“العملية نشر العدوى”

أكبر عمليات التضليل المعلوماتي السوفييتي تطال الشبكة السورية لحقوق الإنسان

tag icon ع ع ع

منصور العمري

في عام 1983، نشرت صحيفة باتريوت الهندية، تقريرًا بعنوان: “الإيدز قد يغزو الهند، المرض الغامض الذي صنعته التجارب الأمريكية”، وتحدث التقرير عن اختراع علماء أمريكيين لمرض الإيدز بشكل سري من أجل قتل الأفارقة الأمريكيين والمثليين.

ادعاء مجنون في صحيفة مغمورة؟ نعم، ولكن خلال بضع سنوات انتشر التقرير في معظم إفريقيا، ثم نشر عالمان ألمانيان شرقيان تقريرًا علميًا يقولان فيه إنهما يستطيعان إثبات أن فايروس الإيدز صنع في الولايات المتحدة.

ثم انتشر التقرير في بنغلادش، وبلغاريا وفنلندا والباكستان وحتى بريطانيا، وفي النهاية وصل إلى الإعلام الأمريكي عام 1987، ليذكره التلفزيون الوطني الأمريكي لملايين من مشاهديه، قائلًا إن صحيفة سوفيتية عسكرية ادعت أن فايروس الإيدز تم تسريبه من مختبر عسكري أمريكي يجري أبحاثًا في الحرب البيولوجية.

كانت هذه العملية من أكبر قصص الخداع الصحفي على المستوى العالمي.

تحدث عملاء كي جي سابقين عن الاهتمام الشديد للمخابرات السوفييتية بالتضليل المعلوماتي، لدرجة أنها أسست القسم “إي” في “كي جي بي”، الخاص بزرع القصص الكاذبة والوثائق المزورة، والذي جند نحو 15 ألف عميل في هذا القسم داخل وخارج الاتحاد السوفييتي، يعملون بشكل يومي.

أحد هؤلاء العملاء كان المنشق لادزلاف بيتمان، مدير أحد مكاتب “الإجراءات النشطة” السابق في كي جي بي. “الإجراءات النشطة” مصطلح يعود للعهد السوفييتي ويتضمن أعمال بث المعلومات الكاذبة والبروباغاندا وتزييف وثائق حكومية.

وصف اللواء في كي جي بي، أوليج كالوجن، الإجراءات النشطة بأنها “قلب وروح الاستخبارات السوفييتية، فهي ليست جمع معلومات بل بث معلومات زائفة، في إطار عملية الإجراءات النشطة لإضعاف الغرب، وتحالفاته، ولزرع الخلاف من أجل إضعاف الولايات المتحدة وتشويه صورتها لدى شعوب أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يمهد الميدان في حالة وقوع حرب.

وهو ما يتطابق اليوم مع ما تقوم به روسيا من حملات التضليل المعلوماتي، كالتدخل في تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، ودعم روسيا لحركات اليمين المتطرف وأحزابه في الغرب.

الرئيس الروسي بوتين قضى نصف حياته عميلًا لكي جي بي، ثم رئيسًا لها بعد أن أصبح اسمها إف إس بي، ويبدو أنه لا يزال مستمرًا في الاعتماد على الإجراءات النشطة لمهاجمة الأمم الأخرى.

يقول بيتمان إن أولى مهامه كانت تأسيس بيت دعارة في ألمانيا لاستدراج السياسيين الغربيين إليه وتصويرهم ثم ابتزازهم. ثم عمل في التضليل المعلوماتي، وهو نشر معلومات كاذبة على أنها سرية ومسربة، وهو أخطر من البروباغاندا. فالبروباغاندا تحاول إقناعنا بتصديق أمر ما، لكن التضليل المعلوماتي هو عملية منظمة بشكل دقيق لخداعنا كي نصدقها.

كانت إحدى مهام عملاء كي جي بي الشائعة تخصيص جزء من وقتهم لاستنباط أفكار وقصص كاذبة، وكان عليهم تقديم مقترحات بها، ليتم تقييم جودة أداء العميل بكم المقترحات التي يقدمها سنويًا.

بالعودة إلى قصة الصحيفة الهندية المغمورة، تم تحليل التقرير لغويًا ليكشف أن كاتبه روسي اعتمادًا على نمط الأخطاء واللغة الإنجليزية المستخدمة، وكشف أيضًا أن هذه الصحيفة كانت وسيلة تابعة للاتحاد السوفييتي لينشر فيها ما يريد باللغة الإنجليزية.

أوليغ كلوجين، عميل سابق في كي جي بي، وضّح أن التكتيك السوفييتي كان يحاول دومًا نشر التقارير في دول العالم الثالث، كالهند وتايلاند، حيث لا يكترث أحد بأصول القصص المنشورة أو مصادرها، ما يكسبها قبولًا أوليًا، ثم اقتباسها من قبل الصحافة السوفييتية كمصدر، وهو ما فعلته صحيفة سوفييتية واسعة الانتشار، حيث نشرت التقرير وقصة اختراع فايروس الإيدز على يد الأمريكيين، منوهة إلى الصحيفة الهندية كمصدر ونائية بنفسها عن مسؤولية مصداقية التقرير، الذي اخترعته المخابرات السوفييتية أصلًا.

ثم بدأت المخابرات بالبحث عن عالم يمكنه تأكيد الأكاذيب علميًا. كان هذا العالم جاكوب سيغال، وزوجته ليلي، اللذين ادعيا أن لديهما دليلًا على الإيدز صنع في الولايات المتحدة، فأعدوا تقريرًا بلغة علمية معقدة، وأرسل إلى صحفيين في إفريقيا، إلى أن وصل إلى التلفزيون الوطني الأمريكي وهو ما أراده كي جي بي تمامًا، عندما بدؤوا العملية التي أسموها “العملية نشر العدوى”. كان الهدف الرئيسي منها هو زرع الشك لدى المواطن الأمريكي وتحريضه على حكومته، وعلمائه.

يبدو أن الحملة ضد الشبكة السورية لحقوق الإنسان، نموذج عن هذا التكتيك المخابراتي الروسي. حيث بدأ التشكيك بالشبكة في موقع مغمور بدائي، ثم بعد أيام نقلت روسيا اليوم الناطقة بالإنجليزية افتراءات إيفا بارتليت المواطنة الكندية المؤيدة للأسد وروسيا، والتي تدعي أنها صحفية.

اختلاق الأخبار ونشرها في صحف أو مواقع مغمورة تابعة لها، ثم نشر الخبر الزائف أو الهجوم ذاته في وسائل إعلام أكبر، اقتباسًا من وسائل إعلام أو أشخاص لرفع المسؤولية عنها، هو تكتيك روسي سوفييتي كلاسيكي، تستخدمه المخابرات والحكومة الروسية والإعلام التابع لها كروسيا اليوم بشكل منهجي، لشن حملات ضد الأهداف التي يرغبون بتشويه صورتها.

مصادر

وثائقي لـ نيويورك تايمز بعنوان “العملية نشر العدوى، كيف أتقنت روسيا فن الحرب”

ويكيبيديا




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة