محاذير خلط السياسة بالعمل الصحفي

tag icon ع ع ع

علي عيد

يتجاوز بعض الصحفيين مهمتهم أحيانًا، لدرجة أن بعضهم يخلط موقفه السياسي أو الأيديولوجي بعمله المهني، وقد يتسبب هذا الخلط في إفشال مهمته، خصوصًا عندما ينقسم الناس حول قضايا متعددة، وتكون وسائل الإعلام مستقطَبة بشكل كبير، سواء بسبب الملكية أو طبيعة الإشراف.

هذه الظاهرة تتزايد في الدول التي تفتقر لآليات تنظيم ذاتي فعّالة، أو لا تملك تشريعات واضحة، تمنع استغلال الصحافة في الدعاية السياسية.

هل يحق للصحفي أن يكون له رأي سياسي؟ هذا سؤال مشروع، والإجابة عنه يمكن اختصارها بالقول إن الصحفي في أي بلد هو مواطن، ويحق له ما يحق للآخرين من الانتساب إلى أحزاب أو التصويت في الانتخابات.

هل يحق للصحفي أن يبدي آراءه السياسية في العمل الإعلامي؟ هذا أيضًا سؤال مشروع وحساس، ومنه تنطلق الإجابة على مهمة الصحفي المهنية، ومساحة التعبير المسموح بها لأي صحفي في وسيلته الإعلامية.

السؤال الأخير ترسم الإجابة عنه حدودًا واضحة يجب على الصحفي الالتزام بها ضمانًا للمصداقية وحق الجمهور.

معظم الدول التي قطعت أشواطًا في تنظيم المهنة، هناك رقابة شعبية فيها على وسائل الإعلام، عبر منظمات أو جمعيات أو مؤسسات تهتم بهذا الجانب، وربما توجد فيها تشريعات وقوانين تفرضها الدولة لمنع استخدام الإعلام من قبل الصحفيين، وتورطهم في الدعاية السياسية.

بالمقابل، هناك دول ما زال يجري فيها استخدام الإعلام لمصلحة دعاية السلطة، وينخرط الصحفيون في تلك الدعاية خلال أداء وظيفتهم، وحصل هذا في سوريا لعقود، وظهر بشكل صارخ بعد عام 2011، وهو ما تظهره تقارير منظمات متخصصة حول بيئة الإعلام في البلاد طوال تلك السنوات.

التناقض الصارخ يتجلى في أن الدول التي تمكنت فيها المهنة من تنظيم ذاتها ووضعت أسسًا راسخة تحترم المعايير المهنية، أو ضبطتها قوانين وتشريعات، يعاقب الصحفي عندما ينحاز سياسيًا في عمله الصحفي، بينما شهدت الدولة البوليسية (Police State)، ومثالها سوريا، فصل صحفيين لأنهم امتنعوا عن دعم رواية النظام، وعبروا عن موقفهم السياسي عبر ذلك الامتناع.

وقد لا يستخدم الصحفي رأيه السياسي في خدمة السلطة فقط، بل في مصالحه الخاصة أو الحزبية، ومثاله ما حصل في “CNN” الأمريكية عام 2021، حين فصلت القناة مذيعها، كريس كومو، لأنه انتهك قواعد التغطية، في قضية شقيقه حاكم ولاية نيويورك، أندرو كومو، المتهم بتجاوزات جنسية بحق عدة نساء.

ورأت لجنة قانونية أن المذيع الشهير استخدم صفته الصحفية في العمل للتغطية على شقيقه، ما يعني تضارب المصالح وانعدام الحياد الصحفي.

تظهر قضية المذيع كومو مقدار الحساسية في استغلال الصحفي لعمله، وهي قضية مركبة تتعلق بالمصلحة العائلية والموقف السياسي في ذات الوقت، وهو ما يعتبر محظورًا في القناة التي يعمل بها.

خطر الخلط بين دور الصحفي وموقفه السياسي، دفع بكثير من المنظمات والمؤسسات لتضمين هذا الجانب في مدونات السلوك، أو حتى بقوانينها الداخلية.

ولهذا الغرض يعتبر ميثاق الشرف الصادر عن الاتحاد الدولي للصحفيين أو غيره من نقابات الصحافة الوطنية، أن الانخراط المباشر في نشاط سياسي أو دعائي علني هو تهديد لمصداقية الصحفي، وطعن في استقلاليته أمام الجمهور.

وتفرض المؤسسات الإعلامية في دول متحضرة قواعد صارمة تمنع انضمام صحفييها لحملات انتخابية أو تولي مناصب حزبية أو سياسية.

وعلى مستوى أقل من الصرامة، قد يسمح في بعض الدول أن ينتمي الصحفي لحزب سياسي أو يشارك في أنشطة مدنية، دون أن يكون لذلك تأثير في عمله الصحفي، ودون أن يتم استخدام المنبر الإعلامي أداة للترويج السياسي لمصلحة حزب أو جهة، أو حتى حكومة عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات الأكثر تمسكًا بالديمقراطية.

ويظهر الميثاق الأخلاقي الخاص بجمعية الصحفيين المحترفين في أمريكا (SPJ)، فقرة تطلب من الصحفيين “تجنب الأنشطة السياسية وغيرها من الأنشطة الخارجية التي قد تعرض النزاهة أو الحياد للخطر، أو قد تضر بالمصداقية”.

تفتقر سوريا، حتى اليوم، إلى نصوص تضع معايير للممارسة المهنية الصحفية وحماية الصحفيين من الانزلاق في الدعاية والعمل السياسي.

قد لا يكون واضحًا في ذهن البعض مستوى الخطر والضرر الذي يتسبب به الموقف السياسي المنحاز، على مستوى ثقة الجمهور، أو مصداقية المؤسسة، وربما يتعامل ذلك البعض مع القضية باستسهال يدفعهم إلى القول إنهم يدافعون عن قضية بلدهم أو مجموعتهم المحقة المحلية، والحقيقة هي أنهم يعرضون سلامة بلدهم أو مجموعتهم المحلية لمخاطر تأتي عبر تراكم مثل هذه المواقف.

قد تكون أقل تلك المخاطر انصراف الجمهور عن متابعة وتصديق الوسيلة الإعلامية، لكن أكبرها يمكن أن يصل إلى حد تفتيت المجتمع، وضرب أسس العيش المشترك، وربما يصل الأمر إلى استدعاء موجة جديدة من العنف وتسلط السلطة.. وللحديث بقية.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة