“الدقيقة بدولار”.. السوريون يواجهون مصاعب العلاج النفسي في تركيا

camera iconشخص يعاني من مشكلات نفسية خلال جلسة لتلقي علاج (تعبيرية/تعديل عنل بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – لجين مراد

“رغم حرص أمي الكبيرة وخوفها الزائد علينا، لم أنجُ من التعرض لأذى رافقني أثره منذ طفولتي”، بصوت مرتجف ومتردد بدأت نور (25 عامًا) حديثها لعنب بلدي، عن أسباب حاجتها إلى مراجعة طبيب نفسي.

بعمر العشر سنوات، تعرضت نور للتحرش من قبل صاحب محل تجاري في شارع يبعد عن منزلها في حلب بضعة كيلومترات، ما ولّد أفكارًا ومشاعر سلبية لم تنجح بالتخلص منها وحدها.

وتفاقمت مشكلة نور، جراء عيشها عديدًا من لحظات الخوف والقلق خلال وجودها في سوريا، قبل أن تختبر مزيدًا من الخوف والتوتر في حياتها الجديدة كلاجئة في تركيا.

“بدأت أشعر بخدر في النصف الأيسر من جسدي ووجهي، رافقته رجفة بيدي لم يُعرف لها سبب عضوي، لأدرك أنه لا مهرب من العلاج النفسي”، تابعت نور.

وبعد أن فرض الصراع على معظم السوريين ظروفًا قاسية، وحوّل حياتهم إلى دوامة من الخوف، لم يستطع عديد من اللاجئين السوريين في تركيا تجاوز ذلك بسبب غياب الاستقرار عن معظمهم.

وفي حين توقعت منظمة الصحة العالمية أن يصاب واحد من بين كل عشرة سوريين بأمراض نفسية إثر استمرار الصراع، يواجه السوريون المقيمون في تركيا صعوبات بالوصول إلى خدمات الصحة النفسية، ويعود ذلك لأسباب مرتبطة بارتفاع أجور الاختصاصيين والأطباء النفسيين، مقارنة بالظروف المعيشية للاجئين، بحسب ما رصدته عنب بلدي.

واتفق كل من الطبيب النفسي جلال نوفل والاختصاصية النفسية آلاء الدالي المقيمين في تركيا، خلال حديثهما إلى عنب بلدي، على أن ارتفاع تكلفة جلسات العلاج النفسي من أبرز أسباب إحجام اللاجئين السوريين في تركيا عن تلقي العلاج.

وفقًا لاستطلاع رأي أجرته عنب بلدي عبر “إنستجرام”، 82% من المصوّتين أرجعوا عدم مراجعتهم لطبيب أو اختصاصي نفسي في تركيا في حال احتاجوا لذلك إلى غلاء أجور خدمات الصحة النفسية، بينما أرجع 18% من المصوّتين ذلك إلى مخاوفهم من نظرة المجتمع السلبية.

“تكلفة تفوق طاقتنا”

بعد بحث طويل عن طبيب جيد، أوصى عديد من الأشخاص نور بمراجعة طبيب معروف في اسطنبول، لاستشارته بحالتها الصحية التي بدأت تزداد سوءًا مع مرور الوقت.

“الدقيقة بدولار”، قالت نور، متعجبة من تكلفة جلسة العلاج مع الطبيب الموصى به، وهو ما دفعها لصرف النظر بشكل مؤقت عن فكرة العلاج.

عنب بلدي تواصلت مع الطبيب، والمركز الذي يعمل فيه، لكنها لم تلقَ ردًا حتى لحظة إعداد هذا التقرير.

تعيش الشابة وعائلتها برفقة أخيها وزوجته، بعد أن صار المعيل الوحيد للعائلة كاملة، جراء تقدّم أبيها في السن، وعجزه عن تأمين عمل في بلاد اللجوء.

“التكلفة فوق طاقتنا”، تشتكي نور من ارتفاع تكلفة جلسات العلاج لدى معظم مراكز العلاج النفسي التي تواصلت معها، إذ بلغت أقل تكلفة 400 ليرة تركية للجلسة الواحدة، بينما تحتاج نور إلى عشر جلسات بالحد الأدنى.

“هذا قدري، وعليّ تقبله”، وصلت نور إلى حالة من اليأس والحاجة إلى التعايش مع حالتها، قبل أن تحدث “معجزة” تنقذها من ذلك.

تابعت نور، “علمت المنظمة السورية التي أعمل تطوعًا فيها بحالتي من خلال إحدى صديقاتي، ما دفعها للتكفل بتكلفة معظم جلسات العلاج”، بينما قدّم مركز العلاج النفسي ما تبقى من الجلسات مجانًا.

مبادرات لتخفيف العبء

توجهت بعض المنظمات السورية والدولية ومراكز الصحة النفسية لتقديم جلسات علاج مجانية، في حال احتاج المريض إلى ذلك.

لجأت نور قبل أن تتكفل المنظمة بعلاجها إلى تلقي جلسات علاج نفسي عبر منظمات تقدم هذه الخدمات بشكل مجاني، لكنها “لم تكن مجدية”، بحسب قولها.

وانتقدت الفتاة قلة اهتمام بعض المنظمات التي تعاملت معها بالمرضى، في حال كانت خدمات العلاج مجانية.

“تلقيت جلسات بشكل مجاني، لكنها كانت فعالة ومجدية، وأسهمت بتحسن حالتي بشكل كبير”، تابعت نور في إشارة إلى أن قلة اهتمام المنظمات والمراكز بالمرضى الذين يتلقون خدمات مجانية “غير قابلة للتعميم”.

وفر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا (UNDP)، في آب 2022، خدمة لتوفير الدعم النفسي- الاجتماعي للسكان باسم “فضفضة“.

كما تقدم منصة “نفسجي” السورية للصحة النفسية خدمات مجانية بشكل دوري.

الضوابط غائبة

تتطلب ممارسة العلاج النفسي في تركيا معادلة شهادة، وإجراءات عديدة لم يستطع عديد من المتخصصين والأطباء السوريين إجراءها.

وفرض ذلك على عديد منهم العمل ضمن منظمات، أو الاكتفاء بإجراء جلسات “أونلاين”، في ظل غياب جهة محدد تضبط ذلك العمل.

وأرجع الطبيب النفسي جلال نوفل وجود عشوائية بأجور الأطباء والاختصاصيين النفسيين، وعدم ملاءمتها لواقع اللاجئين السوريين، إلى غياب الضوابط.

تتراوح أجور الأطباء والاختصاصيين النفسيين في تركيا بين 400 و1000 ليرة تركية للجلسة الواحدة، بحسب ما رصدته عنب بلدي.

مخاوف من العشوائية

يخشى الطبيب جلال نوفل نشاط عديد من الأشخاص الذين يدّعون أنهم قادرون على تقديم العلاج دون أن يملكوا الشهادات أو الخبرات اللازمة.

وقال نوفل، إن عديدًا من الأشخاص البارزين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا يملكون المرجعية الكافية لتقديم خدمات الرعاية الصحية، ما يمكن أن يسهم بتدهور حالة المريض.

وترى الاختصاصية آلاء الدالي أن العشوائية بتقديم العلاج والنصائح الطبية من أشخاص غير مؤهلين، يمكن أن تتسبب بعواقب وخيمة تفاقم حالة المريض.

ودفعت المخاوف من العشوائية “الجمعية السورية للصحة النفسية” (سمح) لطلب شهادات الأطباء والاختصاصيين السوريين لتكون الجمعية مرجعية للمرضى، لكن عددًا محدودًا منهم وافق على ذلك، بحسب ما قاله الطبيب جلال نوفل.

ويرى الطبيب أن طلب المريض الاطلاع على شهادة المعالج، يعدّ مشروعًا وشكلًا من أشكال حماية المريض لنفسه.

“الكلمة عدّة الطبيب”

توفر المستشفيات التركية الحكومية العلاج النفسي لحاملي بطاقة “الحماية المؤقتة” (الكملك) بشكل مجاني، لكن اللغة تقف عائقًا أمام كثير منهم.

“يمكنني أن أراجع طبيبًا تركيًا حول أي مرض عضوي، لكن فكرة شرح حالة نفسية بتفاصيلها بلغة ليست لغتي الأم تبدو معقدة”، قالت نور مبررة سبب عدم مراجعتها لطبيب في المستشفيات الحكومية.

ورغم أن المستشفيات تتيح اصطحاب مترجم، أو توفر مترجمين ضمن كادرها، اعتبرت نور أن وجود طرف ثالث خلال جلسات العلاج يُفقد المريض شعوره بالثقة والخصوصية، خصوصًا حين تكون حالة المريض مرتبطة بموضوع حساس كـ”التحرش مثلًا”، وفق قولها.

الطبيب النفسي جلال نوفل قال إن الكلمة عدّة المعالج النفسي، ما يجعل اللغة المشتركة بين الطبيب والمريض جزءًا أساسيًا من رحلة العلاج المتكاملة.

“لا يستطيع الطبيب النفسي الاعتماد على الطبقي المحوري، أو التحاليل، ما يجعل كلمات المريض أساس عمله”، تابع الطبيب.

ويرى الطبيب نوفل أن وجود مترجم خلال جلسات العلاج ليس خيارًا جيدًا بمعظم الحالات، خوفًا على خصوصية معلومات المريض.

كما أن وجود مترجم غير متخصص يمكن أن يخلق فجوة بين المريض وطبيبه، بحسب ما قاله نوفل.

ويسهم وجود اختصاصي متمكن متابع للحالة أيًا كانت جنسيته ولغته في تحسن المريض، بحسب ما قالته الاختصاصية النفسية آلاء الدالي لعنب بلدي، مضيفة أن فهم عوامل وأسباب المرض وتقديم العلاج المتكامل، يتطلب وجود طبيب أو اختصاصي على دراية بالبيئة والخلفية الاجتماعية والنفسية والثقافية للمريض، بحسب ما قالته الدالي.

فعالية العلاج “أونلاين”

يتوجه عديد من اللاجئين السوريين في تركيا إلى تلقي خدمات العلاج النفسي “أونلاين” باعتبارها أقل تكلفة في بعض الحالات، أو متوفرة بشكل مجاني من قبل منظمات سورية ودولية.

ويتطلب التشخيص الأول، خصوصًا في الحالات الشديدة مثل الاضطرابات لدى الأطفال، أن تكون الجلسة فيزيائية، بحسب ما قالته الاختصاصية آلاء الدالي، لافتة إلى أن جلسات “الأونلاين” يمكن أن تكون لمتابعة بعض الحالات لاحقًا.

كما يرى الطبيب النفسي جلال نوفل أن أساس جلسات العلاج النفسي فيزيائية، ما يجعل جلسات “الأونلاين” تتطلّب خبرة وجهدًا أكبر من قبل المتخصص أو الطبيب.

وبحسب إحصائية صادرة عن منظمة الصحة العالمية في عام 2022، أصيب 48% من الأشخاص الذين شهدوا الصراع في سوريا بالاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة بالإضافة إلى اضطرابات عقلية.

ويقدّر عدد السوريين الذين لجؤوا إلى تركيا منذ بدء الصراع في سوريا بنحو أربعة ملايين شخص، بينما يبلغ عدد السوريين المسجلين ضمن “الحماية المؤقتة” في العام الحالي، ثلاثة ملايين و528 ألفًا و835 لاجئًا سوريًا، وفق إحصائية صادرة عن دائرة الهجرة التركية.

ويرجع سبب انخفاض أعداد السوريين في تركيا إلى غياب الاستقرار وخطة “العودة الطوعية”، بالإضافة إلى فرض تضييق وتعقيدات على اللاجئين السوريين، حمّلتهم عبئًا إضافيًا، ودفعت كثيرين منهم للبحث عن أرض لجوء بديلة.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة