على من تقرأ مزاميرك يا داوود
غزوان قرنفل
منذ عقود طويلة، والعرب يراهنون على “المظلة” الأمريكية باعتبارها الضامن الأكبر لأمنهم القومي في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، هذه المظلة التي صورت كشبكة أمان قادرة على ردع الخصوم وردّ أي عدوان محتمل، وبث الطمأنينة في العواصم العربية وخاصة تلك التي تدفع جزيتها بغير حساب.
لكن العملية الإسرائيلية الأخيرة ضد قادة حركة “حماس” في قطر جاءت لتكشف، أو لنقل لتعيد تأكيد، حقيقة ظل كثيرون يتجاهلونها، وهي أن العرب مكشوفون تمامًا، بلا سند ولا ظهير، وأن ما يسمى بالأمن القومي العربي لم يكن في يوم من الأيام أكثر من شعار فضفاض يُرفع عند الحاجة، ثم يُطوى وينسى ككثير من القرارات والاتفاقيات العربية للدفاع المشترك التي يعلو ملفاتها الغبار.
إن تنفيذ إسرائيل عملية نوعية في قلب العاصمة القطرية، وفي أجواء إقليمية شديدة التعقيد، يعكس بوضوح هشاشة المنظومة الأمنية العربية وعجزها عن حماية حدودها وفضائها الإقليمي، فما بالك بالتصدي لعدو خارجي يمتلك تفوقًا عسكريًا وتقنيًا غير مسبوق.
هذه العملية لم تكن مجرد رسالة موجهة لـ”حماس”، بقدر ما كانت إعلانًا صريحًا عن أن إسرائيل تتحرك في الإقليم متى شاءت وكيفما أرادت، دون أن تخشى رد فعل حقيقيًا من أي دولة عربية، أو من تلك المظلة الأمريكية المثقوبة، التي لطالما ركنت إليها تلك الحكومات باعتبارها ستغطي السماء وتحجب الخطر.
المثير هنا ليس جرأة إسرائيل على اقتحام “العمق الآمن” لدولة حليفة للولايات المتحدة، بل غياب أي رد يوازي حجم الحدث، فواشنطن التي تبسط قواعدها العسكرية في الخليج وتحتفظ بأضخم أسطول بحري في المنطقة، لم تبدِ سوى تصريحات دبلوماسية باهتة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهو موقف يؤشر إلى أن المظلة الأمريكية لم تكن يومًا مصممة لحماية العرب، بل لحماية مصالح واشنطن نفسها وأمن إسرائيل، الذي يعتبرونه “مقدسًا” في استراتيجيتهم تجاه المنطقة.
إن المفارقة المؤلمة أن بعض الأنظمة العربية ما زالت تراهن على هذا الحليف، وتتوهم أن واشنطن ستقف يومًا إلى جانبهم إذا ما جدّ الجدّ، هذه الأنظمة تنفق مليارات الدولارات على صفقات أسلحة ضخمة تشتريها في الغالب لإرضاء الولايات المتحدة، وليس لتُستخدم في بناء منظومة دفاعية عربية مشتركة، والنتيجة أن الترسانة العسكرية العربية بقيت مجرد أسلحة خرساء تستنزف صاحبها دون أن تحميه من أي طعنة مباغتة أو غادرة.
ما كشفته عملية قطر بجلاء هو أن العرب بلا سند، ولا يوجد تحالف إقليمي حقيقي يمكن أن يسمى جبهة دفاع مشتركة، كما لا توجد رؤية استراتيجية موحدة للأمن القومي العربي، فكل دولة تدير أمنها بمعزل عن الأخرى وتعتقد واهمة أن إسناد ظهرها لأمريكا يمكن أن يحميها، غير مدركة أنه في ظل هذا التشرذم تصبح أي مظلة خارجية، أمريكية كانت أم غيرها مجرد وهم وسراب لا أكثر.
لقد ظل الحديث عن “الأمن القومي العربي” لعقود مجرد شعار يرفع في المؤتمرات والقمم، دون أن يتحول إلى واقع مؤسسي، فلا جيش عربي مشترك، ولا استراتيجيات موحدة، ولا إرادة سياسية تعلي من شأن المصالح العليا للأمة على المصالح الضيقة للحكام.
في منطقة ملتهبة كالشرق الأوسط، لم يتمكن حكّامه من ملء فراغه الاستراتيجي، كان لا بد للقوى الإقليمية غير العربية كإسرائيل وتركيا وإيران أن تفعل، بينما العرب خامدون على مقاعد المتفرجين، يكتفون بالبيانات المستنكرة واللغة الدبلوماسية الفارغة. من هنا تبدو المظلة الأمريكية أشبه بمظلة مثقوبة لا تقي من المطر ولا تحمي من الشمس، بل إنها في أحيان كثيرة تتحول إلى وسيلة ابتزاز وضغط سياسي واقتصادي تستخدمها واشنطن لإجبار حلفائها العرب على الانخراط في سياسات لا تخدم سوى المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وما جرى في قطر ليس سوى مثال صارخ على أن هذه المظلة لا تصلح حتى كواجهة رمزية لحماية هيبة دولة عربية حليفة.
الدرس البليغ الذي ينبغي أن يخرج به العرب من هذه الحادثة هو أن الرهان على الخارج، هو بكل المعايير رهان خاسر. وحده التكتل العربي، ووحدها الإرادة المستقلة، قادرة على صياغة وصناعة مظلة أمن قومي حقيقي.
ليس المطلوب الانغلاق ولا إعلان العداء للعالم، بل بناء شبكة تحالفات متوازنة، تنطلق من قوة ذاتية راسخة، لا من استجداء حماية تأتي من وراء البحار، فقد آن الأوان لأن يدرك العرب أن أمنهم لا يُشترى ولا يُحمى بصفقات السلاح ولا بوعود البيت الأبيض. الأمن القومي العربي يبدأ من الداخل من توحيد الصفوف، ومن تصالح الحكام مع شعوبهم واستجابتهم لتطلعاتهم، ومن بناء قوة ردع حقيقية، ومن صياغة استراتيجية تقوم على التكامل لا التناحر، أما الاستمرار في الاحتماء بمظلة أمريكية مثقوبة، فلن يقود إلا إلى مزيد من الانكشاف، ومزيد من الخسائر، ومزيد من الخيبات.
عملية قطر لم تكن حادثة عابرة، بل جرس إنذار مدوٍّ يوقظ النائمين من سباتهم، لكن يبدو أن المؤتمرين لم تسمع آذانهم صداه، ففيما أختم هذا المقال عاجلني بيان قمة الدوحة العربية- الإسلامية وحوّل كل ما كتبته في هذه السطور لمجرد هراء، وهنا تمامًا قفز أمامي إبليس القلم وهمس في أذني قائلًا: “على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :