حدائق إدلب العامة.. استثمار على حساب السكان والمساحة الخضراء

أكشاك ومحال تجارية في "الحديقة المثلثة" في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

camera iconأكشاك ومحال تجارية في "الحديقة المثلثة" في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

كانت ميساء تنتظر بفارغ الصبر، دفء الصيف لتهرب برفقة طفلتيها من عتمة القبو وظلمته الذي تسكنه، لتستنشق الهواء النقي في الحديقة المجاورة قرب جامع “بلال” في حي الضبيط بمدينة إدلب، لكن الحال تغيّر هذا العام، بعد غياب المساحات الخضراء في الحديقة واستثمارها في مشاريع تجارية.

وقالت ميساء جوابرة (33 عامًا)، وهي مهجرة تقيم في مدينة إدلب، رغم حالة الحديقة الرديئة، وعدم تزويدها بألعاب جديدة ووجود بقايا سلاسل حديدية مقطوعة، كانت متنفسًا للأطفال، لكنهم فقدوها مع وجود الأكشاك الجديدة.

حال الحديقة العامة المعروفة في الحي باسم “الحديقة المثلثة” يشابه عدة حدائق في مدينة إدلب، خسرت بعض مساحاتها الخضراء على حساب مشاريع استثمارية من مطاعم ومحال تجارية وصالات ألعاب وأكشاك “براكيّات”.

قضية استثمار وإشغال الحدائق العامة ليست جديدة، وبرزت منذ سيطرة فصائل المعارضة على إدلب في 2015، باختلاف المسميات، وازدادت تدريجيًا منذ سيطرة “هيئة تحرير الشام”، ومظلتها السياسية “حكومة الإنقاذ”، عسكريًا وخدميًا وإداريًا على المنطقة، حتى صارت ظاهرة عامة.

استياء وشكوى

استطلعت عنب بلدي آراء بعض الأهالي في إدلب، الذين أعربوا عن استيائهم من قتل المساحات الخضراء في المدينة، واستثمار الحدائق واستغلالها لتحقيق أرباح مادية، دون النظر بعين “الإنسانية “واحترام حقوق الأطفال والأهالي والأملاك العامة.

أضافت ميساء، في حديثها لعنب بلدي، أنها حين هُجرت إلى مدينة إدلب عام 2017، كانت الحدائق في حالة مزرية ولم تتحسن أحوالها، وزاد عليها وجود المستثمرين، فبعضهم تعهّد بإعادة تأهيل الحديقة، وبعضهم بات أمرًا واقعًا منذ سنوات دون أي تغيير في معالم الحديقة.

من الحدائق التي أُعيد تأهيلها حديقة المشتل أكبر الحدائق في إدلب، ويعتبر الدخول إليها مجانيًا، لكنها تتضمن مراكز ألعاب مرغوبة للأطفال مكلفة ماليًا ومرهقة للأهالي، الأمر الذي يدفع بعض السكان لتجنب دخولها واختيار غيرها، لتفادي تكلفة الألعاب.

بدوره قال سعيد عثمان (32 عامًا) مواطن يقيم في مدينة إدلب وأب لطفلتين، إن إعادة التأهيل من قبل المستثمرين كانت غير مدروسة “ودون رغبة”، إذ لم يتم إعادة تأهيل ألعاب الأطفال بصورة حسنة.

وأضاف لعنب بلدي أن الألعاب غير مطلية بالدهان وتنبعث الحرارة منها في الصيف، خاصة المصنوعة من الحديد، ولا تتبع أساليب وقاية وأمان، وتحمل المخاطر على الأطفال.

فسحة وذكرى

الأربعيني محمود الخطيب مواطن يقيم في مدينة إدلب، قال لعنب بلدي إن الحدائق متنفس أهالي المدن الوحيد، وفيها يمارس الأطفال نشاطهم، لافتًا إلى وجوب تأهيلها والعناية بها من قبل السلطات لا استغلالها.

وأضاف الخطيب أن الفترة الماضية شهدت المدينة تناقص المساحات الخضراء بسبب عرض الحدائق على المستثمرين، وسط ازدحام سكاني خانق تشهده إدلب التي تضم عائلات من مختلف مناطق سوريا.

من جانبه، قال عبد الرحيم الحمد (46 عامًا) مهجر يقيم في مدينة إدلب، إن بعض الحدائق في مدينة إدلب كبيرة ويمكن عرض قسم صغير منها للاستثمار بغية إعادة تأهيلها وترميمها، لكن في المقابل توجد مساحات صغيرة تمثل متنفسًا لأهالي الأحياء القريبين منها، واستغلالها يؤدي إلى زوال الحديقة بكاملها.

وأعرب الشاب ماهر صابر عن أسفه لحالة الحدائق التي تحولت لمحال ومراكز استثمارية، معتبرًا أنها نسفت ذكريات أشخاص وعائلات كانت الحديقة رمزًا لهم وتحمل بين أشجارها قصصًا ولحظات عائلية.

وأوضح الشاب أن ركنًا أخضر في الحديقة اعتاد فيه على اللقاء مع أصدقائه وتبادل الحديث والقصص، غابت معالمه وبات اليوم ثلاثة جدران يعتليها لوح حديدي (كشك)، يقدّم صاحبه القهوة والمشروبات الساخنة لزبائنه.

أكشاك ومحال تجارية في "الحديقة المثلثة" في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

أكشاك ومحال تجارية في “الحديقة المثلثة” في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

مزاد بالدولار

محمود شقيفي، مستثمر حديقة ومطعم “السيتي روز” في الطرف الشمالي الغربي من مدينة إدلب، قال لعنب بلدي إن الحديقة لم تكن تحظى بأي اهتمام، وكانت عبارة عن قطعة “تراب جرداء تشبه الصحراء”، ومرعى للحيوانات المختلفة ومكبًا للنفايات.

وذكر شقيفي أنه تقدم بطلب لحكومة “الإنقاذ” من أجل استثمار الحديقة لتحقيق ربح مادي مقبول وتحسين مظهر الحي، وتخديم جامعة “إدلب” القريبة، وقوبل طلبه بالرفض لـ”أسباب إدارية”، تنص على عدم تقديم الحديقة لمستثمر بشكل مباشر، على حد قوله.

بعد الرفض، عرضت الحديقة للاستثمار على شكل مزايدة علنية، ويرتبط التقديم بمخططات هندسية وتكاليف ترميم الحديقة وتكاليف الاستثمار المطلوب، وتقدم للمزايدة ثلاثة أشخاص لينجح استثمار محمود شقيفي في قبول “الاستحسان” والموافقة.

وأضاف محمود أن عقد الاستثمار نص على استغلال نسبة 19% من مساحة الحديقة، وتخديم 81% للعامة لمدة سبع سنوات، لافتًا إلى أنه أجرى ترميمات لتحسين الحديقة، وأعاد تأهيل 60 مقعدًا ونافورة مياه وزراعة بعض الأشجار والنباتات والأعشاب، وإنارة داخل وخارج الحديقة.

وعن قيمة المبالغ التي صرفت لاستثمار الحديقة، قال شقيفي إنه دفع 295 ألف دولار أمريكي مبلغًا كليًا وهي تكاليف الترميم والتشييد والاستثمار من مطاعم وألعاب وأكشاك، ويدفع مبلغ 2400 دولار أمريكي إيجار سنوي عن كل عام، ويتعهد بالخروج من الحديقة، دون استرداد أي مبلغ حين انتهاء العقد.

مطعم في حديقة "السيتي روز" في الطرف الشمالي الغربي من مدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

مطعم في حديقة “السيتي روز” في الطرف الشمالي الغربي من مدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

حدائق وجهة المستثمرين

وتضم إدلب عددًا من الحدائق العامة، أكبرها حديقة المشتل، إضافة إلى حدائق الزير والجلاء والسراملة وألمازا، وتشكل متنفسًا للسكان.

وعملت حكومة “الإنقاذ”  على استثمار هذه الحدائق مع مؤسسات عاملة في المنطقة بتداخل مسؤوليات “غير مفهوم”، عبر طرحها أمام المستثمرين الذين رغم تأهيل بعض البنى التحتية فيها، إلا أنهم يغلبون الجانب المادي والربحي على أي جانب آخر.

اعتبر شقيفي أن التعديلات التي أجراها، نالت استحسان الأهالي في المدينة، خصوصًا الجوار بسبب تحسن مظهر الحديقة بشكل كبير وزيادة جماليتها، لافتًا إلى ارتفاع أسعار المنازل والعقارات في الأحياء المطلة على الحديقة بسبب استثماره.

وعن أسباب اختيار هذه الحديقة، قال المستثمر إن موقعها القريب من جامعة “إدلب” والملعب “البلدي”، وتوسطها عدة أحياء من المدينة يساعد على إقبال الأهالي على الحديقة بسهولة ما يساعده في تحقيق أرباح مادية.

المهندس المدني، محمود قطيني، قال لعنب بلدي، إن عرض الحدائق على الاستثمار بهدف ترميمها أمر غير محبب دائمًا، ويقع على عاتق وزارة البيئة والبلدية ترميم الحدائق والعناية بها لتكون متنفسًا للفقراء الذين لا يجدون إلا قوت يومهم.

ولفت المهندس إلى أنه قد يترتب على استغلال الحدائق تكليف الأهالي مبالغ مادية خلال زيارتهم لها، لو كانت بشكل غير مباشرة.

مطعم في حديقة "السيتي روز" في الطرف الشمالي الغربي من مدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

مطعم في حديقة “السيتي روز” في الطرف الشمالي الغربي من مدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

“نفقات تشغيلية”

تواصلت عنب بلدي مع حكومة “الإنقاذ”، التي أوضحت أنها سلّمت قطاع الحدائق العامة والاستثمار فيه إلى شركة “E-Clean” (البيئة النظيفة) العاملة في المنطقة، على تنظيف الطرق وجمع النفايات وإعادة تدويرها.

مدير العلاقات العامة في شركة “البيئة النظيفة”، محمد سالم، قال لعنب بلدي إن الهدف الرئيس من إشغال الحدائق العامة هو تحقيق استدامة العمل فيها لتبقى متنفسًا للقاطنين في المدينة وزوارها.

وذكر سالم أن الهدف الأساسي ليس الاستثمار أو الربح أو العائد المادي، إنما تحقيق واردات لتأمين النفقات التشغيلية لإدارة الحدائق واستدامتها، لافتًا إلى وجود العديد من الحدائق والمسطحات الخضراء في إدلب وباقي المدن، يتم العناية بها دون إشغال من أي جهة.

وأوضح أن المعايير المتبعة في إشغال الحديقة، هي أن يساهم شاغل الحديقة في تجهيزها وتأهيلها مقابل مدة محددة، يمكن أن يستفيد من الجزء المشغول مع الحفاظ على مجانية الدخول، واستدامة المساحات الخضراء الغالبة على الحديقة.

وأضاف سالم أن الشركة تسعى لتقديم أعلى مستوى من الخدمة إلى الأهالي والأعمال، والتي تتم بشكل دوري من رعاية وحماية الأشجار والمسطحات الخضراء والعناية بنظافة الحدائق، مع صيانة المرافق كالألعاب وإطلاق فعاليات اجتماعية وغيرها من الأعمال الأساسية مشيرًا إلى أن كل ما سبق يتم بدون مقابل مالي.

أكشاك ومحال تجارية في "الحديقة المثلثة" في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

أكشاك ومحال تجارية في “الحديقة المثلثة” في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

“الإنقاذ” و”البيئة النظيفة”

في مطلع آب 2022، بدأت شركة “E-Clean” عملها في تنظيف الطرق وجمع النفايات وإعادة تدويرها، وفق اتفاق مع وزارة الإدارة المحلية التابعة لحكومة “الإنقاذ”، بحسب حديث سابق لمحمد سالم، الذي نفى وجود تمويل من قبل المجالس المحلية النشطة في المنطقة.

وذكر سالم حينها، أن هناك حملة كبيرة لإعادة تأهيل الكثير من الآليات المعطّلة والتي هي خارج الخدمة، وخصوصًا في مجالات النظافة والحدائق.

وشُكّلت حكومة “الإنقاذ” بدفع من “تحرير الشام” في 2 من تشرين الثاني 2017، من 11 حقيبة وزارية برئاسة محمد الشيخ حينها، واستقرت على عشر وزارات خلال السنوات الماضية، لتعود إلى 11 وزارة مع إحداث وزارة الإعلام مؤخرًا.

وتسيطر “الإنقاذ” على مفاصل الحياة في محافظة إدلب وريف حماة الشمالي الخاضع لسيطرة المعارضة، وجزء من ريف حلب الغربي، خدميًا وإداريًا، في حين تسيطر “تحرير الشام” على المنطقة بشكل غير مباشر اقتصاديًا وخدميًا، وترافق ذلك مع اتهامات بوقوف “الهيئة” خلف عديد من المشاريع التي وُصفت بـ”الاحتكارية”.

كما تصدّر القائد العام لـ”تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، واجهة بعض المشاريع والفعاليات والقضايا الخدمية بوجود رئيس حكومة “الإنقاذ” ووزراء فيها.

اقرأ أيضًا: إدلب.. الاستثمار تحت عباءة “الإنقاذ”

أكشاك ومحال تجارية في "الحديقة المثلثة" في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)

أكشاك ومحال تجارية في “الحديقة المثلثة” في حي الضبيط بمدينة إدلب- 5 من أيار 2023 (عنب بلدي)




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة