tag icon ع ع ع

خالد الجرعتلي | حسام المحمود | يامن المغربي

لطالما شكّل الوجود الإيراني في سوريا عامل قلق على مستوى إقليمي، بالنسبة للدول العربية من جهة، وبالنسبة لإسرائيل أيضًا من جهة أخرى، وإذا كان عقد القطيعة العربية (جزئيًا) مع الأسد، أبعد مسألة الوجود الإيراني عن طاولة المباحثات، فهذا لا يعكس تسليمًا بنفوذ طهران في دمشق، خلافًا للرؤية التي طرحها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في آذار 2023 (قبل العودة إلى الجامعة العربية).

إيران التي قدمت يد العون للنظام السوري مع فقدانه مساحات جغرافية واسعة من سوريا لمصلحة فصائل معارضة، لم ترسل جيشًا نظاميًا، بل اعتمدت على ميليشيات استوردتها وأدارتها، وكونت جزءًا منها لاحقًا على مدى سنوات، وصارت اليوم سببًا رئيسًا لقلق الجيران العرب، ومبررًا لاستهدافات إسرائيل للأراضي السورية.

ومنذ بداية التصعيد بغزة في 7 من تشرين الأول 2023، لم تتوقف إسرائيل عن استهداف قادة إيرانيين في سوريا، وهو ما اعترفت به إيران في بعض الأحيان، وتجاهلته لاحقًا، معتبرة أن وجود من تصفهم بـ”مستشارين عسكريين” في سوريا، جاء بطلب من حكومة النظام السوري، بهدف “محاربة الإرهاب”.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف مدى تأثير الضربات الإسرائيلية واستهداف قادة “الحرس الثوري” في سوريا على الوجود الإيراني في سوريا، وأسباب تعنّت إيران بالحفاظ على مكتسباتها في سوريا.

كيف تنتشر إيران في سوريا

تتعدد آليات الوجود الإيراني في سوريا، سواء عبر ضباط تطلق عليهم إيران اسم “مستشارين”، وهم المسؤولون عن تسيير مصالح إيران في البلاد، وآليات تدريب الميليشيات الوكيلة لإيران في المنطقة، أو عن طريق ميليشيات مشكّلة من عناصر ينحدرون من جنسيات وبلدان مختلفة، ويجمعها الولاء الديني.

وتتوزع هذه الميليشيات على الجغرافيا السورية التي يسيطر عليها النظام السوري بشكل أساسي، وتسيطر هذه الميليشيات على مناطق نفوذ خاصة بها في الشرق السوري، وبالتحديد في مدينتي البوكمال والميادين شرقي دير الزور، إضافة إلى مناطق أخرى في عدة محافظات، بينها ريف دمشق ودرعا والقنيطرة وحلب وحمص وحماة.

وتتحرك هذه الميليشيات وفق الظروف العسكرية والأمنية المخطط لها مسبقًا، لكن الضربات الأمريكية والإسرائيلية الأحدث باتت تفرض تحركات مختلفة عما اعتادته هذه الميليشيات، لتجنب أكبر قدر ممكن من الخسائر.

ويمتد وجود الميليشيات الإيرانية، وكذلك قادة في “الحرس الثوري الإيراني”، من الحدود السورية- العراقية في أقصى الشرق، بالقرب من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وصولًا إلى الجنوب السوري على الحدود مع الجولان المحتل.

عناصر ميليشيات إيرانية في سوريا (AFP)

عناصر ميليشيات إيرانية في سوريا (AFP)

تغير التوزع الجغرافي تفرضه الظروف

تزايدت الضربات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا، منذ اندلاع العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، في 7 من تشرين الأول 2023، وما تبعها من تصعيد عسكري من إيران وحلفائها في المنطقة.

ومنذ مطلع 2024، شنت إسرائيل ست ضربات عسكرية في عدة مناطق يسيطر عليها النظام السوري، واستهدفت من خلالها شخصيات عسكرية إيرانية تتبع لـ”الحرس الثوري الإيراني”، إحدى أبرز أذرع إيران العسكرية.

هذه الضربات التي جاءت إلى جانب ضربات أمريكية مشابهة في سوريا والعراق، كرد على هجمات جماعات مرتبطة بإيران ضد قواعد واشنطن، وفق ما تقول الأخيرة، تفرض إعادة انتشار وتغييرًا للتوزيع الجغرافي لهذه القوات، حتى لو لم تعلن طهران عن الأمر بشكل رسمي.

الباحث بالشأن الإيراني مصطفى النعيمي، قال لعنب بلدي، إن هناك إعادة انتشار وتموضع في عدة مواقع جغرافية تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية، وتحديدًا في المنطقتين الجنوبية والشرقية، منذ بداية تصعيد إسرائيل ضرباتها ضد هذه القواعد.

ويعتبر الجنوب والشرق السوري الأكثر تعرضًا للضربات الإسرائيلية والأمريكية ضد الميليشيات الإيرانية، وهو ما يرجح أنه فرض تغييرات على توزع الميليشيات فيها.

ووفق النعيمي، فإن تغيير التوزيع يتم عبر استراتيجية تستعين بالمدنيين، كعملية تمويه وسهولة التنقل والتحرك دون رصدها من قبل القوات الإسرائيلية والأمريكية، رغم استخدام الأخيرة طائرات من الجيل الخامس، التي تقاطع معلوماتها مع غرف عمليات مشتركة مع إسرائيل، لتحديد تحركات قيادات الميليشيات.

ولهذا السبب نجحت إسرائيل وأمريكا باستهداف شخصيات بعينها خلال الفترة الماضية، وفق النعيمي.

وفي 1 من شباط الحالي، نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر لم تسمِّها، أن “الحرس الثوري الإيراني” سحب ضباطه من سوريا بعد الضربات الإسرائيلية المتكررة.

وبحسب خمسة مصادر مطلعة، فإن “الحرس الثوري” قلّص انتشار كبار ضباطه في سوريا بسبب موجة الضربات الإسرائيلية، وسيعتمد أكثر على فصائل شيعية متحالفة معه للحفاظ على نفوذه في سوريا.

وذكرت المصادر أنه بالوقت الذي يطالب فيه المتشددون في طهران بالانتقام، فإن قرار طهران سحب كبار ضباطها يرجع جزئيًا إلى نفورها من الانجرار مباشرة إلى صراع محتدم في الشرق الأوسط.

ولفتت إلى أن “الحرس الثوري” يجند مقاتلين شيعة من أفغانستان وباكستان للانتشار في سوريا، في تكرار لمرحلة سابقة حين لعبت فصائل مماثلة دورًا بتحويل دفة المعارك في سوريا، إلى جانب اعتماد كبير على الفصائل الشيعية السورية، وفق المصادر.

ورغم أن طهران نفت ما نقلته “رويترز” لاحقًا، فإن هذا النفي لا يعني عدم وجود إعادة توزيع للقوات والميليشيات، ولا يعني كذلك أنها لم تسحب “مستشارين” لها بالفعل.

وتسعى طهران لإعادة الانتشار وتغيير المهام الموكلة على مستوى القيادات العليا، المسؤولة عن العمليات العسكرية واللوجستية في سوريا.

من جانبه، يرى الباحث بالشأن الإيراني محمود البازي أن إيران سحبت بالفعل بعض القيادات المهمة خوفًا من عمليات الاغتيال، لكن دون أن تكون هناك تغييرات على الأرض، بل سعت لزيادتها في دير الزور، التي تعتبر بدورها منطقة حيوية لإيران.

وأضاف البازي في حديثه لعنب بلدي، أن طهران تحاول الاعتماد على الفئات المحلية بشكل أكبر من السابق.

وتشير الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لعناصر إيرانيين في سوريا إلى رسائل عسكرية وجهها الغرب لإيران، وعرقلة استخدام الأخيرة لخطوط الإمداد الجوية لتوصيل الأسلحة لحلفائها، بالإضافة إلى رسائل أمنية واستخباراتية، بأن عناصر إيران تحت المجهر، وفق دراسة أعدها “المركز الدولي للدراسات الإيرانية، ونشرت في كانون الأول 2023.

ما حجم القوات الإيرانية في سوريا؟

منذ دخول إيران عسكريًا في الميدان السوري عام 2013، لم تظهر إحصائيات دقيقة لأعداد أفراد الميليشيات المدعومة من إيران، كما تنفي الأخيرة وجود أي قوات نظامية تابعة لها على الأراضي السورية، وتكتفي بالإشارة إلى وجود “مستشارين عسكريين” فقط.

وفق الباحث الإيراني محمد البازي، فإن أحد أبرز أسباب غياب الإحصاءات الدقيقة، يرتبط بتنوع القوات نفسها، سواء المحلية، كـ”لواء الباقر” المكوّن من عناصر محليين، أو مجموعتي “فاطميون” و”زينبيون” اللتين تضمان مقاتلين أجانب يعملون بإشراف من “حزب الله” اللبناني، ولواء “أبو الفضل العباس” وقوات “الدفاع الوطني”.

وتختلف أعداد هذه الميليشيات وفق القدرة على التمويل وإعادة التموضع في مناطق النزاع.

وأشار البازي إلى أن الأمر الأكثر وضوحًا، هو أن الوجود الإيراني يشمل قادة ومجموعات إيرانية قليلة موزعة على مساحات واسعة لتنظيم الانتشار ومراقبته وتوسيعه، وتقدّر الإحصاءات عدد هذه القوات ما بين 45 ألفًا و150 ألف مقاتل.

من جانبه، يرى مصطفى النعيمي أن التقديرات تشير إلى وجود 60 ألف مقاتل موزعين على امتداد الجغرافيا السورية، بمن فيهم قوات تابعة لـ”هيئة الحشد الشعبي” العراقية، ومكونات أخرى مرتبطة بها، كغرفة عمليات “المقاومة الإسلامية” التي استهدفت القواعد العسكرية الأمريكية مؤخرًا.

ووفق دراسة أعدها مركز “جسور للدراسات” في 2020، تتوزع القوات الإيرانية على 125 موقعًا في سوريا، معظمها في مدينتي درعا ودير الزور.

الضربات الأمريكية لنفوذ إيران العسكري في سوريا

هل تؤثر الاستهدافات على الانتشار

الاستهدافات المتكررة لمواقع وشخصيات إيرانية، والتي تفرض بدورها إعادة التموضع والانتشار وربما تغيير شكل المهمات، تؤثر على الوجود الإيراني في سوريا من جهة، وشكل هذا التموضع من جهة أخرى، في حال ثبوته.

شكل التموضع قد لا يشمل فقط النقاط الجغرافية التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية، بل كذلك أغراض وجودها.

وفق النعيمي، فإن الميليشيات انتقلت من مرحلة السيطرة على الأرض إلى مرحلة “السيطرة على نقاط استراتيجية، وبالتالي ستبقى عرضة للاستهدافات، وتوسيع نطاق الاشتباك”.

ومن الوارد أن تسعى إيران خلال الفترة المقبلة لزيادة الضغط على القوات الأمريكية والإسرائيلية، عبر استهدافات أكبر لتثبيت أي مكاسب عسكرية حققتها خلال الفترة الماضية، حتى لو أدى ذلك إلى تلقيها ضربات عسكرية تستهدف قواتها على الأرض.

ويرى البازي أن إيران تحاول الاستفادة حتى من هذه الضربات، عبر الضغط على الحكومة العراقية لإخراج القوات الأمريكية، وإعادة النقاشات حول شرعية وجود “الحوثيين” في البحر الأحمر، خاصة أنها تتعامل مع إسرائيل على مبدأ الجولات والنقاط لا الضربة القاضية، ولهذا السبب ترغب بإنهاء الصراع في المنطقة، لا أن يتمدد.

مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”  نشر، في 16 من شباط الحالي، تقدير موقف، أحصى من خلاله الضربات الإسرائيلية التي طالت أهدافًا في سوريا منذ بداية “طوفان الأقصى” في 7 من تشرين الأول 2023، إذ بلغت بحسب المركز أكثر من مئة هجوم توزعت على الشكل التالي:

  • 48 هجومًا بين تشرين الأول وكانون الأول 2023.
  • 53 هجومًا منذ مطلع 2024 وحتى شباط الحالي.

وتوزعت الاستهدافات بين جوية وبرية، إذ أشارت الدراسة إلى أن 33 منها نفذت عبر غارات جوية، و20 عبر أسلحة المدفعية والصواريخ، وطالت جميعها مواقع عسكرية تنتشر فيها ميليشيات موالية لإيران، و”حزب الله” اللبناني.

وأسفرت الهجمات عن 104 قتلى، و32 جريحًا، بينهم ثمانية قادة إيرانيين، بحسب “حرمون”.

وخلص باحثون في تقرير موسع أعدته عنب بلدي سابقًا، إلى أن الاستراتيجية الإيرانية في حد ذاتها هي شكل من أشكال “سياسة حافة الهاوية” التي يمكن أن تؤدي إلى صراعات عرضية وغير مخطط لها، ما يجعلها لعبة عالية المخاطر لجميع المشاركين فيها.

الاستراتيجية الإيرانية المتبعة تترافق مع نفي رسمي لأي مسؤولية عن استهداف مصالح أو قواعد عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وسبق لسفير طهران ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إرافاني، أن قال، إن بلاده لم تشارك قط في أي عمل أو هجوم ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق.

وجاءت تصريحات إرافاني ردًا على رسالة كتبتها الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن، تتهم فيها إيران بالعمل ضد قواتها في سوريا والعراق، بحسب ما نقلته وكالة “مهر” الإيرانية حينها.

إرافاني وجه رسالة للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، جاء فيها أن الولايات المتحدة تحاول “إضفاء الشرعية على أعمالها العسكرية غير القانونية في سوريا”، وأن الادعاءات بأن إيران تشارك بهجمات على قواعد أمريكية في سوريا والعراق لا أساس لها من الصحة، وتهدف لـ”تبرير انتهاك الولايات المتحدة المستمر للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة في سوريا”.

وسبق أن نفى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن تكون طهران مسؤولة عن هذه الهجمات.

“مستشار” إيراني يستهدف أمريكا قتلته إسرائيل

الانتشار الإيراني في سوريا حظي باهتمام استثنائي من قبل إسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتحدة في المنطقة، على مدار السنوات الماضية، إذ كررت تل أبيب الهجمات بشكل متواتر على مصالح إيرانية في سوريا، أحدثها كان استهدافات قتلت “مستشارين” في “الحرس الثوري الإيراني” بالعاصمة السورية دمشق.

ارتباط الاستهدافات الإسرائيلية لـ”المستشارين الإيرانيين” ظهر في 20 من كانون الثاني الماضي، عندما قتلت إسرائيل خمسة أفراد من “الحرس الثوري الإيراني” في سوريا، بحسب ما أعلنت عنه إيران.

واتضح لاحقًا أن أحد القتلى يلقب بـ”الحاج صادق” الذي ورد اسمه في تقرير نشرته صحيفةواشنطن بوست الأمريكية، في حزيران 2023، على أنه كان مكلفًا بزيادة الهجمات ضد القواعد الأمريكية في سوريا.

وذكرت إحدى الوثائق التي تحدثت عنها الصحيفة، أن “الحاج صادق” حدد على وجه الخصوص عربات أمريكية من نوع “هامفي” و”كوغار” كأهداف معينة، مشيرة إلى أنه أرسل أفرادًا للاستطلاع، والتقاط بعض الصور للطرق التي تستخدمها القوات الأمريكية في سوريا.

وأشار تقرير “واشنطن بوست” إلى أن استراتيجية إيران التي كان يديرها “الحاج صادق”، تقوم على بناء وتدريب قوات على استخدام قنابل خارقة للدروع، تزرع على الطرق خصيصًا لاستهداف المركبات العسكرية الأمريكية وقتل الأفراد الأمريكيين.

استهداف إسرائيلي لمبنى في حي المزة بمدينة دمشق – 20 من كانون الثاني 2024 (أثر برس)

استهداف إسرائيلي لمبنى في حي المزة بمدينة دمشق – 20 من كانون الثاني 2024 (أثر برس)

هل تحدث الضربات فرقًا

مع الغموض الذي لطالما لف الضربات الإسرائيلية في سوريا، وعدم تبني معظمها من قبل أي جهة، تبدو إسرائيل قلقة من الوجود الإيراني، وعبرت عن ذلك في فترات سابقة، إذ قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في حفل تخريج طيارين جدد بسلاح الجو الإسرائيلي في كانون الأول 2018، “لن نتسامح مع الترسيخ الإيراني في سوريا”.

لا يبدو أن النفوذ الإيراني في سوريا قد تأثر بفعل تكرار الهجمات الإسرائيلية، لكن الهجمات التي ينفذها وكلاء إيران على القواعد الأمريكية توقفت، إذ كان أحدثها في 12 من شباط الحالي، واقتصر التصعيد على البحر الأحمر مع ميليشيا “الحوثي” التي تدعمها إيران في اليمن.

الباحثة المساعدة في مركز “عمران للدراسات” صبا عبد اللطيف، قالت لعنب بلدي، إن الوجود الإيراني في سوريا يعتمد بنسبة كبيرة على الميليشيات الأجنبية، لا على الانتشار العسكري لقوات نظامية.

ومن هذا المنطلق كانت إيران قادرة على استهداف القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق، خلال الفترة الماضية، ولم تكن الولايات المتحدة قادرة على الرد باستهداف مصالح إيران المباشرة.

عبد اللطيف ترى أن الوجود العسكري الإيراني لن يتأثر باعتباره يقتصر على وجود قادة عسكريين يتحركون بأوامر من “الحرس الثوري”، وقد تفرض الهجمات الإسرائيلية على الميليشيات والقادة في سوريا تغيير آلياتهم في التحرك والعمل، لكنها لم تسفر عن دفع إيران للانسحاب.

وترى الباحثة أن سوريا قد تكون ساحة مناسبة للمواجهة بين طهران وتل أبيب، لكن هذه الاحتمالات تبقى ضمن سيناريوهات انعكاسات حرب غزة على سوريا.

حضور إيراني ثابت.. تمسك بالبقاء

خلال مقابلة مع قناة “روسيا اليوم”، وصف الأسد العلاقة مع إيران بأنها “غنية عن التعريف، غنية بالمضمون، غنية بالتجارب، وغنية بالرؤية التي كونتها”، معتبرًا أن الساحة السورية لم تعد مكان صراع إيراني- سعودي، كما كانت عليه في بعض المراحل.

“الحديث عن علاقة سورية- إيرانية يجب أن تنقطع، هذا الحديث لم يعد مثارًا مع سوريا منذ سنوات طويلة، أعتقد أن هناك تفهمًا لطبيعة هذه العلاقة”، قال الأسد، مشيرًا إلى “وفاء” بين سوريا وإيران، عمره أربعة عقود، وفق تعبيره.

وفي 25 من حزيران 2023 (بعد نحو شهر من عودة النظام إلى الجامعة العربية)، جاءت “المبادرة الأردنية” المدفوعة عربيًا للحل السياسي في سوريا، وطالبت الأسد بوضوح في مرحلتها الثانية بإخراج القوات الإيرانية من سوريا، وتخفيض الحضور العسكري الإيراني فيها سلاحًا وجغرافيا، واستعادة ممتلكات استحوذت عليها إيران في سوريا، وانسحاب الميليشيات الشيعية و”حزب الله” اللبناني (حليف إيران).

الأسد من جهته لم يلقِ بالًا لهذا الطلب، كما لم يلتفت إلى أي من بنود “المبادرة”، وخلال استقباله الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في دمشق، مطلع أيار 2023، قال، “عندما شنت حرب ظالمة ضد إيران في عام 1980 لمدة ثماني سنوات، سوريا لم تتردد بالوقوف إلى جانب إيران رغم التهديدات والمغريات في ذلك الوقت”، مشيرًا إلى أن إيران قامت بالمثل حين شنت “الحرب” في سوريا، وزادت بتقديمها الدماء، وفق قوله.

وقد بدا التمسك الإيراني بالبقاء في سوريا، بعد الحديث عن سحب طهران لضباط من “الحرس الثوري الإيراني” من سوريا، تحت وطأة الضربات الإسرائيلية التي قضت على مجموعة من الضباط ممن تسميهم إيران “خبراء ومستشارين”، لكن الإيرانيين لن يتخلوا عن سوريا، رغم أنهم قلصوا وجودهم وتحركاتهم إلى أدنى حد، بحسب “رويترز”.

الوجود الإيراني في سوريا برز بوضوح مع بداية الثورة في 2011، وعزز حينها بقاء الأسد بعدما كان حكمه مهددًا بالزوال، ما فسره الخبير الاستراتيجي والباحث غير المقيم في معهد “ستيمسون” بواشنطن، الدكتور عامر السبايلة، لعنب بلدي، بأن إيران تعتبر هذه الجغرافيا حاسمة بالنسبة لها، فالوجود في العراق ولبنان وغزة ينقصه وجود في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان.

وهذه الجغرافيا جزء من فكرة الامتداد الاستراتيجي الذي تهدد به طهران مصالح إسرائيل أولًا، والولايات المتحدة ثانيًا، كما تعتبر إيران أن نظرية إيقاع إسرائيل في مثلث التهديد كانت تتطلب في النهاية تحويل الأردن إلى محطة وساحة على المدى الطويل، ما يجعل هذه الجغرافيا ضرورية للنظرية الإيرانية، وفق السبايلة.

وأشار الباحث إلى أهمية تأمين طريق طهران- بيروت من جهة، وتعزيز النفوذ في هذه المناطق، فالسيطرة على مناطق في سوريا والعراق تعني إمكانية التأثير على مناطق في الأردن، وهو ما يفسر اختيار “البرج 22” كهدف لإيران في الأردن، كونه يقع في المثلث الحدودي، وهذا يعني أن إيران ترغب في توسيع هذه الجغرافيا تحت نفوذها.

وبالحديث عن تصعيد اللهجة الأردني، عبر اتهام إيران بمحاولة اختراق الأردن وتنفيذ مشروع المخدرات، قال السبايلة، إن الأردن اعتبر منذ البداية أن تهريب المخدرات عبر الحدود ليس تجارة فقط، بل يهدف لإضعاف واختراق مجتمعي وأمني طويل الأمد، وبناء ولاءات ومناطق نفوذ عبر استغلال الأوضاع الاقتصادية والتمدد.

ويرى الأردن في وجود الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا تهديدًا للأمن القومي والمنطقة، وعائقًا أمام استقرار سوريا وعودة العلاقات السياسية مع النظام، وعامل عدم استقرار لكل المنطقة، وهو ما دفع باتجاه تضمينه في “المبادرة الأردنية”، وفق السبايلة.

لن يتوقف عند سوريا

الباحث في مركز “الحوار السوري” الدكتور أحمد قربي، يرى أن إيران لا تخفي نياتها وأهدافها من الوجود في سوريا، واستراتيجيتها منذ وصول الخميني إلى السلطة (1979)، تتبنى مبدأ تصدير الثورة، وهو مكرس في الدستور الإيراني، وبعد ابتلاعها العراق عقب الغزو الأمريكي، اتبعت هدنة إقليمية، قبل تنشيط مسألة تصدير الثورة بعد الربيع العربي.

وأوضح قربي أن طهران غذت الميليشيات في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وهو سبب للنزاع بينها وبين السعودية، فكل دولة منهما ترى في نفسها قائدًا أيديولوجيًا للمنطقة، وهدف إيران ربط سوريا بمشروع “الولي الفقيه” على المدى البعيد.

أما على المدى القريب، فإيران تسعى لشرعنة وجودها، ليس قانونيًا وسياسيًا فقط، بل اجتماعيًا أيضًا، فمشروعها إحلالي، ولهذا تركز على الاقتصاد والتعليم والجامعات وتعليم اللغة الفارسية، مع الحفاظ على إطار هذا الوجود في الوقت نفسه.

الباحث يرى أن الدول العربية وقبل تطبيعها مع النظام أو إعادته إلى الجامعة العربية لم ترفع سقف توقعاتها حول مسألة الوجود الإيراني، كونها تدرك أن النظام لا يملك هذا الأمر وغير قادر في ضوء المعطيات الحالية على الحد من النفوذ الإيراني.

وحول حدود أو مستوى طموحات إيران من حضورها في سوريا، بيّن الباحث أن كل الدول العربية تعرف أن هذا “المشروع السرطاني” لن يتوقف عند سوريا، لكن المشاريع من هذا النوع تأخذ فترات توقف مؤقت واستراحة، ريثما ترسخ نفوذها، وتحسن صورتها، قبل الانتقال للقمة التالية.

المؤشرات على ذلك بدأت، والأردن يدرك هذه الفكرة، ويشعر أكثر من أي دولة أخرى باستهداف مباشر من إيران، وإعداد “الحشد الشعبي” في العراق والميليشيات في دول الجوار غرضه استخدام هذه القوى كعصا للعبث بأمن المنطقة، وفق الدكتور أحمد قربي.

وفي تشرين الأول 2020، وخلال مقابلة مع وكالة “روسيا سيغودنيا“، نفى بشار الأسد وجود قوات إيرانية في سوريا، معتبرًا أن الحضور الإيراني يقتصر على الخبراء العسكريين لتقديم خدمات استشارية، وهي رواية دعمتها تصريحات إيرانية متعاقبة، لكن تقريرًا صدر في تشرين الثاني من العام نفسه، عن مركز “Atlantic Council” الأمريكي للدراسات الدولية، لفت إلى تجنيد إيران مقاتلين في حلب ودير الزور والرقة تحت مسمى “قوات دفاع محلية”، إلى جانب تجنيد سوريين من أتباع المذهب الشيعي، ليبلغ عدد الميليشيات الشيعية السورية ما يتراوح بين خمسة آلاف وثمانية آلاف مقاتل.

وتستخدم إيران آليات لتجنيد مقاتلين أجانب، منها “كشافة الحسينيات” لتجنيد متطوعين شيعة تحت شعار “حماية المقامات الشيعية”، ويجري تدريبهم من قبل “الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله” اللبناني، قبل نقلهم إلى سوريا.

التقرير أشار إلى توجيه إيران ميليشيات عراقية لدعم الأسد منذ 2012، وتجنيد ميليشيات أفغانية ظهرت في العام نفسه، تبعها تجنيد شيعة باكستانيين بدأ ظهورهم العلني في 2013.

وبالتوازي مع الحضور العسكري، عززت إيران هيمنتها على الاقتصاد السوري باتفاقيات مستمرة، أبرزها ما سبق وتخلل زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، في أيار 2023، إلى جانب الحضور السياسي في أكثر من مسار كـ”وصي” على النظام، ففرضت نفسها على مسار التطبيع بين تركيا والنظام، قبل إعلان روسيا انهيار المسار، وانتقاد أنقرة مشاركة الأسد بالمفاوضات بحضور أطراف أخرى، وعدم امتلاكه القرار، كما أنها إحدى “الدول الضامنة” في مسار “أستانة” (مع تركيا وروسيا).

بيئة إيران الاستراتيجية

في دراسة صدرت في كانون الأول 2020، حملت عنوان “مجموعات الوكلاء الإيرانيين في العراق وسوريا واليمن: تحليل مقارن بين الوكيل الرئيس”، نشرتها وكالة نظم المعلومات الدفاعية الأمريكية، وهي هيئة حكومية، طرحت إجابات لتساؤلات حول البيئة الاستراتيجية لإيران، وحرب الوكلاء التي أطلقتها ضد الولايات المتحدة منذ سنوات.

وذكرت الدراسة التي جاءت في 154 صفحة، في فصلها الأول أن جميع العمليات الهجومية الإيرانية ضد المصالح الأمريكية تقريبًا، تنفذها طهران بالتعاون مع وكيل مدعوم من قبلها، تساعده من خلال توفير المعدات والتدريب، تجنبًا للانخراط في صراع مع أعدائها.

وحول أهداف إيران قالت الدراسة، إن طهران تستخدم “نهجًا ثوريًا” في سياستها الخارجية التي تهدف لتحسين وضعها في الشرق الأوسط، والنظام الدولي على نطاق أوسع.

وأضافت أن أهداف سياسة طهران الخارجية المعلنة متعددة الجوانب، لكن يمكن ترتيبها في أربع فئات عريضة، هي تصدير الثورة الإيرانية، وبسط النفوذ الاقتصادي والسياسي على المنطقة، وحماية أتباع “النظام الشيعي”، وتعزيز قوتها التقليدية.

ويسعى نظام الحكم في إيران حاله حال جميع الحكومات إلى البقاء بأي ثمن، ويشمل ذلك الاستفادة من قوة الجماعات سواء كانت تتفق معها أيديولوجيًا أم لا، على سبيل المثال، بعد الحرب العراقية- الإيرانية، غض نظام صدام حسين العراقي الطرف عن نشاط جماعات سنية بمحافظة الأنبار العراقية بعمليات تهريب بضائع كانت تمنع العقوبات دخولها إلى البلاد.

بمجرد مغادرة القوات الأمريكية العراق عام 2011، استخدمت إيران المجموعات نفسها كوكلاء لاحتواء طرق الإمداد القبلية السنية، لتحقيق وصول غير مقيد إلى المواني على البحر الأبيض المتوسط مرورًا بالعراق وسوريا.

الواقع العسكري الإيراني في سوريا

مقالات متعلقة