الليرة السورية الجديدة.. مهمة لكن ليست سحرية
ملهم جزماتي
تعكس الأوراق النقدية السورية الحالية حجم التدهور الاقتصادي الذي شهدته البلاد، أعلى فئة نقدية متداولة حاليًا هي ورقة “5000” ليرة، والتي تبلغ قيمتها حوالي 0.48 دولار فقط بأسعار الصرف الحالية، القيمة ذاتها كانت تساوي 106 دولارات في عام 2011، مما يوضح حجم التدهور الذي طرأ على قيمة العملة، بالتأكيد هذا التدهور جعل من إجراء المعاملات النقدية اليومية أصعب، حمل كميات كبيرة من الأوراق النقدية خلق صعوبات عملية في التداول وتخزين القيمة.
في دراسة نشرتها شركة “كرم شعار الاستشارية”، كان من المفترض إدخال فئات نقدية أعلى مثل فئة “10000” ليرة خلال عام 2020، وذلك بناء على معدلات التضخم الكبيرة التي شهدتها البلاد وانخفاض قيمة العملة المحلية، وعدم إدخال الفئات النقدية الأعلى زاد من الصعوبات العملية في التعامل النقدي.
وفي هذا السياق يصبح إصلاح النظام النقدي في سوريا أولوية قصوى، ليس فقط لحل المشاكل التقنية المتعلقة بالتداول النقدي، بل أيضًا كرمز للتجديد والثقة في المستقبل الاقتصادي للبلاد، حيث أن استعادة الثقة في العملة المحلية خطوة أساسية نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية.
وفي ظل هذه المعطيات، كشفت مصادر لوكالة “رويترز” عن خطة الحكومة السورية لإصدار أوراق نقدية جديدة مع حذف صفرين من العملة اعتبارًا من 8 كانون الأول المقبل، هذا القرار يأتي في سياق اقتصادي معقد يتطلب تحليلًا متوازنًا لفهم دوافعه المحتملة والتحديات التي قد يواجهها.
مبررات اقتصادية
شهد العالم منذ عام 1960 أكثر من 70 حالة حذف الأصفار من العملات الوطنية، مما يجعل هذه الممارسة شائعة نسبيًا في السياسات النقدية للدول، وتلجأ الدول عادة إلى إعادة تسمية عملاتها أو إصدار عملات جديدة عندما تواجه مستويات عالية من التضخم، هذه العمليات ليست مجرد تغييرات تقنية، بل تحمل أبعاد اقتصادية ونفسية واجتماعية عميقة.
في الحالة السورية فقدت الليرة قيمتها منذ 2011، فحذف صفرين سيحول ورقة الـ 5,000 ليرة إلى 50 ليرة جديدة، مما يبسط الحسابات ويقلل من الحاجة لحمل كميات كبيرة من النقود، هذا التبسيط له مبرراته العملية الواضحة.
كما أن المركزي السوري يعاني صعوبات كبيرة في السيطرة على السوق النقدية المحلية، حيث تشير التقديرات إلى وجود حوالي 40 تريليون ليرة سورية تتداول خارج النظام المصرفي الرسمي، عملية استبدال العملة ستجبر أصحاب هذه المبالغ على التعامل مع البنوك لاستبدال عملاتهم، مما يعطي المصرف المركزي رؤية أوضح حول حجم السيولة الحقيقي ويساعد في مكافحة الأموال غير المشروعة.
أيضًا لهذه الخطوة بعد اجتماعي ونفسي كبير، فاختيار 8 كانون الأول كتاريخ للإطلاق (ذكرى سقوط نظام الأسد) يحمل رسالة رمزية مهمة، إزالة صور بشار وحافظ الأسد من الأوراق النقدية خطوة مهمة جدًا، وعلى أي حال مثل هذه الخطوة اتخذتها دول عديدة بعد التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها، مثل ليبيا والعراق وجنوب أفريقيا، هذا البعد الرمزي قد يسهم في بناء هوية وطنية جديدة.
خطوة محفوفة بالمخاطر
السوق النقدي السوري يعاني من شح في السيولة، وسعر الصرف الحالي قد لا يعكس القيمة الحقيقية للعملة، التجربة الأخيرة التي حصلت خلال عملية التحويل الأولى للرواتب بعد الزيادة بمقدار 200%، والتي أدت لانخفاض الليرة بأكثر من 5%، تشير إلى حساسية مفرطة للسوق تجاه أي تغيير في السيولة.
هذا يثير تساؤلات مشروعة حول قدرة الاقتصاد على استيعاب صدمة نقدية بحجم استبدال العملة دون تقلبات حادة قد تقوض أهداف العملية.
كما أن الحكومة السورية لم تعلن بعد عن الأسس العلمية التي ستحدد قيمة العملة الجديدة، في الظروف الطبيعية تستند قيمة العملة لمؤشرات واضحة مثل الاحتياطيات الأجنبية ومعدلات التضخم والناتج المحلي، غياب هذه الشفافية قد يؤثر على ثقة المواطنين والأسواق، ويجعل العملة السورية رهن المضاربات، والعوامل النفسية أكثر من الاقتصادية، مما يحد من قدرة المركزي على التدخل وضبط السوق، مما ينسف الهدف الأساسي الذي قامت عليه هذه العملية.
أيضًا على الصعيد الاجتماعي المواطن السوري، خاصة كبار السن والعاملين في القطاع غير الرسمي، اعتاد لسنوات على التعامل بالآلاف والملايين، هذا التحول المفاجئ لأرقام جديدة قد يسبب ارتباكًا حقيقيًا في تحديد القيمة الصحيحة للسلع والخدمات، يمكننا النظر لتجربة تركيا السابقة عام 2005 حين قامت بحذف ستة أصفار من عملتها الوطنية، ظلت المحلات التجارية تكتب أسعار البضائع قبل الحذف وبعده لمدة عام كامل. أيضًا تظهر التجارب الدولية أن فترات تغيير العملة غالبًا ما تشهد استغلالًا من قبل بعض التجار الذين يستفيدون من ارتباك المستهلكين، مما قد يؤدي لارتفاع مؤقت في الأسعار.
التأثير على التجارة والاستثمار
قد يؤثر تغيير العملة على التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية بشكل كبير. المستثمرون والتجار الأجانب قد يترددون في التعامل مع عملة جديدة غير مستقرة، خاصة في ظل غياب الشفافية حول المعايير المرجعية التي تحدد قيمتها. هذا التردد قد يؤثر سلباً على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تحتاجها سوريا بشدة لإعادة الإعمار.
كما أن عمليات التحويل المصرفي الدولية قد تواجه تعقيدات إضافية خلال فترة الانتقال، حيث ستحتاج البنوك المراسلة والمؤسسات المالية الدولية لتحديث أنظمتها للتعامل مع العملة الجديدة. هذا قد يؤدي لتأخير في التحويلات أو رفع تكلفتها، مما يضر بالتجارة والاقتصاد بشكل عام.
إضافة لذلك، فإن عدم الاستقرار المحتمل في قيمة العملة خلال فترة الانتقال قد يدفع المزيد من السوريين للاعتماد على العملات الأجنبية كالدولار الأمريكي، مما يقوض الهدف الأساسي من العملية وهو تعزيز الثقة في العملة المحلية.
دروس من التجارب الدولية
عند النظر إلى التجربة التركية التي حققت نجاحًا مبدئيًا في 2005 عندما حذفت ستة أصفار، وتحسنت المعاملات بشكل واضح، لكن تجربة تركيا أيضًا تظهر أن النجاح المبدئي قد لا يدوم إذا لم تُعالج الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار النقدي، الليرة التركية عادت للتدهور وتجاوزت اليوم 41 ليرة للدولار بعد أن كانت لا تتجاوز الليرتين.
لكن بالنظر لتجربة البرازيل التي نجحت في الثمانينيات في إصلاح عملتها من خلال ربط العملية بإصلاحات اقتصادية شاملة وخطة واضحة لمكافحة التضخم.
ولدينا أيضًا على الجانب الآخر تجربة زيمبابوي التي قدمت مثالًا على الفشل الكامل، حيث حذفت 25 صفرًا بين 2003-2009 لكنها انتهت بالتخلي عن العملة الوطنية نهائيًا.
تجربة نيجيريا الأخيرة عام 2022 تقدم درسًا مهمًا في سوء التخطيط والتواصل. رغم أن نيجيريا لم تحذف أصفارًا، بل غيرت تصميم العملة فقط، فإن سوء التواصل مع الجمهور وعدم توفير السيولة الكافية في البنوك وأجهزة الصراف الآلي أدى إلى فوضى اجتماعية حقيقية وأعمال شغب في بعض المناطق، المواطنون لم يتمكنوا من الحصول على النقد الجديد بسهولة، مما أدى لتوقف التجارة في الأسواق الشعبية وتضرر الفئات الأكثر فقرًا. هذا يؤكد أهمية التواصل الواضح والتخطيط الدقيق وضمان توفر السيولة الكافية في جميع أنحاء البلاد قبل وأثناء عملية التحول.
التكلفة المالية والاقتصادية
تشير التقديرات إلى أن تكلفة طباعة العملة الجديدة قد تصل لمئات الملايين من الدولارات، خاصة مع وجود حوالي 40 تريليون ليرة سورية متداولة في السوق المحلية، هذه التكلفة الضخمة تأتي في وقت تحتاج فيه سوريا لكل دولار لإعادة الإعمار وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين كالكهرباء، والمياه، والصحة، والتعليم.
للمقارنة، فإن تكلفة طباعة الدولار الأمريكي تتراوح بين 5.4 إلى 19.4 سنت للورقة الواحدة حسب الفئة، وهذا في دولة متقدمة لديها اقتصاد قوي، التكلفة في الحالة السورية قد تكون أعلى نسبيًا بسبب الحاجة لمواصفات أمنية عالية ومعدات متطورة.
كما أن الاعتماد على شركة “Goznak” الروسية لطباعة العملة حسب الخبر نفسه الذي أوردته “رويترز“، يثير تساؤلات حول التبعية التقنية والسياسية، خاصة في ظل العقوبات الدولية المفروضة على روسيا، وأيضًا تبين أن الشركة نفسها خاضعة للعقوبات الأمريكية والأوروبية. هذا الاعتماد قد يعقد العلاقات مع الدول الغربية ويؤثر على إمكانية الحصول على دعم دولي للاقتصاد السوري، إضافة لذلك فإن أي مشاكل في العلاقات مع روسيا مستقبلًا قد تؤثر على قدرة سوريا على طباعة عملتها أو تحديثها.
البدائل المطروحة
بالعودة إلى الدراسة التي أصدرتها شركة “كرم شعار الاستشارية“، فقد اقترحت بدائل قد تكون أقل تكلفة ومخاطرة، مثل إصدار فئات عالية جديدة مثل فئة 20000 دون حذف الأصفار، هذا الخيار يحقق تبسيط المعاملات مع تجنب التعقيدات والتكاليف المرتبطة بإعادة التقييم الكامل، ويعطي الوقت الكافي لصناع القرار الاقتصادي على ضبط السوق، وهامشًا أكبر للحكومة السورية لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني اللذين يرتبطان بشكل وثيق بالاستقرار الاقتصادي.
قرار حذف صفرين من الليرة السورية يحمل مبررات اقتصادية واجتماعية مفهومة، خاصة في ظل الوضع المعقد للعملة الحالية، التخطيط المعلن يظهر جدية في التحضير، والتوقيت الرمزي قد يساهم في بناء هوية وطنية جديدة.
لكن التحديات حقيقية ولا يمكن تجاهلها، حساسية السوق للتغييرات النقدية، والتحديات الاجتماعية للمواطنين، وضرورة وضع أسس علمية واضحة للعملة الجديدة، التجارب الدولية تؤكد أن النجاح ممكن، لكنه يتطلب تخطيطًا دقيقًا وإصلاحات مرافقة.
النجاح في هذا المشروع سيعتمد على قدرة الحكومة على التعامل مع هذه التحديات بشفافية وحكمة، وعلى استعداد المواطنين والمؤسسات للتكيف مع التغيير، إنها خطوة مهمة على طريق إعادة بناء الاقتصاد السوري، لكنها ليست العصا السحرية التي ستحل جميع المشاكل الاقتصادية بين ليلة وضحاها.
الوقت وحده سيحكم على نجاح هذه التجربة، لكن الأهم هو أن تكون مبنية على أسس علمية سليمة وأن تخدم مصلحة الشعب السوري في المقام الأول.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :