي” في عديد من البلدان، دون الاعتماد على الإحصائيات الحكومية.

ووفق البيانات، كان آخر تحديث رسمي لمعدل التضخم في سوريا في أيلول 2019، وكان يبلغ حينها 34.50% على أساس سنوي.

الراتب ينخفض أكثر من النصف في سبعة أشهر

الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، قال لعنب بلدي، إنه عند إعداد الموازنة العامة للدولة لعام 2023، كان السعر الرسمي لصرف الدولار الواحد نحو ثلاثة آلاف ليرة، وفي السوق “الموازية” نحو ستة آلاف ليرة، بينما جعل التدهور الأخير لليرة قيمة الموازنة الحقيقية تنخفض لنحو النصف.

انخفاض الموازنة بهذه النسبة مؤشر على عجز الدولة تمامًا عن تأمين أي مدخول إضافي، أو رؤى اقتصادية من شأنها النهوض بالواقع المعيشي للمواطنين، ما يزيد من تعميق الفجوة بين الإنفاق والدخل في البلاد، وفق شعبو.

وأوضح أن النسبة اللازمة للزيادة يجب ألا تقل عن 1000%، فمثلًا من يحدد راتبه بـ100 ألف ليرة، يصبح راتبه وفق هذه النسبة مليون ليرة، وهو الرقم الذي لا يزال غير كافٍ لتأمين حياة أفضل.

وأدى تدهور الليرة الكبير منذ مطلع العام الحالي إلى انخفاض قيمة الراتب بنسبة كبيرة، إذ كان سعر الدولار مطلع العام نحو 7150 ليرة، فيما بلغ نهاية تموز الماضي نحو 13200 ليرة، ما يعني انخفاض متوسط الأجور من 20.8 دولار أمريكي مطلع العام إلى 11.2 دولار نهاية تموز، قبل الزيادة الأخيرة.

موظفون يتسلمون رواتبهم من صرافات المصرف “التجاري” في حلب- 21 من حزيران 2023 (المصرف التجاري السوري)

الرواتب والأسعار.. منهجية منذ عقود

يوجد نمط سائد في عملية زيادة الرواتب قائم على ركيزتين أساسيتين، هما رفع أسعار المواد الأساسية من قبل حكومة النظام ثم زيادة الرواتب، أو العكس، إذ تأتي زيادة الرواتب قبل رفع الأسعار، وذلك ضمن نطاق زمني ضيق، بحسب دراسة للباحث السوري محسن المصطفى، بعنوان “زيادة الرواتب: سياسة النظام الدافعة لعسكرة المجتمع“، نُشرت في تشرين الثاني 2022.

ووفق الدراسة، استخدمت حكومة النظام منذ عقود أسلوب الضرائب غير المباشرة لتمويل زيادة الرواتب والأجور، التي تُفرض على المنتجات البترولية والأسمنت والأسمدة، إضافة إلى الزيوت المعدنية وغيرها من المنتجات الأخرى، وتسمى هذه الضرائب “فروقات الأسعار”، لأن المؤسسات العامة التي تسوق هذه المواد تحول المبالغ مباشرة إلى وزارة المالية.

وأسهم رفع أسعار الطاقة بتمويل زيادة الرواتب والأجور، وزادت بذلك تكاليف المنتجات السورية وأسعار الخدمات، وأدت هذه الزيادة إلى تخفيض قدرة الصناعة السورية على المنافسة في السوق الوطنية والأسواق الدولية.

يُلاحظ أن ارتفاع المواد الأساسية لا ترافقه دومًا زيادة في الرواتب والأجور، وقد ترفع حكومة النظام أسعار المواد الأساسية مرات عدة قبل رفع الرواتب والأجور، ما يشير مباشرة إلى وجود “عطب اقتصادي” في الدولة وخلل في بيئة الإنتاج، وأن هذه الزيادات الحاصلة ما هي إلا محاولة لضبط الأسعار، وزيادات غير حقيقية، بل إنها مشجعة على زيادة التضخم أيضًا، بحسب الدراسة.

وأثار قرار الرفع الأخير للأسعار بعد رفع الرواتب موجة غضب كبيرة بين المقيمين في مناطق سيطرة النظام، وشهدت محافظات ومناطق عدة جنوبي سوريا موجة من الاحتجاجات والمظاهرات التي فجرها الواقع المعيشي والاقتصادي المتردي، ولا تزال مستمرة حتى الآن تطالب بإسقاط النظام.

زيادة تكفل مصروف يوم واحد

إيمان طربية، موظفة لدى البنك العقاري في محافظة السويداء، وصل راتبها بعد الزيادة إلى 240 ألف ليرة سورية، لم تتسلم الزيادة هذا الشهر، معتبرة أنها لا تكفي مصروف يوم واحد.

بالإضافة إلى الاحتياجات الأساسية من الغذاء والمواد، قالت إيمان لعنب بلدي، إنها ملتزمة بدفع مجموعة من فواتير الكهرباء والماء والإنترنت، ما يدفعها للعمل مساء في مجال الخياطة.

تتطلب زيادة حجم احتياجات عائلة إيمان، وهي أم لثلاثة أطفال، تكثيف زوجها ساعات عمله أيضًا، إذ يعمل سائق سيارة أجرة (تاكسي).

مقابل هذا الدخل المحدود للعائلة، قدّرت السيدة حاجة أسرتها إلى خمسة ملايين ليرة سورية، لتأمين احتياجاتها الأساسية فقط من غذاء وماء ودواء.

بينما تكفي زيادة الراتب التي حصل عليها حسام فطوم، المقيم في مدينة سلمية بريف حماة، لشراء دجاجتين، بحسب وصفه لحجم الزيادة لعنب بلدي.

يعمل حسام فطوم مدرسًا لمادة اللغة العربية بمدرسة إعدادية في سلمية منذ خمس سنوات، وحدد راتبه بعد الزيادة بـ250 ألف ليرة سورية.

لإعالة عائلته المكونة من زوجة وطفلين، يضطر حسام إلى إعطاء دروس خاصة باللغة العربية لطلاب الشهادتين الثانوية والإعدادية، مقابل حصوله على أربعة آلاف ليرة سورية من كل طالب على ساعة التدريس الواحدة.

نتيجة عدم قدرته على تلبية الاحتياجات بشكل كامل، تضطر عائلة حسام إلى شراء الضروريات والأساسيات من المواد فقط، كما تعمل الزوجة أحيانًا على زراعة بعض أنواع الخضار في حديقة المنزل للاعتماد عليها ولو بشكل بسيط.

سمير (43 عامًا) موظف في مديرية الصحة بمدينة اللاذقية، قال لعنب بلدي، إن راتبه الشهري بعد الزيادة وصل إلى 220 ألف ليرة سورية، وهو يكفي لإعداد وجبة غداء لأيام من الشهر فقط.

يمنح سمير راتبه الشهري لزوجته، ويقسمه على 25 ألف ليرة ثمنًا للخبز ما بين “مدعوم” و “حر”، لأن المخصصات “المدعومة” لا تكفي عائلته المؤلفة من خمسة أشخاص.

“لا يمكن الموازنة بين الاحتياجات والراتب مهما حاولت، أنا أعمل سائق تاكسي ضمن المدينة، فأنا لا أبقى في دوامي حتى نهايته عند الثالثة، إنما أخرج عند الساعة 12 ظهرًا لأعمل على التاكسي حتى الساعة 11 ليلًا تقريبًا، لأحصل على ما يكفي عائلتي من الطعام فقط، إذ صار عمل التاكسي صعبًا مع إحجام الناس عن استخدامها إلا للضرورة”، بحسب ما قاله سمير.

تحتاج عائلة سمير إلى خمسة ملايين ليرة سورية بالحد الأدنى للحصول على “عيشة كريمة”، بحسب تعبيره، تتضمن دفع إيجار المنزل والحصول على الغذاء والدواء والاحتياجات الضرورية الأخرى.

ونتيجة تدني الأجور بشكل كبير في القطاعات الحكومية، حاولت سندس (39 عامًا) موظفة في مديرية المالية باللاذقية، الاستقالة من عملها أو الحصول على إجازة طويلة دون أجر، لتستثمر وقتها في عمل خاص يحقق لها دخلًا أكبر.

لم تنجح محاولات سندس، بحسب ما قالته لعنب بلدي، بسبب رفض مؤسستها طلباتها حول الاستقالة أو الإجازة أكثر من مرة، موضحة أن راتبها بعد الزيادة وصل إلى نحو 249 ألف ليرة سورية.

لتأمين احتياجات العائلة، يعمل زوج سندس، وهو مهندس معلوماتية، في إحدى المؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى عمله مبرمجًا مع عدة شركات خارج سوريا بنظام العمل عن بعد، موضحة أن الاحتياجات تتطلب البحث عن مصادر دخل بالعملة الأجنبية لتناسب المعيشة.

قهوة في منطقة باب توما بدمشق - 11 من تموز 2023 (عنب بلدي / سارة الأحمد)

قهوة في منطقة باب توما بدمشق – 11 من تموز 2023 (عنب بلدي / سارة الأحمد)

“إزالة الدعم” المخرج الوحيد

صدور قرار برفع أسعار المحروقات عقب ساعات فقط من قرار زيادة الرواتب، أثار موجة غضب كبيرة لدى الناس.

وفي تصريحات منفصلة، أشار مسؤولون في حكومة النظام إلى توجهها لتعديل آلية الدعم الحكومي بشكل قد يطال معظم السلع والمواد “المدعومة” على قلتها.

وبلغ الوفر المحقق من رفع الدعم بشكل جزئي عن أسعار المشتقات النفطية بموجب القرار الصادر في 15 من آب الماضي، 5400 مليار ليرة سورية، أعيد توزيعها وفق ثلاثة محاور، بحسب ما صرح به معاون وزير الاقتصاد لشؤون التجارة الخارجية، شادي جوهرة، في 25 من آب الماضي.

توزع الوفر على زيادة الرواتب من جهة، وعلى المنح والتعويضات التي صدرت بمراسيم متفرقة، فضلًا عن جزء “بسيط” لتخفيف عجز الموازنة العامة للدولة.

وبلغت تكلفة زيادة الرواتب والأجور وفق المرسوم رقم “11” الصادر في اليوم نفسه، 4000 مليار ليرة سورية.

فيما توزعت الـ1400 مليار ليرة المتبقية على شكل منح وتعويضات طبيعة عمل للمعلمين والأطباء وغيرهم من الفئات ذوات الاختصاص، بالإضافة إلى تخفيف العجز عن الموازنة.

الباحث السوري في الاقتصاد السياسي إبراهيم ياسين، قال لعنب بلدي، إن سياسة رفع الدعم بالأصل ليست حلًا للواقع الاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد، بل يفاقم المشكلة من حيث زيادة التضخم نتيجة ضعف السيولة لدى المستهلكين، وبالتالي زيادة الفجوة بين طبقة الفقراء والأغنياء.

وأضاف الباحث أن هناك طبقة من المجتمع باتت تعاني سوء تغذية وفقرًا شديدًا، مع ما يرافق ذلك من تداعيات نفسية وأخلاقية تزيد من دمار المجتمع.

أما عن الخيارات المتاحة لتخفيف العجز فيمكن اختصارها بطريق واحد، وهو الحل السياسي الذي يطمح جميع أبناء الشعب السوري للوصول إليه، بدلًا من إزالة الدعم الذي تعمل وفقه حكومة النظام.

وأوضح الباحث أن الحكومة تخفض الدعم بشكل تدريجي، إما من خلال رفع أسعار السلع “المدعومة” وإما تخفيض كميتها وإما عدم طرحها نهائيًا.

وليست السلع وحدها المعنية بالدعم بل جميع المؤسسات المدعومة، فقد باتت إجراءات القطاع الصحي العام مثلًا شديدة التعقيد، وغالبًا ما ينصح العاملون في تلك المراكز المراجعين بمحاولة الذهاب إلى مراكز صحية خاصة، وغيره من القطاعات، وتستطيع الحكومة في ظل “العقلية المتحجرة” وعدم وجود محاسبة أن تصدر ما تشاء من القرارات بغض النظر عن نتائجها.

كيف بدأ الدعم الحكومي؟

تبنّت سوريا نهجًا اشتراكيًا في إدارة شؤونها السياسية والاقتصادية منذ عام 1936، وهو نظام يقوم على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والإدارة والتعاونية الاقتصادية، بحسب دراسة نشرها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في آذار 2022.

ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، جرى تخفيف القيود المفروضة على المشاريع الفردية والقطاع الخاص، إلا أن ذلك لم يساعد كثيرًا بتنشيط الدورة الاقتصادية في البلاد، بسبب الفساد واستمرار بعض القيود البنيوية المثبطة للاستثمار.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، وجدت سوريا نفسها معزولة سياسيًا وفي خضم أزمة اقتصادية خانقة، انخفض فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 22% بين عامي 1982 و1989، كما أسفرت عمليات التأميم الواسعة للمعامل والمصانع والأراضي عن هروب جزء كبير من رأس المال الوطني إلى الخارج، وظهرت طبقة رأسمالية حكومية استفادت من الفساد وغياب الحريات الاقتصادية لتكوين ثروات كبيرة.

أدت هذه العوامل إلى تدهور الوضع المعيشي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، لا سيما في فئة الشباب، وتراجعت القطاعات الصناعية والزراعية وانخفضت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات غير مسبوقة.

مع انتهاء الحرب الباردة وتوقف المساعدات الخارجية، طبّقت الحكومة السورية بدءًا من عام 1990 سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية، شهد في ظلها الاقتصاد نموًا قويًا طوال التسعينيات، وانعكس ذلك على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة بين 2000 و2010، إذ تضاعف متوسط دخل الفرد السوري من قرابة 1200 دولار أمريكي في عام 2000، إلى نحو 2800 دولار في عام 2010.

وألحق سوء إدارة الأزمة التي اندلعت بعد بدء الثورة السورية، عام 2011، خسائر كبيرة بالاقتصاد السوري، قدّرت لجنة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) قيمتها بنحو 442 مليار دولار في نهاية عام 2020.

مخالفات بالجملة

منذ مطلع شباط 2022، بدأت حكومة النظام تطبيق إزالة “الدعم الحكومي” عن مجموعة من حاملي “البطاقة الذكية” وفق فئات وصفات معينة، منها وجود سجل تجاري لدى أحد أفراد عائلة، أو سيارة بمواصفات معينة، وغيرها من المعايير.

اعتبرت الدراسة أنه في ظل الظروف الحالية، يعني إيقاف الدعم الحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، إلا أن المضي في مشروع تخفيض تكلفة الدعم الحكومي تقابله حاليًا إجراءات وسياسات حكومية تُربك المشهد الاقتصادي السوري، من قبيل الإجراءات الإدارية لتثبيت سعر الصرف، وترشيد الواردات، وغضّ الطرف عن النشاط المتزايد للقطاع غير الرسمي، ونمو ظاهرة أثرياء الحرب.

وعلاوة على ما سبق، يحمل القرار جملة من المخالفات القانونية والدستورية، إذ إنه يخالف مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات الذي نصت عليه الفقرة الثالثة من المادة “33” من دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012، بالإضافة إلى أن إعطاء الحكومة، بوصفها سلطة تنفيذية صفة قانونية لقرار يمس عددًا كبيرًا من المواطنين من دون العودة إلى البرلمان يخالف المادة “75” من الدستور ذاته الذي حدد مسؤولية إقرار القوانين لمجلس الشعب.

ومن جملة المخالفات الدستورية لهذا القرار أيضًا، أنه صنّف الناس وفق سعات محركات سياراتهم وسنوات صنعها، أو ما يمتلكونه من عقارات، أو وفق سجلاتهم التجارية، وعلى أساس العام الذي غادر فيه المواطن البلد، علمًا أن كل هذه التصنيفات هي حقوق ثابتة وفق الدستور السوري والقوانين الدولية، فتأمين المسكن والعمل وامتلاك سيارة هي من أساسيات الحياة، وليست رفاهية تشير إلى أن صاحبها يمتلك رأس مال كبيرًا ولا يحتاج إلى دعم، كذلك ضمِن القانون السوري لكل مواطن الحق في مغادرة البلاد والعودة إليها متى أراد ذلك.

الصلاحيات بيد “مجلس الشعب”

الدكتور في القانون العام والباحث في مركز “الحوار السوري” أحمد قربي، قال، إن الدعم في كل دول العالم جزء أساسي من الموازنة العامة للدولة التي تتضمن ما يطلق عليه “نفقات التيسير”، وتضم نفقات دعم الأسعار والمساعدات ذات الصبغة الاجتماعية التي تقدمها الحكومة للفقراء.

وبما أن الموازنة العامة في سوريا تصدر وتعدّل وفق قانون يصدر عن مجلس الشعب، بمعنى أنه حتى رئيس الدولة لا يستطيع التعديل في الموازنة، وفق ما نص الدستور عليه صراحة ضمن مواده المتعددة (75-79-65)، التي حصرت هذه الصلاحيات بمجلس الشعب، فإنه لا يحق للحكومة اتخاذ قرارات تتعلق برفع الدعم بشكل كامل.

وأشار الدكتور أحمد قربي في قضية قانونية رفع الدعم إلى وجود عدة مستويات، والأصل إذا صدر قرار رفع الدعم عن الحكومة فقط فهذا يعتبر قرارًا غير مشروع، لأنه سيكون صادرًا عن جهة غير مختصة.

وإذا صدر قرار رفع الدعم بقانون من قبل “مجلس الشعب”، يجب التمييز، إذ نص دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012 في عدة مواد على المساواة بين المواطنين بالأعباء، منها المتعلقة بالمبادئ الاقتصادية على أن السياسة الاقتصادية تهدف إلى العدالة الاجتماعية، وفي مادة منفصلة “تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين”، كما نصت المادة “33” من الدستور على أن “المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات”.

وفي حال إصدار “مجلس الشعب” قانون رفع الدعم، يعتبر الأمر هنا دستوريًا، لسبب أن مثل المواد السابقة رغم أنه منصوص عليها دستوريًا، هي لا تنص بشكل واضح وصريح على دعم السلع الضرورية، وتسمى هنا “مبادئ توجيهية”.

وتعطي المبادئ التوجيهية عادة توصيات للحكومة، ولكن لا تنص على مبادئ قانونية ملزمة لها، وفق قربي.