رائد الفضاء السوري محمد فارس.. الرحلة الأخيرة

رائد الفضاء السوري محمد فارس خلال فيلم وثائقي عرضته قناة “الجزيرة” في كانون الثاني 2023 (لقطة شاشة)

camera iconرائد الفضاء السوري محمد فارس خلال فيلم وثائقي عرضته قناة “الجزيرة” في كانون الثاني 2023 (لقطة شاشة)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسام المحمود

“بالروح بالدم نفديك يا فارس”، هكذا استقبله الشعب السوري بعد عودته من الفضاء إثر نهاية رحلته التي انطلقت في تموز 1987.

هذه الرحلة التي سجّلت اسمه كأول سوري، وثاني عربي يصل إلى الفضاء، جاءت مختلفة بكل تفاصليها التي حققت في الماضي ما استمر تأثيره في الحاضر، فالرجل لم يأخذ معه ورقة بإجابات معلّبة ومعدة مسبقًا للرد على أسئلة حافظ الأسد، والد بشار، ولم يقدّم إجابات تمجّد “القيادة الحكيمة” من فوق السماوات.

هذا محمد فارس، طيار سوري مقاتل على الطائرة “ميغ 21″، كان يحلّق ليحمي سماء بلده، وكان مدرب طيران أيضًا، واستطاع مع مرور العقود وتعاقبها الحفاظ على المجد الذي خلقته التجربة، بالوقوف بفروسية أمام تجربة أخرى لا تقل شأنًا على مستوى التاريخ والمستقبل، بعيون السوريين.

بالنظرة الجدّية الندّية، والابتسامة الخفيفة التي ترسم تحتها هيبة ضابط عسكري، فارق محمد فارس الحياة في أحد المستشفيات التركية بولاية غازي عينتاب، مساء الجمعة 19 من نيسان الحالي، ومن المقرر الصلاة على جثمانه في جامع “الفاتح” بالقسم الأوروبي من مدينة اسطنبول، بعد صلاة ظهر الاثنين 22 من نيسان.

عن بُعد، تبدو الصورة أشد وضوحًا، إذ تتسع زاوية الرؤية، ومن الفضاء تصغر الأشياء بعين الناظر، فيلتقي بالليل والنهار في ساعة ونصف من عمر الأرض، كفيلة بإجراء دورة حول الكوكب، ومن هناك تغيب ملامح البلاد، ليبحث عنها أصحاب التجربة العلمية بالاستعانة بالعالم والخرائط، فتوضع التحضيرات العلمية والبدنية والنفسية على محك التجربة.

قدّم محمد فارس برحلته إلى الفضاء 13 تجربة علمية، تبعتها تجربة يختلط فيها الواقع بالسياسة، بعد العودة إلى الأرض، فالتجارب المتعلقة بحركة الدم في الجسم ومدى تأثرها بالأجواء المحيطة بالفضاء، والمتعلقة بمراقبة القلب عبر جهاز خاص لرصد وقياس التغييرات، وتجربة مدى تأثير الفضاء على رواد الفضاء، وخلط معدن الجاليوم بالأنتموان، والألمنيوم بالحديد، وتجربة الموصلات الإلكترونية التي تدخل في الصناعات الإلكترونية، ودراسة أنواع التربة، والأحواض المائية في سوريا من الفضاء الخارجي، ودراسة طبقات الجيولوجيا في سوريا من ارتفاع 3000 كم، وتصوير سوريا من الفضاء الخارجي، كلّها تجارب تبعتها تجربة إهمال كل ما سبق من قبل النظام السوري، رغم أهمية الأبحاث وكثافتها بشهادة الضباط السوفييت، التي نقلها محمد فارس نفسه.

لا ندم.. لا يأس

وبعد نحو 24 عامًا من رحلة قرأ عنها السوريون في كتب المدارس، اندلعت الثورة السورية في آذار 2011، وطالب السوريون بإسقاط النظام والتغيير السياسي ورحيل الأسد عن السلطة، ما قوبل بمحاولات إسكات فاشلة لم يوفر معها النظام الحديد والبارود والبراميل، لإسكات المدن الثائرة بقوة وسطوة ودوي القذائف، فأعلن محمد فارس انشقاقه عن النظام في آب من 2012.

نبوءة العودة بعد شهر إلى سوريا، لم تصدق لدى محمد فارس، كما خيّبت آمال السوريين بالتغيير السريع، والحفاظ على البلاد وإنقاذها من الدمار والفوضى والشرذمة، لكن نظرة اللواء السابق، ابن مدينة حلب، لم تتغير مع ارتفاع قيمة الفاتورة التي دفعها السوريون أرواحًا ومعتقلين، وركامًا ونازحين، وشعبًا موزعًا على خيام المنطقة، تحت مسمى اللجوء وغياب حقوقه، إذ أكّد في مقابلة أجراها عبر قناة “أورينت“، في تشرين الأول 2017، أنه لو عاد به الزمن، لربما اتخذ موقفًا أكبر من مجرّد الانشقاق، معربًا عن أسفه لعدم قدرته على المشاركة في العمل العسكري المضاد ضد النظام السوري الذي مشّط بالدبابات شوارع وأحياء المدن الثائرة.

محاولات الإقصاء والاستبعاد من المشهد، وتنحية محمد فارس عن سلّم السلطة المرتبطة بالجماهيرية والشعبية، بدأت منذ لقائه بالأسد الأب بعد عودته من الفضاء، حين سلّمه وسام بطل الجمهورية باليد، بدل تقليده له (يلبس في العنق)، وتبعها لقاء آخر بحضور رائد الفضاء السعودي سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، قبل أن يعود محمد فارس إلى منزله لنحو تسع سنوات قضاها في تقديم المحاضرات والدروس التعليمية لمختلف المراحل.

وبعد الانشقاق، لم يتصدر محمد فارس المشهد السياسي أو العسكري، وكرّس كثيرًا من وقته لتقديم المحاضرات والندوات في الجامعات والمعاهد التركية، متمسكًا بموقفه مما يحصل في سوريا، لتكون آخر رسائله إلى الشباب السوري من فوق فراش المرض، “أتمنى لكم التوفيق، أنتم الشباب أملنا في المستقبل، لا تيأسوا، سننتصر بإذن الله تعالى”، كما دعا من قبل إلى ضرورة الاهتمام بالتعليم والتثقيف، لتوجيه البندقية نحو الهدف الصحيح، ولإعادة بناء ما دمره النظام.

ورغم تسارع ثورة التكنولوجيا والرقمنة، والتجارب الفضائية والصعود إلى الفضاء واستكشاف الكواكب، في العصر الحديث، فإن التاريخ يذكر البدايات والأرقام الأولى، ويحفظ اسم محمد فارس كأول عربي عمل في المحطة المدارية، وأجرى تجاربه في الطب الكوني والبلورة وخواص المعادن.

رحلة إلى الفضاء وعودة إلى الأرض، رحلة إلى الوطن، ثم أخرى إلى بلد اللجوء، قبل رحلة أخيرة لا تقاس بالمسافات، ولا عودة بعدها لتروى التجربة، وإذا كانت رحلة الفضاء آنذاك لم تحقق طلب الابن بأن يعود له أبوه بنجمة، فربما تجعل الحياة والمواقف والتاريخ من الأب نجمًا لا بعيون ابنه فحسب، بل بعيون شعب لا ينسى من صان ثورته.

محمد فارس (أيار 1951)، قال خلال وثائقي عرضته قناة “الجزيرة” في كانون الثاني 2023، بعنوان “محمد فارس رائد فضاء لاجئ على الأرض“، “إن الإنسان يولد مرة، لكن رائد الفضاء يولد مرتين، حين يولد من رحم أمه، وحين يولد من رحم الأرض”، لكن محمد فارس لم يذكر أبدًا متى يرحل رائد الفضاء.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة