يد روسية وراء التأجيل.. ليست أمريكية

“غموض بنّاء” يعطل ترسيم الحدود البحرية بين سوريا ولبنان

camera iconسفينة حفر تابعة لشركة "إنيرجيان" قرب حقل "كاريش" الذي استحوذت عليه إسرائيل بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان- أيار 2022 (رويترز)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – محمد فنصة

لم يطرأ أي تغيير على ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا، منذ طرحه الأخير قبل نهاية ولاية الرئيس اللبناني السابق، ميشال عون، وفي ظل تجاهل إعلامي رسمي للقضية، يُثار التساؤل عن سبب امتناع النظام السوري عن فتح الملف.

وعلى الرغم من الحديث عن الفوائد الاقتصادية المرجوة من ترسيم الحدود البحرية، كما هي الحال حين وُقّع اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل، لم يبدِ النظام أي قبول تجاه الجار المتحمس لإنهاء الملف، حيث بادر برفض برره السفير السوري السابق في لبنان بـ”امتلاء جدول الأعمال”.

وكان الرئيس اللبناني السابق كلّف، في 24 من تشرين الأول الماضي، وفدًا بزيارة سوريا لبحث قضية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، برئاسة نائب رئيس مجلس النواب، إلياس بوصعب، كما ضم وزيري الخارجية، عبد الله بوحبيب، والأشغال والنقل، علي حمية، ومدير الأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم.

وبعد اعتذار دمشق في اليوم التالي عن عدم استقبال الوفد اللبناني بسبب “ارتباطات مسبقة”، قال السفير السوري السابق لدى لبنان، علي عبد الكريم علي، عقب لقاء الرئيس اللبناني السابق، إن “التباسًا حدث في الاتصال بين الرئيسين عون والأسد حول موعد زيارة الوفد إلى دمشق”.

وأضاف أن اللقاء لم يُلغَ “بل تأجل بسبب عدم توفر الوقت عند الجانب السوري”، في حين لم يُحدد موعد جديد لاستقبال الوفد اللبناني حتى الآن.

الرئيس اللبناني السابق، ميشال عون، في زيارة سابقة لرئيس النظام السوري، بشار الأسد- في 3 من كانون الأول 2008 (رويترز)

ما التقديرات النفطية؟

في عام 2005، أجرت شركة “INSEIS” النرويجية، باتفاق مع الشركة السورية للنفط، عمليات المسح “السيزمي ثنائي الأبعاد” الذي شمل خمسة آلاف كيلومتر طولي، غطت مساحة عشرة آلاف كيلومتر مربع، وفي 2011، أصدرت شركة “CGG Vertitas” الفرنسية التي استحوذت على “INSEIS” تقريرها حول هذا المسح.

وجاء في التقرير أن “سوريا البحرية منطقة معقدة جيولوجيًا، تقع فوق الحدود التكتونية بين الصفائح الإفريقية والأوراسية”، ويؤكد التقرير وجود ثلاثة أحواض رسوبية في الساحل السوري، وأن نتائج التحليل المسحي “مشجعة”، بوجود مكامن للنفط والغاز.

وأشار تقرير هيئة “المسح الجيولوجي الأمريكية” الصادر في 2010، إلى احتياطي في حوض شرق البحر المتوسط، بنحو 1.7 مليار برميل من النفط، و122 تريليون متر مكعب من الغاز القابل للاسترداد، وهذا يشمل حوض المشرق قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل.

ولا تقدم وزارة النفط السورية المعنية بملف النفط والغاز معلومات أكيدة أو متوقعة عن الاستكشاف في شرق المتوسط قبالة السواحل السورية، فيما أشارت صحيفة “الثورة” الحكومية، في 2013، إلى أن مساحة الجزء السوري من حوض شرق المتوسط تقدّر بنحو 6.5% من إجمالي مساحة الحوض.

وذكرت الصحيفة أن المياه البحرية الإقليمية والاقتصادية السورية تتمتع بـ”مأمولية جيدة”، وأن هناك أملًا باكتشاف الغاز في الجزء الجنوبي، والنفط في الجزء الشمالي.

ونقلت الصحيفة حينها أنه سيجري التنقيب في “البلوك البحري رقم 1″، ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لسوريا في البحر الأبيض المتوسط، مقابل ساحل محافظة طرطوس، حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية- اللبنانية، بمساحة 2250 كيلومترًا مربعًا.

ووفقًا لذلك، تتقاطع المنطقة البحرية المذكورة مع 750 كيلومترًا مربعًا يعتبرها لبنان من مياهه الاقتصادية.

ملف الغاز السوري.. “الغموض البنّاء”

يرافق ملف الغاز السوري الغموض الرسمي بالنسبة لاحتياطيات الغاز البحرية والشركات المتعاقد معها ونتائج عملها، مع الاكتفاء بتصريحات متواترة عن اكتشافات نفطية ترويجية.

المحلل الاقتصادي والسياسي في شؤون الشرق الأوسط، الأكاديمي محمد الفتيح، قال لعنب بلدي، إنه لطالما تداخل ملف الطاقة في سوريا مع العديد من الملفات، منها الاقتصادي والسياسي الداخلي والدولي، وفي السنوات الأخيرة برز ملف احتياطيات الغاز البحرية المحتملة كملف “غامض” استُخدم بالدرجة الأولى لـ”الترويج” لإمكانية تحقيق مكاسب اقتصادية مستقبلية تسمح بإعادة إعمار سوريا.

وجرى أول اتفاق مع روسيا للاستكشاف والتنقيب في كانون الأول 2013، وعُقدت لاحقًا اتفاقات أخرى مُنحت لروسيا، وبعد الإعلان عن الاتفاقات والاحتفاء بها، لم يعلن رسميًا عن أي مباشرة بعمليات الاستكشاف أو التنقيب أو أي تقديرات رسمية من الجانبين حول الاحتياطيات المتوقعة أو الجدول الزمني المحتمل لبدء الاستكشاف والتنقيب والانتقال للإنتاج المجدي اقتصاديًا.

وقارن الفتيح الخطوات السورية مع الجانب الإسرائيلي الذي أعلن منح حقوق الاستكشاف في حقل “تامار” عام 1999، وبدأ المسح الزلزالي في 2000، وصدرت أول شحنة تجارية منه في 2013، وعام 2018، وُقعت أول عقود طويلة الأمد لتصدير الإنتاج.

ووصف الفتيح الغموض السوري الذي رافق تسع سنوات منذ أن وُقعت أول عقود الاستكشاف والتنقيب مع روسيا بـ”الغموض البنّاء”، الذي يسمح باستمرار “تعليق الآمال” على تحقيق انفراج اقتصادي في المستقبل والتحول إلى دولة ذات موارد “طاقوية”.

في حين يرى المحلل الاقتصادي أن المؤشرات الملموسة للاستكشاف في منطقة شرق المتوسط، من كل من مصر وقبرص وإسرائيل، تشير إلى أن الاكتشافات الممكنة أقل بكثير من التوقعات السابقة، وأن جدواها الاقتصادية منخفضة، ففي حالة مصر لا يكفي الإنتاج حاليًا سوى لتغطية جزء من الاستهلاك المحلي، بينما قررت إسرائيل أواخر عام 2021 تعليق الاستكشاف في العام الحالي.

ما دور روسيا؟

لم تكن سوريا الوحيدة صاحبة الاستثمارات الروسية في مجال الطاقة المعلّقة، بسبب حساباتها “المعقدة” في ملف الغاز والطاقة، بحسب قول المحلل في شؤون الشرق الأوسط محمد الفتيح.

ووقعت روسيا، سواء على المستوى الحكومي أو الخاص، اتفاقات مع مصر وقبرص وإيران في مجال تطوير قطاعات النفط والغاز في تلك البلدان، دون أن يحصل أي تقدم “جوهري”، وهو ما وصفه الفتيح بـ”الاستراتيجية الروسية بالعمل على تجميد تطوير أي مصادر طاقة منافسة لروسيا”، وخصوصًا في الشرق الأوسط.

وفي حالة مصر، بدأ رجل الأعمال الروسي ميخائيل فريدمان، المقرب من “الكرملين”، الاستثمار في قطاع الغاز المصري منذ 2013، وفي 2016، اشترى حصة تعادل تقريبًا ربع حقول الغاز البحرية المصرية حينها، ولكنه لم يضخ أي استثمارات مالية لتطوير تلك الحقول سواء من حيث الاستكشاف أو زيادة القدرات الإنتاجية.

وفي كانون الأول 2021، أعلنت إحدى شركات فريدمان إيقاف العمل في عدد من حقول النفط المصرية، دون عرض حقوقها في تلك الحقول للبيع، وتدفع الحسابات الجيوسياسية المتضررين من الاستراتيجية الروسية، مثل سوريا ومصر وإيران، للحفاظ على العلاقات معها، على الرغم من تضرر قطاعات الطاقة فيها، وفق الفتيح، الذي يستبعد حصول أي تطورات ملموسة في عملية الاستكشاف والتنقيب عن الغاز في سوريا.

وردًا على “شمّاعة” العقوبات الأمريكية التي يبرر بها النظام عدم قدرة الشركات على مسح الحقول البحرية، ينفي الفتيح هذا التبرير مستندًا إلى أن العقود مُنحت لروسيا منذ 2013، أي قبل سنوات من صدور قانون “قيصر” الذي عاقب قطاع الطاقة السوري، وحاليًا باتت الشركات الروسية معاقَبة أمريكيًا وأوروبيًا، وبالتالي تنفيذ العقود الموقعة مع سوريا لن يضيف “ضررًا جديدًا” لها.

ردًا على الفتور الرئاسي

يعد ملف الحدود السورية- اللبنانية من الملفات العالقة منذ عقود بين البلدين، سواء في مراحل العلاقات المتميزة أو المتوترة، إذ لا يزال الموقف الرسمي السوري بأن مزارع شبعا التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 لبنانية، ولكن من دون إبلاغ الأمم المتحدة رسميًا بذلك.

وفيما يخص الحدود البحرية، يرى الأكاديمي محمد الفتيح أن ترسيم الحدود سيعيد فتح ملف الثروات المحتملة للغاز أمام الساحل السوري، وسيسلّط الضوء بشكل لا يمكن تجاهله على حقيقة “المراوحة في المكان” بعمليات الاستكشاف في الجانب السوري.

وفيما يخص تطورات الأشهر الأخيرة ورفض دمشق استقبال الوفد اللبناني، أرجع الفتيح السبب إلى “الفتور الواضح” مع الرئيس اللبناني السابق الذي لم يزر سوريا خلال ولايته، كما أن اتصالاته المباشرة مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بقيت غير معلَنة رسميًا حتى نيسان 2021، وكانت حول ملف الحدود البحرية واللاجئين، وهما الملفان الوحيدان المعلَنان للمحادثات على المستوى الرئاسي.

وفي آب 2018، نقلت صحيفة “الأخبار” اللبنانية أن اتصالًا هاتفيًا سريًا قد أجري بالفعل بين الرئيسين، وفي تشرين الثاني 2019، أجاب ميشال عون عن سؤال حول ما إذا كان يتحادث هاتفيًا مع نظيره السوري بالقول، “هذا أمر شخصي”.

ولا يستبعد المحلل السياسي أن تكون قراءة دمشق لتحركات ميشال عون في الأشهر الأخيرة بملف ترسيم الحدود محاولة لـ”الترويج” لمكاسب اقتصادية محتملة، وبالتالي فإن التعاون مع هذه المساعي من وجهة نظر النظام يعني تقديم خدمة لعون، على الرغم من أنه رفض لسنوات حتى الاعتراف بأنه يتواصل هاتفيًا مع الأسد، بالإضافة إلى أن ملف الثروات البحرية هو “ملف حساس”.

وتتفق صحيفة “المركزية” اللبنانية مع المحلل، في تقريرها الصادر في تشرين الأول الماضي، إذ فسرت رفض النظام استقبال الوفد بتوجيه ثلاث رسائل، إحداها إلى السلطة اللبنانية بأن ملفًا على مستوى الترسيم لا يرأسه “نائب برلماني” وإنما يحتاج إلى “مفاوض رئاسي”، فزيارة على هذا المستوى تنتزع إقرارًا لبنانيًا رسميًا بعودة العلاقات السياسية إلى سابق عهدها.

والثانية أن النظام “لن يبيع” ورقة ترسيم حدود لبنان الذي يحظى باهتمام عربي في ظل أزماته، إن لم “يقبض الثمن سلفًا” من الدول العربية المعارضة له، وآخر الرسائل إلى واشنطن التي توسطت بين لبنان وإسرائيل، في محاولة “لانتزاع” تواصل معه يعيد النظام إلى الساحة الدولية.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة