الأخلاق الحديثة والمشكلات النفسية- الاجتماعية

tag icon ع ع ع

صفوان قسام

لا يحمل العنوان فيما يعنيه أي تمييز سلبي تجاه من يعانون أي مشكلة نفسية صحية، فالاضطرابات النفسية مثلها مثل المرض العضوي، لا حرج فيها ولا لوم ولا مذمة، لكن القصد هنا هو تلك العلاقة بين إفرازات ثقافات مجتمع ما بعد بعد الحداثة الأخلاقية، وتكوينه للمشكلات النفسية والاجتماعية، وانعكاس هذه المشكلات لاحقًا على الأخلاق نفسها، وكيف أن تلك العلاقة الجدلية بين الأخلاق الحديثة والمشكلات باتت تغذي بعضها بعضًا.

بداية هل هناك أخلاق قديمة وحديثة؟ بالتأكيد، فالتطور الفكري والوعي الإنساني في الحقوق والحدود الشخصية والاجتماعية غيّر كثيرًا من مفاهيم الأخلاق. منذ وقت قريب فقط، كان هناك عبيد وسادة، واليوم الاستعباد عمل لا أخلاقي، بل هو مُجَرّم قانونًا، ويتبع لفلسفة الوقت الحالي ووعي البشرية بالحقوق.

وفي ذات الوقت، فإن العلاقات بين أرباب العمل والعمال كانت مشوبة بشيء من الاستحواذ على العامل ومصادرة كل ما يخصه، بل وحياته نفسها أحيانًا، واليوم تغيرت مفاهيم العمل، وصار للعامل حقوق يمكن له المطالبة بها ومعاقبة رب العمل إن أخطأ بحقه، وكله تابع لتطور الفكر والوعي والتجربة السياسة والاقتصادية والاجتماعية.

الأخلاق لا تعني التدخل في الشؤون الشخصية للأفراد، ولكنها تنظم حرياتهم وعلاقاتهم الفردية والاجتماعية وفق منطق الحقوق والواجبات، وتمنع إلحاق الضرر بالآخرين، خصوصًا على أساس الجنس والدين والطائفة والعرق وغيرها. وقد يأتي الصدق على رأسها، والاحترام بعده، وهما مفهومان يمكن تعميمهما على كل مناحي الحياة ودوائرها، ابتداء من احترام الشخص وصدقه مع نفسه، ومع الآخرين، وفي العمل…

والاحترام يحمل في مضمونه الصدق عمومًا، ويصفه عباس العقاد في كتاب “مطالعات في الكتب والحياة” بأنه من أشرف العلوم، ومن عرف الاحترام عرف الإنسان، ومن جهله جهل بكل شيء، وقال: “لا يعلمه إلا القليل، ولا يعمل به إلا الأقل من ذلك القليل”.

وإن ذهبنا إلى أخلاق العمل فإننا نجد إحصائية خطيرة تشير إلى أن 50% من المديرين لا يحترمون موظفيهم، و40% من الموظفين يستقيلون بسبب مديريهم لا وظيفتهم، والسبب الرئيس هو غياب الاحترام والصدق والشفافية، والأسلوب الاستعلائي في العمل. والطامة الكبرى أن بعض المديرين يظنون أن ممارستهم الأخلاقية هذه كالقسوة والضغط والتقليل من الاحترام، هي صفات المدير الناجح، وهم بذلك يزيدون من إنتاجية العامل، ولكن مع الأسف، على حساب إنسانيته، فيخلطون بين الحزم والقسوة، وبين خوف موظفيهم منهم وبين احترامهم لهم.

يترافق التغير الاجتماعي عمومًا بارتفاع التوتر والقلق والضغط النفسي على الأفراد، ولأنه يصبح عامًا في المجتمع، يمكن اعتباره ظاهرة، والقلق يُدخل صاحبه في دوامة مفرغة، حيث يمكن أن يغذي نفسه وتتصاعد حدته أيضًا، إنه طاقة تخرج بشكل غير منظم وعشوائي، وربما آذت صاحبها إن لم يتعامل معها بطريقة صحيحة تنظم خروجها بشكل جيد.

وهو على اعتباره ظاهرة اجتماعية يُحدث نفس الشيء، فضغط الحياة يصيب أفراد المجتمعات بكثير من الاضطرابات النفسية، التي تغذي نفسها من عوامل وجودها، فإن لم تُحل فإنها تخلق لنفسها بيئة حاضنة تهيئ لها مناخًا للتكاثر، فتخرج علينا جماعات ومجموعات مبدعة نماذج ثقافية أو متبنية لأفكار وافدة أو محلية، وربما مازجة بين الاثنين لتحدث نمطًا يتقبله كل من يعانون هذه الاضطرابات، لأنه يحاكيهم، وبعدها يصبح نمطًا اجتماعيًا ثقافيًا سائدًا.

كلنا سمعنا بموسيقا “الميتال” التي هي نتاج عقود من الضغط والتوتر والفقر والقلق الذي طال فئة ساخطة على مجتمعها، فخرجت بنمط من الأغاني والموسيقا يتناسب مع غضبها وقلقها، وسمعنا بموسيقا “الراب” و”الدي جي” وغيرها… وفي مجتمعنا يمكن ملاحظة كثير من هذه الوافدات الثقافية والفكرية التي وجدت حاضنة شعبية ونفسية لها، نتيجة الضغوطات الاجتماعية التي نعيشها، وبعض أشكالها هو الجماعات المتطرفة والعنصرية سواء أكانت مسلحة أم فكرية.

الضابط الأساسي لهذه الإفرازات هو الأخلاق، فهي ليست “بريستيجًا” اجتماعيًا أو فرديًا، ولا يبالغ كل المنظّرين الاجتماعيين عندما يتحدثون عن أهميتها في حمل بناء المجتمع والحفاظ على ثباته واستقراره في كل جزء منه، ولهذا قيل: بالعلم ترتقي الأمم وبالأخلاق تسود، وقيل: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. إنها في صميم أي بناء اجتماعي يُكتب له البقاء والاستمرار والنجاح.

الأخلاق ليست من منبع واحد كالدين، فهي تتبع للوعي والمنطق والمحاكمة العقلية والاحتياجات الاجتماعية والبيئة والعوامل النفسية أيضًا، وهي نسبية بشكل اجتماعي، وتختلف من منظور فردي واجتماعي لآخر، فشارون بطل قومي في أعين مواطنيه، وهو مجرم بأعيننا، والنمر الذي يقتل الغزال ويأكله يقوم بفعل عنيف وإجرامي، ولكنه في عين الطبيعة يمارس فطرته وغريزته. واليوم، يعتقد “النباتيون” أن البشر ممن يأكلون المنتجات الحيوانية واللحوم، مخطئون أو ربما يقومون بفعل عنيف ضد الحيوانات، وهم بامتناعهم عن تناول منتجاتها أو لحومها يقومون بفعل مناصرة ودعم لها في وجه استغلالها ضمن ظروف لا إنسانية، لكن الحقيقة العلمية والطبيعية تقول، إن المنتجات الحيوانية واللحوم ضرورية جدًا للإنسان، بينما يكون من الصواب لدى “النباتيين” وجماعات حقوق الحيوان أن ينادوا بتحسين شروط التعامل والاستثمار في هذه الكائنات، حيث أسقطنا منظورنا الأخلاقي الإنساني على التعامل مع الحيوانات.

كذلك الأمر عندما نتحدث عن “اللا إنجابيين”، فباعتقادهم أن في الأرض عددًا كافيًا من البشر ولا مكان لأطفال جدد، ومن الأفضل أن يتبنوا أطفالًا من أماكن تعيسة ويحسّنوا من وضعهم المعيشي والحياتي والاجتماعي، وهي أيضًا اختلافات في وجهات النظر بين مجتمعات تحث على التكاثر، ومجتمعات تطالب بوقفه أو ضبطه.

التطور والتغير الاجتماعي يفرز مسائله ومعضلاته الأخلاقية، فيقف الإنسان أمامها مسترجعًا كل خبراته السابقة وتجاربه، ومصادر تشريعه لحلها، فهو أمام خيارين، المضي للأمام وتطوير المفاهيم الأخلاقية أو الرجوع والتراجع عن حركة المجتمعات الدائمة، فالثابت الوحيد في المجتمع هو تغيره، وعلينا التعامل معه، ومن هذا التغير تظهر الضغوطات الاجتماعية التي تولد أزمات ومشكلات نفسية واجتماعية فتعوّد نفسها لتترجم انفعالاتها وتنفّس عنها في أنماط ثقافية تأخذ أشكالًا قد تكون غير متناسبة مع النمط الثقافي والاجتماعي العام، ويكون العامل الضابط لهذه الإفرازات هو الأخلاق.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة