15 مركزًا تديرها "المفوضية" بحمص

سكان مدينة “النكتة” يقبلون على المصحّات النفسية

متطوعون للهلال الأحمر السوري في ريف حمص - 18 أيار 2021 (صفحة المنظمة في فيس بوك)

camera iconمتطوعون للهلال الأحمر السوري في ريف حمص - 18 أيار 2021 (صفحة المنظمة في فيس بوك)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حمص

في حديقة “مركز الرعاية الاجتماعية في حي القصور” على أطراف مدينة حمص، يتجمع كل صباح ما لا يقل عن 25 شخصًا لمراجعة العيادة النفسية في المركز، بوجوه شاحبة، تبدو عليها علامات أرق، ويجلس كل شخص في مكانه بانتظار دور دخوله إلى عيادة الطبيب.

رغم جلوس المرضى بالقرب من بعضهم، فإن الأحاديث الجانبية نادرة الحدوث، تكون بصيغة السؤال والجواب المقتضب في أحسن الأحوال، ما يظهر جوًا من الكآبة يعكس حال الموجودين.

تتبع “المراكز المجتمعية” للمفوضية العليا للاجئين، إحدى وكالات الأمم المتحدة المباشرة، وتنسق عملها مع “الهلال الأحمر العربي السوري”، لكنها كيان مستقل إداريًا وماليًا، وتُدار من مكتب المفوضية في دمشق، ويوجد في مدينة حمص ما لا يقل عن 15 مركزًا موزعًا بين المدينة وريفها، وتنفذ العديد من المشاريع، وتقدم بعض الخدمات، من أهمها العيادات النفسية التي لاقت إقبالًا واسعًا بين سكان المدينة وريفها على حد سواء.

مدينة حمص المشهورة بــ”أدب النكتة” في سوريا، غابت النكتة من مجالس ساكنيها الذين ظلّوا في المدينة، فتدهور الوضع الاقتصادي وتراكم الأزمات التي يعيشونها، وتلاشي الأمل بالوصول إلى حل سياسي يرضي سكان “عاصمة الثورة”، كما أُطلق عليها في سنوات الحراك المدني الأولى عام 2011، أدخلت المدينة في حالة من الاكتئاب العام، وهي حالة تسود معظم الجغرافيا السورية على اختلاف توجهات القوى المسيطرة عليها.

توتر دائم يرهق “النفسية”

لا تتوفر بيانات خاصة بسوريا على مؤشر السعادة العالمي، لكن الذين نجوا من القصف ورصاص القناص، لم ينجوا من اضطرابات ما بعد الصدمة في مدينة حمص.

تتعدد الأزمات التي يعيشها الأفراد في المدينة، تبدأ من عدم توفر مادة الخبز والمحروقات للتدفئة في موسم الشتاء أو للطبخ، مرورًا بمشكلة المواصلات، ولا تنتهي عند مشكلة انقطاع الكهرباء العشوائي، فضلًا عن ساعات العمل الطويلة، التي يجبرون عليها في المدن الصناعية والمعامل، مع رواتب وأجور لا ترقى لمستوى الأزمات والمصاريف المطلوبة في الوقت الحالي.

نوّار (39 عامًا)، وهو أحد سكان بلدة الغنطو في ريف حمص الشمالي، قال لعنب بلدي، إنه منذ دخول ريف حمص الشمالي في “تسوية” مع قوات النظام السوري، في أيار 2018، حصل على عمل في مؤسسة للبناء والمقاولات بصفة عامل، ومنذ ثلاثة أعوام لم يستطع الحصول على يوم إجازة واحد، خوفًا من الخصم الذي سيلحق براتبه.

“أنا أعيش الروتين المكرر منذ ثلاث سنوات، وراتبي لا يكفي عائلتي المكوّنة من ستة أشخاص، والديون تتراكم عليّ ولا أستطيع سدادها، ما أدخلني في حالة من الإحباط لم أشعر بها من قبل، حتى إن دوامي في الورشة لم يدع لي الوقت لزيارة عيادة نفسية مجانية، ولا أملك المال للتوجه إلى عيادة خاصة بعد الانتهاء من عملي الذي يبدأ الساعة في السادسة صباحًا وينتهي في السادسة مساء”، بحسب ما قاله نوّار، الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية.

ولا يوجد لدى العامل الثلاثيني متنفّس للتعبير عن المشكلات التي يعاني منها مع أصدقائه بحرية، فعبارة “الحيطان إلها (لها) آذان” عادت مع عودة سيطرة النظام على المدينة، بحسب ما قاله نوّار، ولا يوجد هامش آمن للتعبير عن رأي ينتقد السلطة، فإذا اشتكى الفرد من الوضع العام ورفع سقف انتقاده، فلن يضل رجال الأمن طريقهم لاعتقاله.

وتُعتبر الفئات الأشد ضعفًا في المجتمع أكثر حاجة للدعم النفسي- الاجتماعي بمستوياته المختلفة، مثل فئة الأطفال، والمراهقين، وذوي الإعاقة، والنساء الوحيدات والمعيلات لأسرهن، والناجين من التعذيب والعنف الجنسي، والأفراد الذين يعانون اضطرابات نفسية مشخصة سابقًا.

“في حياتنا شيء يجنن”

تلقى عيادات الطب النفسي رواجًا كبيرًا في المدينة، مع تلاشي الخوف لدى المرضى من البوح بأنهم يعانون من مشكلات نفسية، أو القول إنهم يداومون على زيارة عيادات الطب النفسي، فحجم المعاناة النفسية لدى بعض منهم، صار أكبر من الحرج المجتمعي الشائع من “وصمة العار” بسبب زيارة الطبيب النفسي، التي عادة ما يربطها المجتمع بالجنون.

بعض الأشخاص ينظرون إلى المريض النفسي على أنه مختل عقليًا، فينصبون له الحواجز الاجتماعية خوفًا منه، أو حتى من التعامل معه.

“نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين. وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قويًا وعاقلًا وحكيمًا ومتفهمًا. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة، فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكرورة، ومملة. نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون. صار علينا أن نكف عن اعتبار الجنون عيبًا واعتبار الجنون عاهة اجتماعية. في حياتنا شيء يجنن. وحين لا يجن أحد فهذا يعني أن أحاسيسنا متبلدة وأن فجائعنا لا تهزنا. فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة”.

كتاب “دفاعًا عن الجنون” للكاتب السوري ممدوح عدوان (الصفحة 15).

زيارة العيادة النفسية بارتفاع

أحد الأطباء النفسيين الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية، قال إن المجتمع بشكل عام بدأ يتقبل فكرة زيارة العيادة النفسية، فالضغوطات المادية والأزمات التي يعاني منها الجميع هي سبب ما يعانيه المرضى بشكل عام، وشفاء معظم المرضى مرهون بزوال مسبباتها من توفر سبل العيش الكريم.

وتابع الطبيب، “خلال عام 2020 مع تزايد انتشار (كوفيد- 19)، زاد معدل زيارة الأشخاص إلى العيادة، ولم ينخفض معدل هذه الزيارة، بل من الملاحَظ أنها بارتفاع، خصوصًا لدى مراكز العلاج النفسي المجانية التي تدعمها المفوضية”.

والأشخاص الذين عاشوا تجربة الاعتقال في السجون السورية ونجوا منها، “لهم حالاتهم الخاصة”، وفق ما قاله الطبيب، بسبب ما تعرضوا له خلال فترة اعتقالهم من تعذيب وإهانة، و”معظمهم يخاف حتى الحديث عما عاناه داخل السجون، وبعض منهم يحتاج إلى مصحّات لشفائه ورعاية نفسية عالية الجودة، وهي غير متوفرة في سوريا، والبعض بحاجة إلى الخروج من سوريا، لأنه المكان الذي يذكرهم بما عاشوه في المعتقل”.

لا يقف الأمر عند “وصمة العار” التي تلحق مرضى الاضطراب النفسي، ويتعداه إلى تردي واقع معيشتهم الاقتصادية، حيث تحدي تأمين ثمن الأدوية التي يحتاجون إلى تناولها لفترات طويلة خلال علاجهم.

منى (36 عامًا)، وهي صيدلانية في مدينة الرستن شمالي حمص، قالت لعنب بلدي، إنها تلاحظ ازديادًا كبيرًا في عدد الوصفات التي تحتوي على المهدئات ومضادات الاكتئاب التي يحملها المرضى بعد مراجعاتهم الأطباء النفسيين.

وأضافت الصيدلانية الثلاثينية، التي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية، أن عددًا لا بأس به من المراجعين لصيدليتها يعيشون على المهدئات، ولا يمكنهم العيش من دونها.

ورغم توفر العيادة النفسية في المراكز المجتمعية، فإن العديد من سكان المنطقة يتوجهون للعيادات الخاصة، خوفًا على خصوصيتهم من تسريب معلومات عن حياتهم الشخصية في العيادات المجانية، فيما تتراوح تعرفة مراجعة العيادات الخاصة بين ثلاثة وخمسة آلاف ليرة سورية (من 80 سنتًا إلى دولارين تقريبًا).

وعلى الصعيد الحكومي، ضمن مناطق سيطرة النظام السوري، لا يوجد سوى القليل من المستشفيات التي تقدم الصحة النفسية بشكل تخصصي، مثل مستشفى “ابن سينا” الخاص بالأمراض النفسية في العاصمة دمشق، ومستشفى “ابن خلدون” في مدينة حلب، عدا عن ذلك كان هنالك قسم للصحة النفسية في بعض المستشفيات، مثل قسم الصحة النفسية في مستشفى “المواساة” بدمشق.

وفي مدينة حمص، يفتقر مرضى الاضطراب النفسي إلى الخدمات الحكومية الخاصة بالمعالجة النفسية، ولذلك بدأت المنظمات غير الحكومية بتقديم خدمات الدعم النفسي بسبب قصور المراكز الحكومية بشكل عام.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة