
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع يلتقي نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق - 28 كانون الثاني 2025 (القيادة العامة- سوريا)
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع يلتقي نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق - 28 كانون الثاني 2025 (القيادة العامة- سوريا)
عنب بلدي – سدرة الحريري
لم تعرف سوريا في تاريخها الحديث أثقل من فاتورة الديون التي تراكمت عليها خلال العقد الأخير، مع تصاعد الحرب وتراجع الإنتاج المحلي وانهيار البنى الاقتصادية.
ووفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي في حزيران 2024، بلغ الدَّين الخارجي لسوريا نحو 22.3 مليار دولار، أي ما يعادل 104% من الناتج المحلي الإجمالي، منها ما يقارب 1.2 مليار دولار لمصلحة روسيا، دون تسجيل أي متأخرات تجاه موسكو، في حين تتصدر إيران قائمة الدائنين بما يقارب 17 مليار دولار تمثل أكثر من أربعة أخماس إجمالي المتأخرات.
على الرغم من أن الحصة الروسية تبدو أقل مقارنة بإيران، فإن موسكو لطالما استخدمت هذا الملف كجزء من أدوات النفوذ السياسي والاقتصادي لتثبيت حضورها داخل سوريا.
فمنذ عقود، ظلت روسيا الحليف الأكثر ثباتًا لدمشق، حيث وفرت لها الغطاء العسكري والدبلوماسي، إضافة إلى الدعم الاقتصادي في أحلك الظروف، سواء عبر شحنات القمح أو عبر القروض الميسرة والمقايضات الاقتصادية.
يعود تاريخ ديون سوريا لموسكو إلى السبعينيات، حيث بلغت قبل عام 2005 حوالي 13.4 مليار دولار في ذلك العام، وافقت روسيا على شطب نحو 73% من هذه الديون، مقابل ترتيبات تتيح لها موطئ قدم في مشاريع استراتيجية داخل سوريا.
وتم الاتفاق على أن تسدد دمشق ما يقارب 1.5 مليار دولار على أقساط لعشر سنوات، بينما يجري تسديد 2.1 مليار دولار الأخرى عبر عقود مقايضة تشمل النفط والغاز والاتصالات.
هذه السياسة جعلت من ملف الديون أداة سياسية واقتصادية أكثر من كونه التزامًا ماليًا بحتًا، حيث جرى توظيفه لإفساح المجال أمام الشركات الروسية في السوق السورية.
لم تقتصر العلاقة المالية على القروض المعلنة، إذ كشفت صحيفة “فاينانشال تايمز” أن البنك المركزي السوري أرسل ما يزيد على 250 مليون دولار نقدًا إلى روسيا بين عامي 2018 و2019، وهي فترة كانت موسكو تقدم فيها أكبر دعم عسكري للنظام.
الأموال شُحنت جوًا إلى موسكو على متن أكثر من 20 رحلة، ووُضعت لاحقًا في بنوك روسية خاضعة للعقوبات، في خطوة فسرها خبراء على أنها تسديد جزئي أو مقابل دعم عسكري مباشر.
اليوم، عادت مسألة الديون الروسية إلى واجهة النقاش، فقد أجرى الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، مباحثات مع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، تناولت إمكانية شطب جزء من هذه الديون المتراكمة منذ عهد بشار الأسد.
وفي تصريحات موازية، قال وزير المالية السوري السابق، محمد أبازيد، إن إجمالي الديون الخارجية للبلاد يتراوح بين 20 و23 مليار دولار، دون أن يحدد نصيب روسيا بدقة، وذلك في لقاء له على “الجزيرة مباشر”.
لا يبدو أن موسكو تنظر إلى ملف الديون السورية من زاوية مالية بحتة، بل تسعى لاستخدامه كورقة استراتيجية تضمن استمرار حضورها العسكري والسياسي والاقتصادي في البلاد، خصوصًا في ظل تشابك مصالحها مع قوى إقليمية ودولية أخرى.
وفي هذا السياق، قال الخبير في مجلس الشؤون الدولي الروسي، ديمتري بريجع، لعنب بلدي، إن مشهد الديون تجاه روسيا لم يعد ملفًا ماليًا جامدًا، بل تحول إلى أداة لإعادة تشكيل النفوذ وتثبيت التمركز الاستراتيجي على المدى الطويل.
وأضاف أن موسكو تعمل اليوم على دمج مسار التسويات وإعادة الجدولة مع مسار أوسع يرتبط بتثبيت نفوذها، بحيث تصبح كل خطوة في ملف الديون مرتبطة بخطوة موازية في العقود، والمرافئ، والقواعد العسكرية.
ويرى بريجع أن حجم الديون الفعلي يبقى محاطًا بالسرية، لكن المؤشرات تدل على أنه يتوزع على ثلاث شرائح رئيسة هي:
ويؤكد أن ديون التسليح تحديدًا ليست مجرد أرقام على الورق، بل أداة ضغط سياسية قابلة للمقايضة مقابل مكاسب استراتيجية، في مقدمتها تثبيت القواعد الروسية على الأراضي السورية، وتأمين الامتيازات الاقتصادية طويلة الأجل.
لا تقتصر علاقة موسكو بدمشق على الحسابات المالية، إذ تعتمد روسيا على قاعدتين عسكريتين رئيستين في سوريا هما قاعدة “حميميم” الجوية في اللاذقية، وقاعدة “طرطوس” البحرية على المتوسط.
أُسست القاعدتان بموجب اتفاقيات طويلة الأمد مع نظام الأسد، بحيث صارتا تشكلان أصولًا استراتيجية محصنة خارج نطاق ملف الديون.
تضم “حميميم” مهبطًا جويًا ومراكز استخبارات ومنظومات دفاعية متطورة، بينما تؤمّن “طرطوس” لموسكو موطئ قدم بحريًا هو الأول من نوعه في البحر المتوسط.
ووفقًا للخبير الروسي ديمتري بريجع، فإن هذه القواعد تُعد “ركائز ثابتة في أي تفاوض”، فهي ليست مجرد مواقع عسكرية، بل أوراق استراتيجية محمية باتفاقيات تمنحها حصانة واستمرارية.
وبناء على ذلك، يرى بريجع أن أي تنازل روسي جزئي في ملف الديون سيكون مرهونًا بضمانات مكتوبة لاستمرار القواعد وتوسيع الوصول البحري والجوي، فضلًا عن احتكار قطاعات أو عقود محددة في الاقتصاد السوري.
ويؤكد أن موسكو لن تقدم على شطب أي جزء من الدين دون مقابل استراتيجي واضح، ومعاهدات مصدّق عليها، وآليات تحكيم دولي تحفظ مصالحها لعقود.
وفي المقابل، فإن دمشق الجديدة في حال امتلكت هامشًا تفاوضيًا أكبر بانفتاحها على واشنطن وأوروبا، لن تمنح امتيازًا إلا ضمن معادلة تحفظ السيادة وتوازن الحسابات الإقليمية، ما يجعل ملف الديون بمثابة صراع إرادات بين الحليفين.
في القانون الدولي، ثمة قاعدة معروفة باسم نظرية “الديون البغيضة”، مفادها أن الديون التي تعقدها حكومة استبدادية لا تمثل شعبها، وتُصرف ضد مصالحه أو لقمعه، تُعد غير شرعية ولا تلزم الدولة الجديدة.
وقد طُبّقت هذه النظرية في حالات متعددة، أبرزها العراق بعد عام 2003، حين جرى إسقاط الجزء الأكبر من ديون نظام صدام حسين، وكذلك في عدد من الدول الإفريقية بعد الاستقلال عن الاستعمار.
وبالقياس على الحالة السورية، يرى قانونيون واقتصاديون أن أي دَين نشأ عن شراء أسلحة روسية أو إيرانية، أو من اتفاقيات قسرية وُقّعت في ظل الحرب والقمع، يمكن تصنيفه ضمن الديون الباطلة التي لا يجب أن يتحمل الشعب السوري عبئها، إذ إنها عمليًا جزء من أدوات الجريمة وليست استثمارات تنموية.
بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية سقراط العلو، فإن المشكلة تكمن في تشابك هذه الديون مع عقود استراتيجية طويلة الأمد، مثل امتياز تشغيل ميناء طرطوس أو اتفاقات استثمار الفوسفات.
وهذا التشابك يجعل أي نقاش مالي مرتبطًا تلقائيًا بمصالح سياسية واقتصادية عميقة.
وقال العلو، إن عوامل التفاوض مع موسكو تتأثر بقدرة دمشق على إعادة النظر في بعض العقود أو إثبات إخلال الجانب الروسي بالتزاماته الاستثمارية، كما حدث مؤخرًا في إلغاء عقد تشغيل ميناء طرطوس التجاري.
كما أن موسكو قد تلجأ إلى المقايضة بين شطب الديون مقابل امتيازات جديدة، وهو ما يضع دمشق في موقف تفاوضي معقد.
من الناحية القانونية، يمكن لسوريا التلويح بنظرية “الديون البغيضة” عبر الإشارة إلى أن بعض القروض خدمت أهدافًا قمعية أو مصالح خاصة للنظام، غير أن العلو يشير إلى أن هذه النظرية غير ملزمة دوليًا، وتطبيقها يتطلب تفاهمًا سياسيًا مع الدائن، وإلا فإن الأمر قد ينتهي إلى نزاعات تحكيم دولية.
وفي هذا السياق، قد تلجأ الحكومة السورية إلى استخدام هذه الورقة لكسب الوقت.
ويؤكد العلو أنه حتى في حال إسقاط الدَّين، تبقى العقود الاستثمارية قائمة، ما لم يتم فسخها أو تعديلها بموجب القوانين المحلية وبنود الاتفاقيات ذاتها، وهو ما يستدعي مراجعة دقيقة لكل عقد على حدة.
ويرى العلو أن السيناريوهات الأقرب للتحقق تتمثل في:
على الصعيد الدولي، يوضح الباحث في الاقتصاد السياسي سقراط العلو، أن هامش الدعم المتاح لسوريا من المؤسسات الدولية لا يزال محدودًا، رغم أن البنك الدولي بدأ خطوات لإعادة الانخراط مع دمشق بعد تصفير متأخراتها.
غير أن هذا الانخراط، وفق العلو، يبقى مشروطًا، إذ تشترط الجهات المانحة عدم توجيه أي تمويل مخصص لدعم إعادة الإعمار أو الاستقرار إلى تسوية مطالبات سياسية مع روسيا، في محاولة لضمان استقلال القرار المالي عن حسابات النفوذ الدولي.
أما عن الطرح المتداول حول تسديد الديون من أموال عائلة الأسد المودعة في روسيا، فيشير العلو إلى أن الفكرة تصطدم بعقبات كبيرة، أبرزها غياب الأدلة العلنية الكافية على وجود أصول شخصية قابلة للمصادرة.
وحتى في حال ثبوتها، فإن استردادها يتطلب أحكامًا قضائية نهائية وتعاونًا رسميًا من موسكو، وهو ما يبدو أمرًا مستبعدًا في الظروف الراهنة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى