خوف ومخاطرة وتسهيلات من "الفرقة الرابعة" والأمن اللبناني

سوريون يروون رحلة اللجوء من سوريا إلى قبرص عبر لبنان

سترات نجاة بعد غرق سفينة مهاجرين قبالة جزيرة ليسبوس اليونانية - 10 من كانون الثاني 2024 (AP)

camera iconسترات نجاة بعد غرق سفينة مهاجرين قبالة جزيرة ليسبوس اليونانية - 10 من كانون الثاني 2024 (AP)

tag icon ع ع ع

“الخوف بقلبي كان شبيه بالذي ينتظر الموت في كل لحظة”، يصف محمد الدامري مشاعر الخوف والرعب من البحر والموت غرقًا، والتي شكلت أكبر هواجس رحلته التي استمرت نحو عشرة أيام في البحر، وامتدت من شواطئ طرابلس اللبنانية إلى قبرص.

رفض محمد عدة مرات فكرة الهجرة بالبحر مع زوجته وطفلته البالغة من العمر أربعة أعوام، لمعرفته بخطورة الرحلة مع احتمالات الغرق، ولكن سوء الظروف المعيشية، والسعي لتحسين مستقبل الأسرة، أجبره على اتخاذ القرار بعد التواصل المستمر مع أصدقاء خاضوا تجربة الهجرة إلى أوروبا في الفترة السابقة.

يهاجر السوريون المقيمون في مناطق سيطرة النظام السوري إلى أوروبا عبر طرق عدة، ولكن اختيار معظمهم لبنان الوجهة الأولى لمغادرة الأراضي السورية بات ملفتًا في الفترة الاخيرة، ما أدى لظهور تصاريح رسمية من الحكومة القبرصية، تتحدث عن التأهب بعد تلقيها معلومات تفيد بوجود مئات من اللاجئين السوريين على السواحل اللبنانية، كما حصل في أواخر تشرين الأول 2023، إذ يتابع المهاجرون مسيرة رحلتهم من لبنان نحو قبرص اليونانية وصولًا لدول أوروبية أخرى.

تناقش عنب بلدي، عبر التواصل مع أشخاص خاضوا التجربة ومهرب سوري يشارك في هذه العمليات منذ عامين، الطرق التي يسلكها السوريون خلال الرحلة، والإجراءات المتبعة من قبل المهربين داخل سوريا ولبنان، والخطوات المتبعة لتجميع المهاجرين.

من سوريا إلى طرابلس

للهجرة من الأراضي السورية نحو لبنان، يوجد خياران، إما عن طريق الهرمل، أو طريق وادي خالد، وتختلف الأسعار تبعًا لاختلاف طريقة العبور والمدة الزمنية.

طريق وادي خالد، يستخدمه المهربون لتنظيم عمليات الهجرة، وتعتبر نهاية مدينة القصير بمحافظة حمص السورية نقطة الانطلاقة للطريقين، ومن القصير حتى منطقة وادي خالد في محافظة عكار اللبنانية، يستغرق الطريق نحو ثماني ساعات، خمس منها مشيًا على الأقدام، وثلاث في سيارات تنقلهم إلى وادي خالد، لتنظيم عملية التهريب والهجرة إلى قبرص، ويدفع الشخص الواحد في هذا الطريق 70 دولارًا أمريكيًا، وفق شهادات حصلت عليها عنب بلدي.

أما طريق الهرمل، يبعد عن مدينة القصير السورية نحو 25 كيلومترًا، وتكون تكلفة عبوره أغلى سعرًا وتصل لمبلغ 130 دولارًا أمريكيًا عن الشخص الواحد، لسهولة عبوره عبر سيارات التهريب.

محمد الدامري، ابن حي الشاغور بدمشق، قال لعنب بلدي، إنه اختار العبور من طريق وادي خالد رغم صعوبته، واستغرقت رحلة العبور نحو يوم كامل حتى الوصول إليه، ومن ثم الذهاب لبيروت والبقاء لدى أحد أصدقائه حتى موعد مغادرته.

ذكر محمد لعنب بلدي، أنه باع ورشة النجارة التي كان يملكها لتأمين تكلفة الهجرة، والتي بلغت نحو 6 آلاف دولار أمريكي عنه وعن زوجته دون حساب طفلته.

الحواجز الأمنية تسمح بالعبور

تجربة عائلة محمد ليست الوحيدة، إذ إن نور الشتار، وهي سيدة من مدينة الصنمين بريف درعا الشمالي، اختارت الهجرة إلى أوروبا مع ابنتيها عبر طريق الهرمل بعد البحث والاستفسار، بسبب المشقة التي سمعت عنها عن الطريق الآخر، ومخاطر إطلاق النار من الأمن اللبناني على المهاجرين، وفق ما تحدثت به نور لعنب بلدي.

اتفقت نور (55 عامًا)، مع مهرب يدعى “أبو علي” عبر تطبيق “الواتساب” على التكلفة ونقطة الانطلاق، التي حددها تحت جسر الزاهرة بالعاصمة السورية دمشق، مؤكدًا أنه سيغادر في حال تأخرت عن الموعد.

وعن شكل السيارة التي كانت تنتظرها، قالت نور لعنب بلدي، إنها عبارة عن فان مفيمة وزجاجها أسود، يجلس بداخلها شبان وشابات يصل عددهم إلى 16 شخصًا، محشورون في مساحة ضيقة، رغم عدم حمل كل واحد منهم سوى حقيبة صغيرة الحجم.

خلال الانتقال إلى مدينة القصير بحمص، قام أحد الشبان بتصوير نمرة السيارة وإرسالها إلى أخيه ليشاهده السائق المدعو “أبو حسن” ويتصل بشخص مناديًا إياه بسيدي، ليتضح للركاب أن السائق يعمل لدى ضابط في جيش النظام السوري، وفق نور.

وتابعت حديثها، أنه عند الوصول إلى مدينة القصير بريف حمص الجنوبي، أوقفهم الحاجز الأول من بين الحواجز الستة الموجودة في المدينة، ليجري حديث بين السائق والضابط يوضح معرفته بعمليات التهريب المستمرة في المنطقة، إذ سمح لهم بالعبور، دون توقيف أو تفتيش في الحواجز المتبقية بمدينة القصير.

بعد اجتياز آخر حاجز ما بين القصير السورية ومدينة الهرمل اللبنانية، عبرت السيارة على حاجز لبناني ترفع عليه صور لحسن نصر الله، أمين عام “حزب الله” اللبناني، ليتم إنزال الركاب بمنزل بعد الحاجز، يبعد عن الحدود اللبنانية قرابة 300 متر فقط.

حرق الأوراق الثبوتية

عند الوصول إلى الأراضي اللبنانية، يوزع المهاجرون في منازل مخصصة للبدء بإجراءات محددة يتبعها المهربون ومرافقوهم، بحسب الأشخاص الذين تحدثت عنب بلدي معهم أثناء إعداد التقرير.

وتقول نور، إنه بعد اقتيادهم إلى المنزل المخصص، الذي كان يضم امرأة وستة شبان يحملون رشاشات ويرتدون ألبسة عادية، وضعوا داخل غرفة تجاورها غرفة أخرى تضم نساء من ريف حماة.

ذكرت نور، أن الشبان بدأوا بتسجيل الأسماء الثلاثية للركاب جميعًا، بالإضافة لاستفسارات عن رغبتهم بالانتقال لطرابلس أم بيروت، لتنقل نور بعد ساعة رفقة ابنتيها  الشابتين (27 و22 عامًا) عبر سيارة إلى منطقة يوجد بها جسر وحاجز من أسلاك يفضل الحدود السورية- اللبنانية، وكان عليهم اجتيازه مشيًا قبل وصول دورية الجيش اللبناني.

ينقل المهاجرون عبر سيارات تابعة لمهربين لبنانيين داخل حارات وشوارع مدينة الهرمل إلى طرابلس، لتلافي التعرض للدوريات الأمنية قدر الممكن، بحسب نور.

وتوزع على المهاجرين، أوراق رسمية مختومة، تفيد بخروجهم من سوريا وعدوتهم بموافقة أممية، ولا تعلم نور إن كانت هذه الورقة نظامية أم مزورة، لحصولها مع ابنتيها على أوراق حمراء اللون توزع أيضًا، وتفيد بأن حاملها يحاول تجديد إقامته في لبنان، بحسب ما شُرح لنور التي أجبرت على تكرار ذلك عند كل حاجز أمني يصادفهم خلال الطريق إلى طرابلس.

وفق المعلومات التي وصلت لعنب بلدي، تطلب من المهاجرين أوراقهم الثبوتية من هويات شخصية وغيرها بالإضافة للهواتف المحمولة، إذ يسمح لهم بإبقاء هاتف واحد فقط على القارب خلال الرحلة إلى قبرص.

“المهرب المدعو أبو محمد لم يرسل أوراقي الثبوتية والهواتف المحمولة لصديقي رغم التواصل معه تحت ادعاء أن الأوراق ضائعة، لكنني اكتشفت بأن أوراق المهاجرين تحرق بالكامل”.

محمد الدامري _ مهاجر سوري

الأمواج تقذف بالقارب

بعد الوصول إلى بيروت، تواصل محمد الدامري مع مهرب لبناني الجنسية يقيم في مدينة طرابلس ويدعى أبو محمد، حصل على رقم هاتفه من صديقه الذي يقيم في مدينة إدلب وينسق للتهريب إلى قبرص، دون ذكر اسمه.

واتفق محمد مع المهرب على دفع مبلغ مالي 2800 دولار أمريكي عن الشخص الواحد، وشرط عدم حمل أمتعة معهم، إذ إن القارب سيحمل فقط 15 راكبًا، لينتقل محمد وعائلته إلى العنوان المحدد في مدينة طرابلس، لتقله سيارة تابعة للمجموعة لمنزل تجمع فيه 13 شخصًا من الجنسية السورية، سيهاجرون سويًا إلى قبرص.

وصف محمد الرحلة خلال شرحه لعنب بلدي التفاصيل، بأنها “انتظار الموت” إثر لحظات الخوف الذي انتابته خلال أيام الرحلة، فخوفه على زوجته وطفلته فاق خوفه على نفسه.

دعوات رجل كبير في السن وقراءته آيات من القرآن الكريم خلال الرحلة عند اشتداد الأمواج التي تضرب بالقارب، تمازجت مع خوف محمد المستمر جراء محاولة الرجل الانتحار بلحظة ما، واستفراغ إحدى النساء إثر إصابتها بدوار البحر، ما زاد المشهد صعوبة ,اضعف من قدرته  على التحمل، وفق ما قال محمد، لعنب بلدي.

أما عن رحلة نور الشتار، فقد تأجلت أسبوعًا بعد وصولها إلى طرابلس، ما أجبرها على البقاء لدى معارفها حتى تحديد موعد الرحلة من قبل المهرب المسؤول المدعو باسم عبدالله، حسب قولها، لتأتي سيارة فان قامن بنقلهم إلى منزل يضم 30 شخصًا بينهم أطفال ورجال سيهاجرون بنفس الرحلة.

لم تكن رحلة نور، أقل خطورة وخوفًا، وزاد الوضع سوءًا تعرض قاربهم للإيقاف من قبل السلطات القبرصية، والتي كانت تنوي عدم السماح لهم بالنزول، إذ انتظروا نحو 13 ساعة للحصول على موافقة السلطات القبرصية بإدخالهم بعد أمرهم بالعودة إلى لبنان عند إيقافهم، إلا أنهم، وبعد توسل النساء والأطفال، سمحوا لهم العبور إلى قبرص، مع رفض دخول الشبان الموجودين في الرحلة، الذين أمروا بالعودة إلى لبنان.

تسهيلات الأمن اللبناني و”الرابعة”

محمد، مهرب سوري يعمل في التهريب بلبنان منذ نحو عامين، قال لعنب بلدي، إن من يعمل في التهريب لا بد أن تكون له علاقات في عدد من المناطق، إذ إن عملهم في التهريب يتطلب الدقة والحذر، وعلاقات مع الأمن اللبناني والجيش السوري معًا.

وتابع محمد (تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية)، أنه يتواصل معه أعداد كبيرة من الأفراد والعوائل السورية التي تقرر الهجرة إلى قبرص من لبنان عن طريق البحر، ويحدث التواصل عبر أرقام خاصة على تطبيق “الواتساب”، دون الإعلان عن أسماء المهربين الحقيقة.

قارب لتهريب البشر ضبطه الجيش اللبناني في منطقة القلمون بقضاء طرابلس- تموز 2022 (موقع الجيش اللبناني الرسمي)

 

وتبدأ الرحلة من شواطئ طرابلس لقبالة الشواطئ السورية، حيث يبحر القارب نحو عشرة كيلومترات ضمن المياه السورية قبل دخوله المياه الإقليمية باتجاه قبرص.

وأفاد المهرب محمد، لعنب بلدي، أن عمليات التهريب تجري بالاتفاق بين أفراد من الجيش أو الأمن اللبناني و”الفرقة الرابعة” التابعة للجيش السوري.

من بين كل ثلاث أو أربع رحلات، يجري القبض على رحلة، إما قبل إبحارها أو في البحر، من قبل خفر السواحل، ليسلم من يلقى القبض عليهم لـ”الفرقة الرابعة” في سوريا، ويجري إخبار المهربين بذلك من قبل الجيش اللبناني ليتواصلوا مع ضابط يدعى “سافر أبو جحاش”، وهو لبناني الجنسية ويسيطر على منطقة وادي خالد، إذ يتعامل مع “الفرقة الرابعة” لتبادل المهاجرين مقابل مبلغ قدره 350 دولارًا أمريكيًا عن كل شخص.

يتم تقاسم المبالغ المقبوضة بين “الفرقة الرابعة” والجيش اللبناني، هذا ما يدفع بعض المهربين إلى طلب الحصول على مبلغ 3400 من الشخص الواحد، لكي لا يدفعوا المبالغ الإضافية من حصتهم.

تحدد أسعار التهريب عبر البحر حسب العمر، فالأطفال الرضع لا يدفع عنهم، أما الأطفال البالغين عام حتى الثمانية أعوام، يدفع عن كل طفلين ما يوازي أجر راكب واحد، ويدفع عن كل شخص أكبر من الثمانية أعوام 2900 دولار أمريكي.

منازل خاصة

بعد تجميع الأشخاص في منازل مخصصة لتجميع المهاجرين، تؤخذ منهم جميع الأوراق الثبوتية التي تثبت أنهم مقيمون في لبنان أو دخلوا إلى لبنان، مع السماح لهم بإبقاء هاتف محمول واحد لجميع ركاب الرحلة، لينقلوا بعدها عبر سيارات إلى شواطئ طرابلس، ويتم وضعهم في القوارب المجهزة.

وعن أنواع القوارب المستخدمة خلال الرحلات، قال محمد لعنب بلدي، إن هناك نوعان، أولها قارب فلوك خشب، يبلغ طوله من ثمانية إلى 14 مترًا تحمل نحو 50 راكبًا، وقارب فوبر سميك، طوله سبعة أمتار، ويستطيع نقل 16 راكبًا.

قبرص تحاول ردع الهجرة

أظهرت بيانات صادرة عن دائرة الأجانب والهجرة التابعة للشرطة القبرصية، أن السوريين الذين وصلوا إلى قبرص في عام 2022، شكلوا 23% من إجمالي طالبي اللجوء، بينما وصلت هذه النسبة لعام 2023 إلى 53%، حتى منتصف تشرين الثاني 2023.

طالبو لجوء يقفون خلف سياج داخل مخيم للاجئين في منطقة كوكينوتريميثيا خارج العاصمة القبرصية نيقوسيا- 5 شباط 2021 (ِAP)

ونقلت هذه البيانات صحيفة “فيلينيوز” المحلية القبرصية، قائلة، إن واحدًا من كل طالبي لجوء وصلا إلى قبرص بشكل “غير شرعي”، يحمل الجنسية السورية خلال عام 2023، مقارنة بواحد من كل أربعة في عام 2022.

أعادت قبرص أكثر من 100 طالب لجوء سوري بعد إمساكهم على أراضيها إلى لبنان، حيث جرى ترحيل معظمهم إلى سوريا بعد التحقيق معهم من قبل الجيش اللبناني، وفق الأمم المتحدة.

وقالت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، في 11 من آب 2023، لوكالة “أسوشيتد برس” حينها، إنها “قلقة للغاية” بشأن ترحيل أكثر من 100 سوري من قبرص إلى لبنان، دون تحديد ما إذا كانوا بحاجة إلى حماية قانونية، أو من قد يشكل ترحيله إلى وطنه خطرًا عليه.

  • شارك في إعداد هذه المادة مراسلة عنب بلدي في درعا سارة الأحمد




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة