tag icon ع ع ع

عنب بلدي | حباء شحادة

سرى الصمت بين الحضور وأعينهم مركّزة على ما تعرضه شاشة قاعة الاجتماع الواسعة، في مدينة غازي عينتاب التركية، أواخر تشرين الأول الماضي، وهم يشاهدون مذيعة قناة “الدنيا”، الموالية للنظام، تتجول بين الجثث وتقحم الكاميرا فوق رؤوس الجرحى.

كسرت تلك التغطية الإعلامية، في آب عام 2012، كل القواعد المهنية في نقلها للمجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في مدينة داريا بريف دمشق، بتزييفها وانتهاكها كرامة الضحايا ونقلها رسائل العنف والتحريض إلى الشارع السوري، ما جعل المسؤولين عن بثها شركاء في جريمة الحرب.

نوقشت هذه الحالة في ورشة التعريف بلجنة الشكاوى التابعة لـ”ميثاق شرف للإعلاميين السوريين”، التي جمعت صحفيين من مؤسسات صحفية، وإعلاميين نابوا عن منظمات إنسانية فاعلة في سوريا، معظمهم شاهد مقطع “الدنيا” سابقًا، لكن المشهد لم يكن أخف وطأة مع التكرار.

وكان عرض اللحظات الأولى من التقرير كفيلًا بتركيز أذهان الحضور على الأذى الذي يمكن للإعلام إلحاقه بالجمهور في حال تخلى عن معاييره المهنية، التي تمثّل قوانينه الأخلاقية عند تغطيته لأي حدث، وافتُتح النقاش حول مسؤولية المؤسسات والمنظمات والمتلقين للتغطيات الإعلامية عن منع مرور أي خرق لتلك المعايير عبر منصات الإعلام السوري المستقل.

لم يعد دور الإعلام يخفى على الجمهور السوري، لكن موثوقيته والتزامه بقواعد المهنة ما زالا موضع جدل وتشكيك، لذا ظهرت مبادرة “ميثاق الشرف”، التي تعد فريدة خلال مسيرة الصحافة السورية، وهي تحدد معايير ناظمة للعمل الإعلامي بغياب آليات المحاسبة والمساءلة، عبر ترسيخ التزام المؤسسات الموقعة بالقواعد الأخلاقية المهنية.

لكن ما مدى جدوى هذه المبادرة التي قضت سنوات دون أن تحقق الانتشار المطلوب لجمع وسائل الإعلام المستقلة تحت مظلتها؟ وما فائدتها للجمهور الذي لا يثق بالمنصات الإعلامية ولا بالتزامها بالتصحيح؟ تطرح عنب بلدي في هذا الملف هذه التساؤلات على صحفيين وخبراء ومتلقين لمناقشة إمكانية وقوف وسائل الإعلام السورية والجمهور على مسؤوليتهما معًا للوصول إلى الإعلام المهني المطلوب.

لا جدوى من الشكوى؟

ثقة غائبة بالإعلام السوري

مسيرة الإعلام في سوريا كانت مميزة على الصعيد العالمي خلال العقد الماضي، إذ واكبت الحرب تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي مكّنت شهود العيان والناشطين من نقل ما غضت عنه وسائل الإعلام التابعة للنظام السوري الطرف وتجاهلته أو زيّفته من مجازر وانتهاكات بحق الشعب المطالب بالإصلاح منذ عام 2011.

معرفة المعايير الأخلاقية لم تكن مهمة صعبة على الإعلاميين الجدد أو القدامى الذين وقفوا في وجه الخطاب الأوحد لمؤسسات الدولة، مع اهتمام المنظمات الدولية المعنية بالصحافة بتقديم التدريبات المهنية لهم منذ السنوات الأولى، خصوصًا مع تقييد دخول الصحفيين الأجانب إلى سوريا للتغطية بشكل آمن، لكن الالتزام بتلك القواعد كان أمرًا آخر حين وجد الناشطون أنفسهم في مواجهة إعلام النظام الذي خالف كل تلك المعايير في نقل الأحداث للجمهور المحلي والعالمي، الذي بدوره وقف حائرًا أمام روايتين متناقضتين.

شخص يشخط على جريدة عربية (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص )

شخص يشخط على جريدة عربية (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص )

وقوع وسائل الإعلام السورية المعارضة في أخطاء مهنية أفقدها ثقة الجمهور الغربي أولًا، مع قدرته على تمييز المخالفات الصحفية، ثم الجمهور السوري الذي حاكمها أخلاقيًا في أثناء تركيزها المستمر على واقعه.

“أنا لا أثق بالإعلام السوري، وحينما أريد متابعة خبر ألجأ للقنوات الحيادية العالمية”، قالت المديرة الإدارية ومسؤولة المكتب الإعلامي بمنظمة “نساء التمكين”، بثينة رحال، التي شاركت في الورشة التعريفية بلجنة الشكاوى.

برأي بثينة، فإن وسائل الإعلام السورية، المؤيدة والمعارضة، تشاركت بانتهاك المعايير المهنية، طرف زيّف الواقع وقدم ما حصل في سوريا على أنه “مؤامرة” وأن المطالبين بالإصلاح هم “مخربون”، وطرف “بالغ وهوّل” في نقل الأحداث، بحسب ما قالته لعنب بلدي.

التزمت بعض وسائل الإعلام المعارضة بالمعايير، وعملت على ضبطها في تغطياتها وموادها بغرض استرجاع تلك الثقة وتحقيق الفائدة للجمهور، ومن هنا كانت الخطوة الأولى نحو اعتماد “ميثاق شرف للإعلاميين”، ثم الموافقة على إطلاق لجنة الشكاوى التي وضعت تلك المؤسسات تحت رقابة المتابعين.

“الحياد” كان الأساس الذي ارتكزت عليه بثينة، الناشطة في المجال الإنساني والاجتماعي، لمنح ثقتها لوسيلة الإعلام، وهو أحد المعايير المهنية التي لم تكن على علم بأساسياتها قبل الورشة التعريفية، لكنها لم تعمد قبلًا للشكوى على مؤسسة خالفت ذلك المعيار في تغطياتها.

اتجهت عنب بلدي لاستطلاع آراء المتابعين لوسائل الإعلام المستقل من خلال مقابلات في شمال غربي سوريا، حيث تسهل متابعة تلك الوسائل وينشط فيها المراسلون الذين يكونون على احتكاك مباشر مع الجمهور.

لم يكن الصيدلاني أحمد صبرة، المقيم في ريف إدلب الشمالي، مستقرًا في رأيه حول جدوى الشكوى للإعلام السوري في حال وقوعه بأخطاء مهنية، معتبرًا أن “كل وسائل الإعلام تنقل الحقيقة من وجهة نظرها”، فهو لم يتهمها بالتزييف ولكن بالتوجيه العمد نحو رأي دون آخر، بحسب ما قاله لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن الجمهور السوري غير فاعل نحو إصلاح الخطأ، لكنه يكتفي بالتعليق والاستهزاء بدلًا عن النقد البنّاء.

في مدينة إدلب، استبعد المحامي محمد السلامة استجابة وسائل الإعلام “المسيّسة” للشكاوى حول أخطائها، حسب رأيه، لكنه لم يستبعد فكرة التواصل مع مؤسسات الإعلام التي يجد أنها تتحلى بالمصداقية، معتمدًا على مدى تكرار الأخطاء للحكم على المؤسسة الصحفية وإمكانية التفاعل معها.

حاولت هيفاء المحمد، خريجة كلية الإعلام من “الجامعة الدولية للعلوم والنهضة”، في ريف حلب الشمالي، التواصل بالفعل مع مؤسسة صحفية لتصحيح خطأ ورد في إحدى تغطياتها لكنها لم تلقَ أي استجابة، بحسب ما قالته لعنب بلدي.

مر الناشط الصحفي كرم داروخ، المقيم في ريف حلب الشمالي، بتجربة مماثلة في محاولة تصحيح خطأ لقناة لم تستجب له، إلا أنه لا ينفي احتمالية الرد من جميع وسائل الإعلام المصنفة في صف المعارضة، وإن كان أكثرها “لن يستجيب”، حسب رأيه، وقال لعنب بلدي، “قنوات الإعلام لم تفهم أن الجمهور كان بحاجة في بداية الثورة لإعلام مناصر لقضاياه وينقل الصورة كما هي، لكننا بعد 11 عامًا تخطينا مرحلة الطوارئ، وأصبحت تدريبات الإعلاميين بالجانب المهني والأخلاقي أمرًا لازمًا، لكن الواقع مؤسف”.

بيّنت دراسة منظمة “Free Press Unlimited” (منظمة عالمية تهدف لدعم الصحافة المستقلة) للجمهور السوري، الصادرة في كانون الثاني عام 2021، أن السوريين يريدون مصادر إعلام موثوقة، إذ خلقت حالة نقص الثقة بوسائل الإعلام عادة مقاطعة المعلومات من مصادر متعددة قبل اعتمادها من قبل الجمهور، مع تجنبهم مصادر الإعلام المنحازة التي تتضمن “خطاب الكراهية“.

وركّز المشاركون بالدراسة، التي اعتمدت على الاستبانات العامة والمقابلات الشخصية والبحث العملي لجمع بياناتها مما يزيد على ألف مشارك، على أن “حيادية الأخبار مهمة”، مع الحاجة للأخبار المتوازنة، وإدراك قدرة الصحافة المستقلة على خلق جسور الوحدة والسلام في سوريا.

ماضٍ لا يغفر الخطأ

ظل الإعلام السوري تحت سيطرة محكمة للنظام الحاكم لعقود طويلة قبل الثورة، لم يستطع المرور منها سوى استثناءات بسيطة بأثر محدود، وبعد تخلص قسم من السوريين من تلك السيطرة، أنشؤوا عشرات المنصات الإعلامية المستقلة، أي غير المرتبطة بالحكومة أو المتحدثة باسم فصيل أو جهة ما، ووجدوا أنفسهم تحت حكم أطراف تشابهت بعقليتها التي تحد من الحرية وتحدد القوانين الإعلامية في منع ما يخالف توجهاتها وانتقاد انتهاكاتها، في الشمال الشرقي والغربي من سوريا.

منذ نزوح سكان بلدة التح، من ريف إدلب الجنوبي، قبل ثلاثة أعوام، نحو الريف الشمالي، وإقامتهم في المخيم الذي حمل اسم بلدتهم، تركزت عليهم التغطية الإعلامية بسبب جهود مدير المخيم، عبد السلام اليوسف، وتسهيله التغطيات الصحفية وتعاونه مع الإعلاميين في كل المواضيع التي يودون تغطيتها.

اليوسف لم يشِر إلى القوانين المفروضة على الأرض، وهو يتحدث لعنب بلدي عن أخطاء التغطيات الصحفية التي اختبرها خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن إلى ضعف تأهيل الكوادر مهنيًا ونقص خبراتهم حسب رأيه، فعلى الرغم من مرور 11 عامًا على بدء عمل الصحافة المستقلة في نقل الأحداث، ما زالت بعض كوادرها ضعيفة التدريب وتجهل قواعد المهنة الأساسية.

يرى الناشط الإعلامي والمؤسس في وكالة “ثقة”، ماجد عبد النور، أن إعلام المعارضة تفوّق على إعلام النظام في بداية الثورة، “بسبب فشل إعلام النظام وفشل منظومته الأمنية، وليس لأننا كنا محترفين”، بحسب ما قاله لعنب بلدي، مضيفًا أن “إعلام الثورة” اليوم “يتشابه مع إعلام النظام في كثير من التفاصيل”، وهو ما دفع الجمهور للابتعاد عن منصاته واللجوء لمواقع التواصل الاجتماعي.

لم يقرأ عبد النور “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين” لكنه سمع عنه، معتبرًا أن الالتزام بالمعايير المهنية هو من “مسلّمات الصحفي وإلا لن يكون صحفيًا”، وأوضح رأيه وتجربته خلال نقل الأخبار في السنوات الماضية بأن الوقوع في الخطأ وارد، لكن التعديل والتصحيح أو حذف الأخبار غير الصحيحة هو الواجب المهني، “هي حالة طبيعية وتزيد من ثقة الناس ولا تنقص من الصحفي”، كما قال.

شخص يرفض إجراء مقابلة (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص )

شخص يرفض إجراء مقابلة (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص )

الجمهور وحده المعيار؟

شغلت قضية منع “أورينت”، التي تعد من أكثر وسائل الإعلام السورية انتشارًا بين الجمهور، من التغطية الإعلامية في إدلب، من قبل حكومة “الإنقاذ”، التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، الرأي العام، بداية تشرين الأول الماضي، بين من تعاطف مع المؤسسة الإعلامية وحقها بالتغطية “الحرة”، وبين من انتقد تعاطيها مع قضايا المنطقة، خصوصًا مع استخدام حجة “نقص المهنية” من قبل الجهات الأمنية المسيطرة على الأرض لمنعها عن العمل.

لا تعترف “أورينت” بفكرة “الميثاق”، بحسب ما أوضحه مدير تحرير المجموعة الإعلامية، علاء فرحات، قائلًا إن المعيار الوحيد هو “الجمهور، هو الوحيد القادر على المحاسبة، هو من يرفع المؤسسة الإعلامية أو يسقطها”.

خلال الأيام الأولى بعد منع “أورينت” من قبل الفصيل الذي وثّقت جهات حقوقية ارتكابه انتهاكات بحق الصحفيين، ويُتهم بسعيه لبناء شبكة إعلام “موالية” شبيهة بإعلام النظام، استرجع الناشطون الإعلاميون دور القناة في تغطية الاحتجاجات السلمية عام 2011، حينما بنت قاعدتها الجماهيرية في “الوقوف مع الثورة”.

وغطت “أورينت” بدورها قرار منعها الثالث عن التغطية، بعد منعها من قبل النظام السوري ومن بعده “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، وردت بأن “دور الصحافة الحرة هو النقد والبحث عن الانتهاكات لا الإنجازات، وهذا في البلدان الطبيعية”، أما في حالة الحرب التي تعيشها سوريا فيعتبر طلب ذلك المديح “إهانة للصحافة وخسارة لاحترام الناس”، وهو ما كانت تريده كل سلطة منعتها من التغطية في مناطق سيطرتها.

لكن تغطيات “أورينت” الإعلامية لا تخلو من “التمييز” (كاستخدام أوصاف طائفية للتعريف بجهات معيّنة)، وتعتمد أحيانًا على مصادر غير جديرة ولا موثوقة لنقل بعض المعلومات، وهو ما يعرّضها للنقد من الاختصاصيين، ومن قبل الجمهور أيضًا.

برأي فرحات، فإن طلب الالتزام بالمعايير خلال حالة الحرب التي تعيشها سوريا ليس ملائمًا، واعتبر أن القناة لم تبدأ بالتمييز، ولكنها “تسمي الحقائق كما هي”، وقال إن المواثيق الأخلاقية “شكلية”، وليست سوى “بريستيج” للمؤسسات الإعلامية، و”تقيّد عمل الصحفي”.

ومع نفيه لمعرفته بتجربة “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين” أو دعوة “أورينت” للتوقيع عليه، رفض فكرة القبول به.

“في سياستنا الداخلية نحن دائمًا مع الجمهور، مع السوريين، وسقف حريتنا عالٍ، لن أضع لنفسي أطرًا ولن أقبل أن يضعها لي طرف آخر تحت اسم ميثاق ليقيّدني، حينما أرى انتهاكًا من طرف ما أنا أسميه بالميليشيا، بالعصابة، طالما أنه يلحق الضرر بالمجتمع السوري”، قال مدير تحرير مجموعة “أورينت” الإعلامية.

وأضاف فرحات أن المؤسسة تلتزم بالقوانين الإعلامية التي تفرضها الدول المضيفة، لكنها لا “تحابي أحدًا على قضايا الجمهور، ونحن ملتزمون بتقديم الخبر الأصدق والأدق له، وأن نكون سريعين بنقل معاناته وتقديم قضاياه”.

صحفي سوري يقرأ في جريدة عنب بلدي (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص)

صحفي سوري يقرأ في جريدة عنب بلدي (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص)

ما حاجتنا للإعلام

التصقت صفة “إثارة الجدل” بالإعلام منذ بدء انتشاره كمهنة ورقابة، من وإلى المجتمع، واستُخدمت بعض مواده وتحقيقاته في إطلاق الأحكام القضائية التي كانت السبيل لمحاسبة مجرمين، وأخرى وثّقت انتهاكات وكشفت حقائق لم يُرد لها الظهور.

تعرض الإعلام للتلاعب، وكان أداة لجهات وسلطات روّجت لمفاهيمها وغرست أفكارها في عقول الشعوب لتسيطر عليهم وتتحكم بهم، ووصل أذاه للتحريض على العنف عند استخدام “خطاب الكراهية” في شحن فئة ضد أخرى، ليكون شريكًا فاعلًا بجرائم وانتهاكات.

إثارة الإعلام للجدل استمرت ضمن دوائر صنّاعه ومحركيه، إذ تتكرر مرارًا النقاشات حول رسالته و”مسؤوليته الأخلاقية”، وحول معاييره الأساسية، وصلاحيتها الاجتماعية.

أستاذ الصحافة في جامعة “بروكسل الحرة” يزن بدران، ركّز في إجابته عن سؤال حول فائدة الإعلام، بأنه “مؤسسة مجتمعية أساسية تنظم معرفتنا وعلاقتنا بالعالم المحيط”، بحسب ما قاله لعنب بلدي، مضيفًا أن الصحافة تقدم المعرفة والشرح اللازمين لتكوين الآراء الواعية لدى الجمهور حول القضايا التي تنقلها، “خصوصًا في الحقل السياسي”، وتمكّنه بالتالي من فهم المشكلات التي تعترض مجتمعه وإيجاد الحلول الملائمة لها.

علاقة المعايير المهنية للصحافة بقدرتها على تحقيق الفائدة للجمهور علاقة “ارتباط عضوي”، حسب وصف بدران، أي لا يوجد أحدهما دون الآخر، فدون عرض آراء جميع الأطراف ذات العلاقة بالقضية التي ينقلها الإعلام (أي الالتزام بمعيار الموضوعية)، ودون إيضاح مصادر المعلومات التي استندت إليها الجهة الإعلامية، مع شرح صلة المصادر بالمعلومات المقدمة (أي الالتزام بمعيار الشفافية)، لن يكون لدى المتلقي ما يكفي من المعلومات ليقيّم مدى مصداقية المعلومات المختلفة ولا فهم القضية بشكل كافٍ للمفاضلة بين الآراء وتكوين رأيه الخاص عنها.

ضمان المحاسبة

ربطت “شبكة الصحافة الأخلاقية” (EJN) بين الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية وقدرة الصحافة على تحقيق هدفها وفائدتها للجمهور.

ولخّص مدير الشبكة التي تضم 70 مؤسسة إعلامية عالمية، آيدن وايت، أهم خمسة مبادئ تشاركت بها معظم مواثيق الإعلام حول العالم، وهي الدقة، والاستقلالية (عدم الانحياز)، والحياد (نقل جمع وجهات نظر الأطراف ذات العلاقة بالحدث)، والإنسانية (فهم عواقب ما ينشره الصحفي وتجنب الإيذاء والضرر)، وخامسًا “ضمان المحاسبة”، وهو ما قال إنه “أمر صعب على الصحفيين على الرغم من حزمهم في مساءلة الآخرين، لكن التراجع عن الأخطاء هو ما عليهم فعله، وكذلك التفاعل مع الجمهور للتصحيح عند الخطأ”، مشيرًا إلى أن هذه المبادئ هي ما يجعل الصحافة مختلفة عن غيرها.

إطلاق لجنة الشكاوى من قبل “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين” كان مستمدًا من إيمان مماثل بأن المحاسبة ومساءلة الجمهور لوسائل الإعلام يضمن ابتعادها عن الانتهاكات المهنية، فـ”اللجنة تشجع الجمهور على المطالبة بحقه بتصحيح الأخطاء وتصويبها لا أن يكون مجرد متلقٍّ فقط”، بحسب ما قاله المدير التنفيذي للميثاق، الدكتور ملحم العبد الله.

يتوقع العبد الله أن تصبح المنظمة مظلة مهنية أخلاقية جامعة لجميع وسائل الإعلام السوري المستقل، لكنها لم تحقق الانتشار المطلوب بين الجمهور ووسائل الإعلام خلال السنوات السبع التي نشطت خلالها، مع رفض بعض المؤسسات السورية الأوسع انتشارًا الانضمام، والاصطدام بنقص ثقة الشارع السوري بجدوى الشكاوى.

بعد تسعة أشهر على إطلاق نظام الشكاوى، لم تتلقَّ اللجنة سوى ثلاث، منها اثنتان لم تتوافقا مع الشروط المحددة لقبول الشكاوى، ولم يتم العمل سوى على تصحيح الشكوى الأخيرة، وهو ما تم بـ”سلاسة”، على حد وصف المدير التنفيذي للميثاق.

زلزال للإعلام السوري

ميّز مدير التحرير في مؤسسة “عنب بلدي”، والرئيس السابق لـ”رابطة الصحفيين السوريين”، علي عيد، أسباب نقص الالتزام بالمعايير المهنية بالنسبة لوسائل الإعلام السورية المستقلة، من كونها نشأت من تجربة “الصحفي المواطن”، وضمن بلد لم يكن يتبع المعايير الأخلاقية في تغطياته الإعلامية إلا “وهمًا”، لكن استمرار هذه الحالة “غير مبرر”، بحسب ما قاله، مضيفًا أنه، وحسب خبرته في العمل الصحفي خلال 25 عامًا، يرى أن الإعلام السوري “يحتاج إلى زلزال”.

مبادرات تنظيم العمل الإعلامي السوري وتطبيق المعايير المهنية، مثل “الميثاق”، بقيت “خجولة”، حسب وصف عيد، “خجولة بالمعنى المادي، وهذا الخجل لا يعكس رغبة الجهة أو المنظمة أو الإدارات القائمة على هذه المؤسسات، لكن الإطار الذي تعمل فيه، وحجم كوادرها، ومستوى الدعم المقدم أو مصدره، هو ما يفرض هذه الحالة”.

يحتاج الإعلام السوري المستقل لإعادة ضبط أسسه ومحتواه وآلية إنتاجه ليتجاوز أخطاءه، وإن عمل صحفيين سوريين ووسائل إعلام كاملة بلا تمويل يدل على رغبة حقيقية منهم بلعب دور بنقل المعلومات، بحسب ما قاله عيد، مشيرًا إلى أن التكلفة الاقتصادية للإعلام “باهظة“، وبلا دورة اقتصاد تنتج تمويلًا ذاتيًا، إذ يبقى التمويل معتمدًا على المتبرعين أو المانحين ومشاريعهم المحدودة.

فكرة نظام الشكاوى “سديدة”، حسب رأي مدير التحرير في مؤسسة “عنب بلدي” الموقّعة على “الميثاق” وعلى نظام الشكاوى، فخشية وسائل الإعلام من أن توصف بأنها غير مهنية أو تقدم محتوى تحريضيًا أو “خطاب كراهية” سيقودها إلى مراقبة الشكاوى “بقلق”، وهذا سيتطور للوصول إلى مرحلة الرقابة الذاتية للالتزام بالمعايير المهنية المطلوبة في قطاع الإعلام.

موقع “حرية برس” من المؤسسات الإعلامية الموقّعة على الميثاق، وبرأي الصحفي أمجد الساري، أحد مؤسسي الموقع، فإن الخضوع لمعايير الميثاق ورقابة الجمهور يسمح بتوحيد الجهود الإعلامية لبلوغ عمل مهني وموضوعي يتمكّن من تحقيق غايته “بنقل هموم الناس وتسليط الضوء على قضاياهم”.

لا يخشى أمجد من فكرة تتبع الجمهور للأخطاء المهنية التي قد يقع بها صحفيو “حرية برس”، فـ”إن أخطأنا فسيكون من حق الجمهور أن يحاسب”، بحسب ما قاله لعنب بلدي، مشيرًا إلى ثقته بالخبراء المشاركين في اللجنة وتمييزهم المهني بين الشكاوى الصالحة والخاطئة.

بالنسبة لموقع “درعا 24″، الذي يعد أول موقع مختص بنقل الأحداث من منطقة تخضع لسيطرة النظام السوري يوقّع على “الميثاق”، كان سبب التوقيع هو الرغبة بالمشاركة الفاعلة ضمن منظومة الإعلام السوري المستقل، والتواصل مع الجهات الإعلامية على امتداد سوريا، بحسب ما أوضحه مدير البرامج في الموقع، حسن خلف.

“التطبيق الصحيح لنظام الشكاوى في أي عمل يستهدف المجتمع لا بد أن يؤدي إلى تحسين جودة الخدمة المقدمة، وبناء الثقة، وزيادة القبول والمصداقية، وهو عامل مهم في الكشف عن الأخطاء والإسهام في تصحيحها، مع تشجيعه على الشفافية والحياد”، بحسب ما قاله خلف لعنب بلدي.

صحفي يصور مع طفلة قاصر (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص )

صحفي يصور مع طفلة قاصر (صورة تعبيرية عنب بلدي / عبد المعين حمص )

اشتكِ لتصحيح الخطأ

يقوم نظام الشكاوى التابع لـ”الميثاق” على إتاحة إمكانية الشكوى على أي مادة إعلامية تُنشر عبر وسائل الإعلام الموقّعة على مدونة السلوك الخاصة به، ثم التحقق من صلاحيتها من قبل لجنة مستقلة، ثم التوسط بين الجهة الإعلامية والمشتكي لاتخاذ الإجراء المناسب في حال أثبتت الشكوى مخالفة للمعايير المهنية.

وفيما تنحصر آليات المحاسبة التي تمتلكها اللجنة بإصدار التقارير التي تثبت المسؤولية الأخلاقية لوسائل الإعلام في حال عدم تجاوبها مع الشكاوى، دون محاسبة قضائية أو مالية، وتختص بالجهات الإعلامية الموقّعة على “ميثاق شرف للإعلاميين”، فإنها وسيلة ضغط تؤثر على سمعة المؤسسات غير المنضبطة بالمعايير المهنية.

وبإمكان مجلس إدارة “الميثاق”، وبالتنسيق مع لجنة الشكاوى، أن يوسع إطار عمل نظام الشكاوى ليتناول بتقاريره المؤسسات الإعلامية السورية غير الموقّعة أيضًا، بهدف حث المؤسسات كافة على الحذر من ارتكاب الانتهاكات المهنية التي قد توقع ضررًا للجمهور.

وتتجنب اللجنة، وفقًا لتعريف مهامها وأهدافها، شحن أطراف الشكوى، وإثارة الحساسيات بين الجمهور والمؤسسات الإعلامية، مع التزامها بتقديم التدريب والتوعية والإرشاد بالمعايير المهنية والأخلاقية في الإعلام والممارسات المثلى في مهنة الصحافة.

آلية تقديم الشكاوى

هل لاحظت سابقًا السطرين الأخيرين في ذيل جميع المواد المنشورة عبر موقع عنب بلدي:

“إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى”

الرابط الأول معني بإرسال التصحيحات إلى مؤسسة عنب بلدي مباشرة، والثاني ينقلكم إلى موقع “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين” لتقديم الشكوى المتعلقة بالانتهاكات المهنية، وبإمكانكم البحث عن موقع الميثاق وتقديم الشكوى بشكل مباشر.

وعلى المشتكي تقديم نسخة أو صورة أو رابط للمادة موضوع الشكوى، وتحديد البند الذي تم خرقه في مدونة السلوك المهني، ووصف الخرق وشرح سبب الاعتقاد بأنه يشكّل انتهاكًا لمدونة السلوك المهني.

وعليه أن يقدم نسخًا أو صورًا عن المراسلات مع وسيلة الإعلام المشتكى منها، إن وجدت، وأن يحاول ألا تكون الشكوى على مواد نُشرت قبل مدة زمنية طويلة.

يفضّل دائمًا تقديم الشكوى في أقرب وقت ممكن من تاريخ ارتكاب الانتهاك أو المخالفة، إذ لن تنظر اللجنة في شكاوى تخص مواد نُشرت قبل ما يزيد على ثلاثة أشهر من موعد تقديم الشكوى، باستثناء إن كان المشتكي قد تعرض لضرر مباشر بسبب المادة، حينها تحسب مدة ثلاثة أشهر منذ علمه بنشر المحتوى، بشرط وجود أدلة تثبت الضرر وتصفه، ويسقط حق المتضرر في تقديم الشكوى بعد مرور سنة على النشر.

English version of the article

مقالات متعلقة