tag icon ع ع ع

تتنافس الإذاعات الجديدة على بقعة محددة من الأرض السورية، بسبب محدودية الوصول إلى الجمهور، المنقسم تحت سيطرة قوى مختلفة، وبالذات النظام السوري، فالجمهور الذي يعيش في مناطق سيطرته بالكاد تصله إشارات بث الإذاعات التي تصنف بأنها “معارضة”.

وتسعى الإذاعات السورية، التي تدار من تركيا وتبث في الشمال السوري، وتحديدًا في حلب وإدلب والحسكة، إلى إيصال رسائل إعلامية “جديدة” تخاطب الجمهور السوري في الشمال، في وقت يعيش فيه المواطنون ظروفًا معيشية صعبة، بسبب انهيار البنية التحتية بشكل شبه كامل وانعدام الكهرباء النظامية وشبكات الإنترنت وأبراج البث، ما صعّب فرص الحصول على أخبار ومعلومات من وسائل إعلام تتطلب وجود الطاقة، كالتلفزيون والراديو والمواقع الإلكترونية.

وقد ساهمت طبيعة الصراع السوري وتنوع القوى المسيطرة على الأرض واختلاف أيديولوجيتها ومنهجها الفكري في التأثير على سير هذه الإذاعات، وأثرت، إلى حد ما، في رسم ملامح برامجها، وأخضعتها لنظام “الممنوع والمسموح”، إذ حافظت بعض الإذاعات على بث البرامج الدينية للتأثير على الجمهور الذي تسيطر عليه جماعات ذات ميول إسلامية، في حين امتنعت إذاعات أخرى عن بث موسيقى وأغان غربية أو أغان لمغنيين ومطربين معروفين بولائهم للنظام السوري، ما يهدّد بفرض أنماطٍ محددة من الذوق على السوريين، وتغيير في ميولهم وفي خطط الإذاعات، على حد سواء.

تعاني الإذاعات أيضًا من صعوبات جمّة، أبرزها تباين التكاليف بين الداخل والخارج، أي بين تركيا وسوريا، إذ تدفع الإذاعات التي تبث من الداخل أو تدير كوادرها في الداخل تكاليف أقلّ من تلك التي تتخذ من المدن التركية، وخاصة غازي عنتاب، مقرًا لها، بسبب تباين تكلفة المعيشة بين البلدين. ويعد معيار الأجور الذي تتلقاه كوادر الإذاعات مثالًا واضحًا على هذا التباين، ففي الوقت الذي يبلغ فيه معدل أجور موظفي الإذاعات في تركيا بين 700 – 1000 دولار شهريًا، تتراوح أجور الموظفين داخل سوريا بين 250 و 350 دولارًا، وقد يصل إلى 500 دولار في الحد الأعلى، بحسب سيروان بركو، مدير إذاعة “آرتا إف إم”، والذي يدير فريقًا يبلغ عدد أفراده 65 عاملًا. إلى جانب ذلك هناك تكلفة مرتفعة إضافية لضمان استمرارية البث على موجات FM وشبكة الإنترنت وحماية الأبراج والطواقم العاملة على الأرض.

لكن ورغم ذلك، يلاحظ المتتبع لتجربة الإذاعات السورية أن توجهها الأساسي كان للبث عبر موجات FM رغم ارتفاع تكاليف تشغيله، وقد فضلت بعض الإذاعات الاعتماد على البث عبر الإنترنت لتجنب التكاليف، لكن صعوبة وصول السوريين في مناطق المعارضة للإنترنت حد من وصول هذه الإذاعات. وفي دراسة نشرتها الوكالة الفرنسية للتعاون الإعلامي (CFI) في حزيران 2015، يعتبر الباحث المتخصص في الإعلام السوري، إنريكو دي أنجليس، أن اختيار تأسيس إذاعة يعود لكون أن إدارتها أسهل من التلفزيون أو الصحيفة، ولكون أغلب من أسسها غير صحفيين أو متمرسين، لكن زاد من صعوبة المهمة أمام المؤسسات الإذاعية “الوليدة”، الحاجة إلى خبرات فنية وتقنية، ومهارات محددة لا تتطلبها وسائل الإعلام المطبوعة، فكان العبء على المؤسسين مضاعفًا.

ورغم النجاحات التي تحققت على أكثر من صعيد، إلا أن هذا القطاع مايزال يعاني، كحال بقية وسائل الإعلام الجديد، من نقص الكوادر وهجرتها إلى أوروبا، وضعف التمويل ومحدوديته، والتهديد المباشر الذي تتعرض له الأصول والمعدات والمواقع في الداخل السوري، بما فيها من أجهزة البث والإرسال، سواء بسبب القصف أو السرقة.

 

“المازوت” يحدّد ساعات البث

يُجمع من التقتهم عنب بلدي من مديري الإذاعات السورية على أن العائق الأبرز في عمل الإذاعات وقدرتها على الوصول إلى الجمهور هو تكاليف البث العالية، والمرتبطة بشكل مباشر بالطاقة، وهنا نتحدث عن المازوت، الوقود الرئيسي للمولدات “الضخمة” التي تشغل أبراج وأجهزة البث. ويرى عدنان حداد، مدير راديو “حارة إف إم” أن “كلفة البث هي المعضلة الأساسية، لا سيما أنها متباينة بين منطقة وأخرى داخل سوريا، فيبلغ سعر الليتر على سبيل المثال في الحسكة 35 ليرة، بينما يصل في حلب إلى 350 ليرة، ما يعني فارقًا يقدّر بعشرة أضعاف”.

تضاف إلى ذلك قيمة المولدات وكلف صيانتها الدورية، بالإضافة إلى كلف حمايتها وتأمينها، ويقدر رامي جراح، من إذاعة “صوت دمشق”، الكلفة التشغيلية لبرج البث لمدة 24 ساعة متواصلة، بـ 30 ألف دولار أمريكي، موضحًا أن تشغيل البرج يحتاج لثلاث مولدات كبيرة، تتناوب في العمل على مدار ساعات البث. ويعتقد جراح أن هذه الكلفة “الضخمة” دفعت مجموعة من الإذاعات السورية للتعاون فيما بينها والاشتراك في نفس الأبراج من أجل التشارك في كلف تشغيلها، وهو ما يبدو أنه لم ينجح تمامًا، لما تفرضه هذه الحالة من تقسيم لساعات البث وتباين أوقاتها بما لا يتناسب مع سياسات كل إذاعة على حدة.

فيما يقدر حداد التكاليف الشهرية الوسطية لتشغيل إذاعة بحوالي 20 ألف دولار، وتتوزع بين الرواتب والأمور الفنية واللوجستية الأخرى. ويشير إلى أن القسم الأكبر من تكاليف الإذاعات يذهب باتجاه الأجور والتي تشكل نحو 80% من النفقات.

الإذاعات السورية تلجأ إلى الإنتاج المرئي

يضيف حداد إلى جملة المصاعب والعوائق التي تواجهها الإذاعات السورية مشكلة الوضع القانوني، وغياب تصاريح العمل الرسمية في بلدان الجوار، وهو ما يحد من حماسة المؤسسات الدولية للتعاون معها، وهذا حال العديد من وسائل الإعلام السورية الأخرى، كمركز حلب الإعلامي، والذي منعه عدم الاعتراف القانوني به كجسم إعلامي من التعاقد مع وكالات دولية ومؤسسات عالمية، وبقي التعاون معها على مستوى شخصي، وعلى نطاق الأفراد.

هاجس آخر، لا يكاد يغيب عن تصريحات مديري المؤسسات الإعلامية السورية، هو الاستدامة ومشكلة الدخل الذاتي، ويظهر هذا التحدي بقوة أكبر لدى الإذاعات، التي تفوق تكاليف تشغيلها تكاليف الصحف والمواقع الإلكترونية بعشرات المرات. ويبدو أن معظم الإذاعات، التي زرناها في جولتنا في مدينة غازي عنتاب التركية، تتجه نحو الإنتاج المرئي، لتحقيق دخل قد يعوض جزءًا من تكاليف تشغيلها، وهو ما ظهر في الاستديوهات المعدة داخل هذه الإذاعات، والمخصصة للتصوير التلفزيوني والأفلام الوثائقية، وأكده كل من عدنان حداد (راديو حارة إف إم)، ورامي الجراح (إذاعة صوت دمشق)، وريم حلبي (راديو نسائم سوريا). يقول حداد إن 20% من تمويل إذاعته يأتي من بيع المسلسلات ومقاطع الفيديو، وهذا “يمكن أن يبنى عليه في المستقبل”.

وفي هذا السياق، تمكنت إذاعة “صوت دمشق” وخلال وقت قصير، من إيجاد موارد ذاتية تجعل وضعها “جيدًا”، وهو ما يدفعها لتبني هذا النهج من أجل ضمان الاستمرارية، كما يقول رامي الجراح، فقد تمكنت إذاعته من توفير 25% من ميزانيتها عبر بيع تحقيقات لصحف عربية وعالمية، معتبرًا أن هذه النسبة كفيلة بأن تجعل الإذاعة تستمر فيما لو توقف الدعم “بالحدّ الأدنى”.

ورغم المخاطر التي تهدد دعم الإعلام السوري ككل، والإذاعات بشكل خاص، يعتقد عدنان حداد أن الاعتماد على برامج الدعم سيستمر خلال الحرب، إذ لا بديل لهذه المؤسسات عنها، فالاقتصاد السوري غير مستقر، ولا توجد سوق حقيقية للإعلانات والاشتراكات، والمبيعات الإعلامية المحلية.

بالعموم، يرى حداد أن تجربة الراديو في سوريا خلال هذه الفترة استثمار غير خاسر، لأنالراديو لا يموت بالتقادم، إذ تثبت الدراسات أن الراديو مستمر، على عكس التلفزيون، وأصبح الإنترنت المصدر الأساسي للمعلومات، وفق ما يقول، وهنا تأتي فكرة البث عبر الإنترنت، لكن هذه التجربة لها محاذير، أبرزهاعدم الوصول إلى الجمهور الحقيقي كون جمهور الإنترنت في كل مكان، وهنا يبرز تحد آخر أمام الإذاعات السورية، هو كيفية الوصول إلى الشريحة الأوسع من الجمهور السوري.

أين يتدخل الداعم في عمل الإذاعات السورية؟

تقول مؤسسات الإعلام “الجديد” إن تغطية الحرب السورية ومعايشة واقع الإنسان السوري خلال الثورة هو أساس عملها وبوصلة تحركها، ويؤكد معظم من التقتهم عنب بلدي أن أجندة هذه المؤسسات سوريّة خالصة، ردًا على من يتهمها بأنها أذرع المنظمات الداعمة وأنها أحجار شطرنج في أيدي الداعمين، كونها تعيش على أموالهم.

وينفي عدنان حداد التدخل في سياسة إذاعته، قائلًا “نحن لدينا أجندة سوريّة، والداعم لا يتدخل بالأمور التحريرية على الإطلاق”، مشيرًا إلى أن هناك منظمات وشركات تدعم الإعلام السوري وهي ليست خبيرة بالإعلام، وهي لا تصرف الأموال على مقاييس تطوير الإعلام بل على معايير التنمية الدولية، ويؤكد أن لا بديل أمام هذا الإعلام سوى استثمار الدعم الدولي لتطوير نفسه، والاتهامات لوسائل الإعلام  “لن تنتهي”.

ويقول رامي الجراح، “سياستنا في الإذاعة ضد إملاءات أي أحد، ضيوف الإذاعة يهاجمون أمريكا وفرنسا وأوروبا، وهذه نقطة مهمة بالنسبة لنا، نحن نؤكد أن الداعم لا يتحكم بنا”.

تعد منظمة CREATIVE الأمريكية أهم ممول للإذاعات السورية الجديدة، غير أن العقود التي تبرمها مع هذه الإذاعات لا تتجاوز مدتها ثلاثة أو أربعة أشهر، ما يمنع هذه الإذاعات من وضع تصور لعملها المستقبلي وتنظيم شؤونها على المدى الطويل، ويؤدي غياب الشفافية في التمويل إلى المنافسة بين الإذاعات، ما يصعب عمليات اللحمة والتضامن بينها.

(تقرير الإذاعات السورية الجديدة، حزيران 2015)

 

تابع قراءة ملف: الإعلام “البديل” في “الغربال”.. تحسّس رؤوس مع انطفاء بريق الداعمين

الصحافة الورقية الجديدة.. طفرة ما بعد الثورة

هل مؤسسات الإعلام الجديد “غير وطنية”؟

دور الإعلام السوري الجديد “ملتبس”

“إعلام جديد” مقابل تنظيم “داعش” والنظام

الإعلام السوري الجديد في “غربال” المنظمات الداعمة

منظمات دولية دعمت الإعلام السوري الجديد

تأثير في مناطق المعارضة.. وغياب عن “مناطق النظام”

درعا.. تجارب إعلامية محلية تشوبها “المناطقية” وتنقصها الخبرات

“حلب اليوم” تلفزيون “ثوري”.. ينقد الثورة

الإذاعات السورية.. صراع من أجل البقاء ومسيرة يعرقلها “مزاج الداعم”

مرحلة “تحسس” رؤوس.. هل يستمر الإعلام الجديد؟

تجربة شبكة أبراج.. الأولوية “ليست للعمل الجماعي

تجارب إعلامية تتأسس في الحسكة بعد ارتخاء قبضة النظام

“شام”.. أقدم شبكة إعلامية في الثورة بدون تمويل

استمرارية الإعلام السوري الجديد على المحك

ناشطون: الإعلام الجديد.. يشبه كل السوريين “الأحرار”

تطور آليات التوظيف في المؤسسات الإعلامية الجديدة

الوضع القانوني شرط أساسي لاستدامة المؤسسات

 تجارب جديدة في التمويل الذاتي.. “التفكير خارج الصندوق”

شبكات ومجموعات عمل للنهوض بالمؤسسات الإعلامية إداريًا وتنظيميًا

إعلاميون: “الإعلام الجديد” سيقود القاطرة في سوريا

لقراءة الملف كاملًا في صفحة واحدة: الإعلام “البديل” في “الغربال”.. تحسّس رؤوس مع انطفاء بريق الداعمين

مقالات متعلقة