tag icon ع ع ع

زينب مصري | صالح ملص  | ديانا رحيمة

لم تكن خولة (45 عامًا) تتوقع حرمان ابنها حسين، البالغ من العمر 24 عامًا، من قدرته الطبيعية على ممارسة حقه في الحياة إلى الأبد، إلا أن ما حدث في آب من عام 2017، جعلها تعيش مأساة معنوية لم تخرج منها حتى الآن.

في آب 2017، أُصيب حسين بشظية نتيجة غارات جوية لقوات “التحالف الدولي” في أثناء قصف مدينة الرقة بشمال شرقي سوريا، خلال المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.

استقرت الشظية في رأس الشاب البالغ من العمر حينها 20 عامًا، واخترقت أنسجة الدماغ، أفضت هذه الإصابة إلى حدوث مضاعفات مزمنة، وفق ما قالته خولة لعنب بلدي.

في 2014، تدفقت الرايات السود لتنظيم “الدولة الإسلامية” على العراق وسوريا، واتسعت مساحة سيطرته شمال شرقي سوريا، ولم يلقَ سوى مقاومة محدودة في طريقه للسيطرة على مدينة الرقة، إلا أن الغارات الجوية المكثفة من قبل قوات “التحالف الدولي”، بقيادة أمريكا، ضيّقت الخناق على التنظيم خلال معارك عسكرية داخل مدن مكتظة بالسكان المدنيين.

وجود كثافة سكانية داخل مدينة الرقة خلال المعارك ضد التنظيم كان عاملًا أساسيًا في تعقيد العمليات العسكرية، ما يعني جهودًا أكبر للحفاظ على حياة المدنيين وتجنب وقوع خسائر في صفوفهم.

إلا أن ذلك لم يحدث بالمستوى المطلوب، ونتج عن الضربات التي نفذتها قوات “التحالف الدولي”، مقتل مئات من المدنيين في سوريا، وبقيت المجتمعات المحلية التي تضررت جراء قصف “التحالف” دون تعويضات عادلة.

في هذا التحقيق، تناقش عنب بلدي أسباب تهرّب الولايات المتحدة الأمريكية من الاعتراف بالضحايا المدنيين جراء غاراتها في سوريا منذ بدء حملتها ضد تنظيم “الدولة” حتى الآن.

وتسلّط الضوء على ضرورة التركيز على إنشاء برامج قانونية لتعويض أمريكي لضحايا قصف “التحالف” في سوريا، ضمن برامج واسعة النطاق لإصلاح البنية التحتية في المنطقة، وآلية تقديم هذه التعويضات، وذلك مع مختصين حقوقيين سوريين.

آلام على هامش المعارك

حين تعرّض حسين لتلك الإصابة، أسعفت العائلة ابنها إلى مستشفى “الرقة الوطني”، الذي كان وقتها لا يزال يعمل بإمكانيات بسيطة بسبب الحصار المفروض على المدينة من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

وأدى التدخل الجراحي الذي نُفّذ داخل المستشفى بكوادر متواضعة إلى استئصال الشظية من دماغ الشاب، إلا أن تلك الجهود أدت إلى تضاعف تأثيرات الحادثة، ليُصاب حسين بضمور دماغي شديد أقعده إلى الأبد.

“لو كان ميتًا لكان أرحم له من هذا العذاب الدائم”، لا تخاف خولة، التي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية، من موت ابنها حسين الآن، لأن “الموت حق أوجبه الله علينا لننهي حياتنا، لكن المرض يذل الإنسان (…) مشاهدتي كل يوم لحال ابني تعذبني من الداخل”.

لم ترغب عائلة حسين في مغادرة مدينة الرقة خلال المعارك العسكرية ضد تنظيم “الدولة”، بل قررت البقاء في منزلها بحي رميلة بريف الرقة الشمالي الشرقي.

لا يقوى حسين الآن على تحريك قدميه، بسبب فقده جزءًا كبيرًا من إدراكه العصبي، بالإضافة إلى اضطرابات في وعيه وتشنجات شديدة في أوتار قدميه.

ولم تحصل خولة على أي تعويضات من أي جهة فاعلة في شمال شرقي سوريا، على الرغم من تقديمها عدة شكاوى وطلبات للمنظمات المدنية العاملة في المدينة.

وتضطر خولة في هذه الفترة إلى العمل مع اثنتين من بناتها في تطريز الملابس من أجل تأمين المستلزمات الطبية الخاصة بابنها من أدوية، ومقويات، ومهدئات لمنع التشنجات أو النوبات التي قد تصيبه أحيانًا، بالإضافة إلى مستلزمات النظافة الشخصية الضرورية يوميًا، وأهمها الحفاضات، وسط ارتفاع أسعار جميع تلك المستلزمات ضمن واقع معيشي متردٍّ.

وفي الفترة التي أُصيب بها حسين بالشظية، أكد المتحدث باسم “التحالف الدولي” حينها، راين ديلون، تكثيف “التحالف” قصفه لمدينة الرقة، إذ نفّذ أكثر من 250 غارة جوية خلال آب 2018.

مركبة عسكرية تابعة للقوات الأمريكية في شمال شرقي سوريا- 4 من حزيران 2021 (حساب “التحالف الدولي” عبر “تويتر”)

وتركزت المعارك في ذلك الوقت، وفق ما نشرته “فرانس 24“، في المدينة القديمة للرقة، فضلًا عن حيي الدرعية والبريد غربي المدينة، وأطراف وسط المدينة من الجهة الجنوبية.

في عام 2018، قالت منظمة العفو الدولية،، إن عدم اعتراف “التحالف” بمدى هول الصدمة التي ألحقها بالضحايا من المدنيين، والدمار الذي تسبب به لمدينة الرقة، بالإضافة إلى التقاعس عن إجراء أي تحقيق فيما حدث، يشكّل “صفعة في وجه الناجين الذين يحاولون إعادة بناء حياتهم ومدينتهم”.

وبحسب تقرير المنظمة، فإن انتصار “التحالف” مع شركائه على الأرض في القضاء على تنظيم “الدولة” جاء بمقابل ثمن باهظ، وهو تدمير حوالي 80% من المدينة، ومقتل مئات من المدنيين، جلّهم نتيجة القصف الذي تعرضت له المدينة على يد قوات “التحالف”، كما ذكرت المنظمة أنها استطاعت التحقق مباشرة من أسماء 641 ضحية.

ولم يُجرِ “التحالف” تحقيقًا شاملًا في الهجمات التي أودت بحياة مدنيين، ولم يُنشئ برنامجًا للتعويضات، أو أي مساعدة أخرى للمدنيين المتضررين من عمليات “التحالف”.

وتُرجع وزارة الدفاع الأمريكية غياب مثل هذه المدفوعات إلى “القيود العملية” و”الوجود الأمريكي المحدود، ما يقلل من الوعي المطلوب بالأوضاع لتوفير مدفوعات على سبيل الهبة”، وفق ما قالته منظمة “هيومن رايتش ووتش” في تحقيق لها صدر عام 2019.

وضمن التحقيق، قالت نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط في المنظمة، لما فقيه، إنه “رغم انتهاء القتال الفعلي ضد (داعش)، تستمر معاناة المدنيين المتضررين من غارات التحالف. ينبغي للتحالف توسيع نطاق المدفوعات التي قدمها في كانون الثاني لتشمل المدنيين المتضررين من أفعاله السابقة في سوريا”.

في كانون الثاني 2019، دفع “التحالف” حوالي 80 ألف دولار لضحايا هجوم قُتل فيه 11 مدنيًا، بينهم أربعة أطفال من العائلة نفسها. مع ذلك، لم تسفر تحقيقات “هيومن رايتس ووتش” في أربع غارات جوية لـ”التحالف” غير قانونية في محافظة الحسكة في عامي 2017 و2018، وأودت بحياة 63 مدنيًا ودمرت وأضرّت بالممتلكات، عن أي تعويضات أو مدفوعات للضحايا.

قصة معاناة السيدة خولة مع ابنها حسين لم تكن أكثر إيلامًا من فقد ياسين (35 عامًا) أحد إخوته في منزلهم بحي الفردوس وسط مدينة الرقة خلال غارات “التحالف” على المدينة في أيلول عام 2017.

“ترك أخي خلفه ثلاثة أطفال وزوجته، أتكفّل الآن بتأمين مصاريفهم المادية”، وفق ما قاله ياسين لعنب بلدي.

إلا أن للشاب الثلاثيني الذي يعمل في تجارة الخضراوات طاقة محدودة، ولا قدرة لديه على تأمين كامل مستلزمات الأطفال “الذين يكبرون وتكبر مسؤوليتهم كل يوم”.

لم يتلقَّ ياسين، الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية، أي تعويض عن مقتل أخيه، بينما يطالب بضرورة إعداد قائمة بالذين تضرروا جراء غارات “التحالف” على مدينة الرقة خلال فترة سيطرة تنظيم “الدولة” على المدينة، وتعويضهم من قبل نقاط “التحالف الدولي” التي توجد إلى الآن في المنطقة.

لا تقتصر تأثيرات معارك “التحالف الدولي” ضد تنظيم “الدولة” على مدينة الرقة، فهناك مدن أخرى عاشت نفس المعاناة، مثل مدينة الطبقة بريف الرقة الغربي، ومنبج بريف حلب الشرقي، وهجين وبلدة الباغوز بريف دير الزور الشرقي.

ومع غياب الجهود المقنعة من جانب قوات “التحالف” للتحقيق في الآثار التي خلّفتها حملة الرقة على المدنيين، تواصل منظمات حقوقية سورية ودولية جمع المزيد من الأدلة المتعلقة بالأنماط الأوسع نطاقًا من الإصابات في أوساط المدنيين بمدينة الرقة، ومدن أخرى في شمال شرقي سوريا.

مفاتيح المحاسبة بيد المتضررين

القيادة الأمريكية تتهرب من مسؤوليتها أمام الضحايا

كثّفت وسائل إعلام أمريكية تغطيتها حول إخفاء وزارة الدفاع (البنتاغون) معلومات ووثائق تتعلق بسقوط ضحايا مدنيين جراء الضربات الأمريكية على مواقع وأهداف في سوريا، وتحفّظها على نشر أعدادهم أو الاعتراف بهم، منذ نحو سبع سنوات حتى اليوم.

هذه التغطية الإعلامية وصلت إلى رفع دعوى قضائية ضد “البنتاغون” لإجباره على نشر الوثائق التي تتعلق بسقوط ضحايا مدنيين في إحدى الغارات الأمريكية بالشمال السوري عام 2019.

في آخر غارة جوية زُعم أنها استهدفت قياديًا في تنظيم “القاعدة” بالقرب من مدينة إدلب شمالي سوريا في 3 من كانون الأول الحالي، أشارت القيادة المركزية الأمريكية إلى أن المعطيات الأولية للغارة تشير إلى احتمالية إصابة ضحايا مدنيين.

وقال المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية، بيل أوربان، في بيان له في اليوم الذي تلا الغارة، إن القيادة تتخذ جميع الإجراءات الممكنة لمنع “الخسائر في أرواح الأبرياء”.

لكن القيادة العسكرية الأمريكية تحفظت على نشر بيانات حول أعداد الضحايا المدنيين نتيجة غاراتها في سوريا والعراق وأفغانستان خلال السنوات الماضية، وفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في 18 من كانون الأول الحالي.

لم تنشر وزارة الدفاع الأمريكية تقديراتها للخسائر المدنية المحتملة إلا في عدد قليل من الحالات، ولم تنطوِ الإجراءات الداخلية على أي تغييرات استعدادًا لضربات مستقبلية إلا في وقائع نادرة، كما أنها لم تؤدِّ مطلقًا إلى إجراءات تأديبية ضد العسكريين، وفق ما قاله معدو التقرير.

أوصت القيادة “بإجراء تحقيقات كاملة في 12% من الحالات فقط من العدد الإجمالي للغارات الجوية التي قُتل فيها مدنيون، واعتمدت أدلة غير كاملة أو غير صحيحة وتم إيقافها”.

وأظهر تحقيق سابق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، في 13 من تشرين الثاني الماضي، إخفاء الولايات المتحدة الأمريكية لضربة جوية في سوريا عام 2019، أدت إلى مقتل العشرات من المدنيين، خلال حرب “التحالف الدولي” ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في بلدة الباغوز شرقي سوريا.

وأوضحت الصحيفة أن عدد القتلى كان واضحًا على الفور للمسؤولين العسكريين، وفق التفاصيل التي تم الإبلاغ عنها لأول مرة، ووصف ضابط قانوني الغارة بأنها جريمة حرب محتملة تتطلب إجراء تحقيق.

لكن الجيش أخفى الضربة “الكارثية”، وتم التقليل من عدد القتلى، كما تم تأخير التقارير وتصنيفها، وجرفت قوات “التحالف” بقيادة الولايات المتحدة موقع الانفجار، ولم يتم إخطار كبار القادة.

دعوى قضائية ضد “البنتاغون”

تواجه وزارة الدفاع الأمريكية دعوى قضائية واتهامات بإخفاء معلومات عن قتل مدنيين في سوريا في أثناء الغارات الأمريكية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.

في 8 من كانون الأول الحالي، رفع “الراديو الوطني العام” الأمريكي (NPR) دعوى قضائية ضد “البنتاغون” في المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الجنوبية لنيويورك، “لعدم امتثاله لالتزامه القانوني بتقديم المستندات أو الاستجابة في الوقت المناسب” لطلب الإذاعة نشر الوثائق المتعلقة بالغارة العسكرية التي أسفرت عن مقتل زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية”، “أبو بكر البغدادي”، في تشرين الأول 2019، شمالي سوريا.

وقالت الدعوى القضائية، إن “القيادة المركزية الأمريكية لديها تاريخ موثق من التغاضي عن القتلى والجرحى من المدنيين حتى تعترض عليها وسائل الإعلام”، كما أن “السجلات المطلوبة في هذا الطلب، والتي تتعلق بضربة جوية أخرى ربما تكون القيادة المركزية الأمريكية قد قلّلت فيها من عدد القتلى المدنيين، لها أهمية عامة حيوية”.

وقد يسلّط الكشف عن الوثائق المتعلقة بالضربة الضوء على ملابسات الهجوم، وما إذا كان “البنتاغون” قد أخفى الأدلة على سقوط ضحايا مدنيين أو فشل في إجراء تحقيق شامل في المزاعم، وفق تقرير للإذاعة الأمريكية.

مقاتلون من “قوات سوريا الديمقراطية” خلال معارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في بلدة الباغوز جنوبي محافظة دير الزور شمال شرقي سوريا- 12 من آذار 2019 (AFP)

جمع الأدلة يحتاج إلى معلومات متقاطعة

تتحفظ الولايات المتحدة الأمريكية على البيانات والوثائق المتعلقة بالضحايا المدنيين جراء غاراتها العسكرية في سوريا، لأنها لا تريد القول إنها قتلت مدنيين، و”البنتاغون” لا يمتلك جميع المعلومات عن المدنيين الذين قُتلوا بالغارات الأمريكية، إذ يتطلب هذا الأمر تحقيقًا ميدانيًا وجمع معلومات من منظمات محلية ودولية ومقابلة شهود، بحسب مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد.

وقال الأحمد، في حديث إلى عنب بلدي، إن سقوط المدنيين في الضربات الأمريكية في سوريا يحدث أحيانًا بسبب أن المعلومات الاستخباراتية حول الأهداف العسكرية تكون غير دقيقة.

وتُمرر المعلومات على أن الهدف عسكري، ليتبين لاحقًا أنه مدني، أو تكون الضربة موجهة لهدف عسكري يوجد بجانبه بناء أو منزل أو موقع يضم مدنيين، ما يؤدي إلى سقوط “خسائر عارضة” (Collateral Damage).

وأضاف الأحمد أن القوانين الدولية تقضي عند توجيه الضربات في النزاعات المسلحة على الأهداف العسكرية المشروعة بتحقيق ميزة عسكرية أكيدة تكون أكبر من الخسائر العارضة.

كما وضع القانون الدولي مبادئ قانونية تمنع التمادي في ضرب الأهداف دون تمييز حتى لا تلحق الضربات أضرارًا بالمدنيين، أبرزها مبدأ التناسب بين الميزة المراد تحقيقها من الهجوم والأضرار المتوقعة وأثرها على المدنيين.

هل المحاسبة ممكنة؟

في 12 من كانون الأول الحالي، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تحقيق لها عن خلية قتالة أمريكية سرية للغاية تحمل اسم “تالون أنفيل” كانت تعمل بشكل غير رسمي، ولم تتلقَّ أوامرها من القيادة، قاتلت تنظيم “الدولة” في سوريا، وقتلت العديد من المدنيين.

ونقلت الصحيفة عن أشخاص عملوا مع الخلية قولهم، إنها تحايلت على القواعد المفروضة لحماية غير المقاتلين، وأزعجت شركاءها في الجيش ووكالة المخابرات المركزية، بقتل الأشخاص الذين لم يكن لهم دور في النزاع، وهم مزارعون يحاولون جني المحاصيل، وأطفال في الشوارع، وعائلات تفر من القتال، وقرويون يحتمون بالمباني.

وحول إمكانية محاسبة أفراد هذه الخلية على قتل مدنيين سوريين، قال الحقوقي بسام الأحمد، إنه يجب معرفة ما إذا كانت هذه الخلية قد خالفت المبادئ القانونية الدولية في النزاعات المسلحة، كمبدأ التناسب وأخذ الاحتياطات أو الإهمال والتعمّد والتقصد في استهداف المدنيين.

والمسؤولية في هذه الحالة تقع على الولايات المتحدة، إذ حتى لو لم تتلقَّ هذه الخلية أوامرها من القيادة المركزية، ما دامت أمريكية فهي مُرسلة من قبل الولايات المتحدة، وإذا لم تُكن مُرسَلة من قبل “البنتاغون”، قد تكون مُرسَلة من قبل وكالة المخابرات المركزية (CIA)، والوكالة جهاز تابع للحكومة الأمريكية، أي أن المسؤولية أمريكية.

وتحدث الأحمد عن ضرورة الإشارة إلى أن تنظيم “الدولة” استخدم المدنيين في الرقة كدروع بشرية، وتحصن عناصره في أماكن مدنية، وكما تقع على القوات المهاجمة مسؤولية في سقوط ضحايا مدنيين، لا يجب على القوات المُستهدَفة التحصن في مواقع تضم مدنيين.

ومن الممكن أن تكون فرق أخرى فرنسية أو بريطانية مشاركة في الضربات، ومسؤولية الهجمات في هذه الحالة تكون على “التحالف الدولي” وعلى الدولة المشارِكة في الهجمة، لذلك يجب تتبع ومعرفة الجهة المسؤولة عن الضربات لمقاضاتها على الخسائر وطلب التعويضات منها.

ودعا الأحمد العائلات المتضررة من الهجمات العسكرية الأمريكية في سوريا إلى تنظيم أنفسهم والضغط على الولايات المتحدة لإنشاء برنامج للتعويضات، ليس فقط عن القتلى المدنيين وإنما عن الأضرار وتدمير المنازل والإصابات، ومحاولة توكيل محامين في أمريكا أو منظمات وشركات هناك للمطالبة بالتعويض، و”المركز السوري للعدالة والمساءلة” (مقره أمريكا) يمكن أن يكون إحدى هذه الجهات، بحسب ما قاله.

وأوضح أن الضغط الإعلامي وتحركات المنظمات الحقوقية يمكن أن تلعب دورًا في طلب المحاسبة والتعويضات، لكن الأهم هو ضغط العائلات المتضررة الذي يمكن أن يُجبر على فتح تحقيقات ودفع تعويضات.

وقد يرى كثيرون أن “التحالف الدولي” قد حارب تنظيم “الدولة” في سوريا، لكنه ارتكب أخطاء وانتهاكات وتجاوزات، وخلّف قتلى مدنيين وإصابات وأضرارًا وتدميرًا للبنى التحتية، لا يمكن لأمريكا وللمجتمع الدولي أن يدير ظهره لها ويمنع المنظمات من العمل على التحقيق فيها.

في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي على موقعها الرسمي، يرى 51% من المشاركين في الاستطلاع البالغ عددهم 212 شخصًا، أن الولايات المتحدة الأمريكية تتحفظ عن نشر بيانات حول أعداد الضحايا المدنيين نتيجة غاراتها في سوريا لعدم الاعتراف بهم، بينما يرى 49% من المشاركين أن أمريكا تفعل ذلك تهربًا من تعويض المتضررين.

برأيك.. لماذا تحفظت الولايات المتحدة الأمريكية عن نشر بيانات حول أعداد الضحايا المدنيين نتيجة غاراتها في سوريا؟

جاري التحميل ... جاري التحميل ...

في سوريا.. حماية على الورق

مبادئ دولية تحمي المدنيين في النزاعات المسلحة

يهدف القانون الدولي الإنساني إلى حماية ضحايا النزاعات المسلحة، ومن هم خارج المعارك في أثناء هذه النزاعات، كما يقيّد حق أطراف النزاع في استخدام القوة العسكرية لحماية الممتلكات المدنية، التي ليس لها صلة مباشرة بالعمليات العسكرية.

كما يمنح القانون الدولي الإنساني الحد الأعلى من الحماية للأفراد في النزاعات المسلحة، وتعد قواعد هذا القانون ملزمة للدول ولأفراد القوات المسلحة على حد سواء، إلا أن هناك كثيرًا من الانتهاكات بحق تلك القواعد، بحجة “الضرورة العسكرية”.

ومن المفترض أن تكون المبادئ التي تحدد قانونية الضربات العسكرية خلال النزاع المسلح من عدم قانونيتها واضحة بالنسبة إلى أطراف النزاع في سوريا، ومن أجل التعويض عن الأضرار جراء ضربات “التحالف الدولي” في شمال شرقي سوريا، يجب تحديد كل ضربة عسكرية على حدة، ودراستها لمعرفة ما إذا كانت قانونية أم غير قانونية.

أربعة مبادئ

بحسب قواعد القانون الدولي الإنساني، فإن هناك أربعة مبادئ لتحديد قانونية الضربة العسكرية.

1- مبدأ “الضرورة العسكرية”: أي الحالة التي تكون مُلحّة لدرجة أنها لا تترك وقتًا كافيًا للأطراف المتنازعة لاختيار الوسائل المستخدمة في أعمالها، فتُرتكب أفعال حربية معيّنة على وجه السرعة بسبب موقف أو ظروف استثنائية في اللحظة ذاتها. ويجب أن تتم الموازنة بين الضرورة العسكرية والمقتضيات الإنسانية من قبل أطراف النزاع.

ويكمن الهدف من الضرورة العسكرية بتحقيق مكاسب عسكرية مشروعة لا يمكن تحقيقها إلا بإجراء عسكري غير معتاد، إلا أن أي ضرر بالمدنيين أو ممتلكاتهم خارج الضرورة العسكرية، يعتبر انتهاكًا بحقهم.

وحالة الضرورة العسكرية ليست سببًا لإباحة الجرائم ضد الإنسانية أو جريمة الحرب أو الإبادة الجماعية.

2- مبدأ “التناسب”: يعني أن الخسائر في أرواح المدنيين والأضرار التي تلحق بالممتلكات بشكل عرضي (أي خارج الهدف العسكري)، لا يجب أن تكون مفرطة فيما يتعلق بالنتائج العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقع اكتسابها.

وهذا يعني أنه عند التفكير في هدف عسكري ما، لا يمكن أن يكون الضرر اللاحق بالمدنيين وممتلكاتهم مفرطًا مقارنة بالنتيجة العسكرية المكتسَبة.

وهنا يترك القانون الدولي الإنساني هامشًا لوجود قتلى مدنيين خلال العمليات العسكرية، إلا أن الأطراف المتنازعة يجب عليها الالتزام بدراسة جميع الخيارات عند اتخاذ قرار الاستهداف العسكري، من خلال التحقق من مكان الهدف وتوقيت تنفيذ الاستهداف والأسلحة المستخدمة، والتحذيرات وعمليات إجلاء السكان المدنيين.

ويعتبر هذا المبدأ وسيلة للحد من الأضرار الناجمة عن العمليات العسكرية، وذلك من خلال أسلحة تتناسب مع العملية العسكرية.

3- مبدأ “التمييز”: من أجل ضمان احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية، يجب على أطراف النزاع أن تميّز في جميع الأوقات بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، وعليها بالتالي توجيه العمليات ضد الأهداف العسكرية فقط.

4- مبدأ “الآلام غير المبررة”: يقيّد هذا المبدأ حق أطراف النزاع في اختيار أساليب ووسائل القتال في أثناء النزاع المسلح، وذلك لمنع امتداد الأضرار والدمار إلى خارج الأهداف العسكرية، وذلك لتخفيف آلام النزاع على المدنيين.

مقاتل من “قوات سوريا الديمقراطية” يسير في صوامع القمح والطواحين في مدينة منبج شمال شرقي محافظة حلب في شمال سوريا بعد خروج تنظيم “الدولة الإسلامية”- 1 من تموز 2016 (رويترز)

آليات مقترحة

كيف يمكن تعويض الضحايا؟

في السنوات الأخيرة، خفضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عدد القوات البرية المنتشرة خارج أراضيها خلال حروبها ضد “الإرهاب”، وتحولوا بدلًا من ذلك إلى الضربات الجوية، بينما ينفذ شركاؤهم المحليون عمليات برية.

وجعل الاعتماد المتزايد على الحرب الجوية من هوية المنفذ غير معروفة تقريبًا، ويزيد ذلك من استحالة حصول المدنيين على تعويضات عن الأضرار المدنية، التي لا يمكن أن تحل محل الحياة إلا أنها اعتراف بوقوع ضرر وطريقة لمساعدة أولئك الذين فقدوا أحباءهم.

وفي عام 2007، دفعت الولايات المتحدة 32 مليون دولار أمريكي على الأقل كتعويضات للمدنيين المتضررين في العراق وأفغانستان، بينما دفعت المملكة المتحدة أكثر من 20 مليون جنيه على سبيل التعويض عن الانتهاكات التي وقعت في أثناء الوجود البريطاني بين عامي 2003 و2009 في العراق.

توقف التدفق المتواضع لمدفوعات التعويضات، مع انخفاض عدد القوات البرية في مناطق الحرب.

وتركز كلا البرنامجين في العراق وأفغانستان على تصنيف الحالات التي سقط فيها مدنيون بالخطأ، وتقديم رسالة اعتذار لذويهم إلى جانب تعويضات مادية، وهي رمزية، بالنسبة إلى المبالغ التي تطلبها أمريكا مقابل مواطنيها حين يُقتلون على يد أطراف أخرى، والهدف الأساسي من البرنامج الإقرار بالخطأ والاعتراف بوجود ضحايا مدنيين.
كما يهدف التعويض إلى مساعدة العائلات على المضي قدمًا في المستقبل، ولا سيما إذا كان الضحية مدنيًا معيلًا لأسرته، ولديه أطفال.

ورقة بحثية لتعويض المدنيين في سوريا

في الوقت الذي تغيب فيه مطالب الجهات السياسية والحقوقية السورية بتعويضات للمدنيين المتضررين من الضربات الأمريكية في سوريا، طالب “المركز السوري للعدالة والمساءلة” بإنشاء برنامج أمريكي، لتعويض أهالي المدنيين الذين تضرروا جراء الضربات الجوية العسكرية، ضمن برامج واسعة النطاق لإصلاح البنية التحتية في المنطقة، وفق ما جاء في ورقة بحثية صادرة عن المركز.

وتهدف الورقة إلى دعم جميع المجتمعات المحلية التي تضررت جراء قصف “التحالف”، وتضمن تقديم الولايات المتحدة تعويضات محددة كلما أمكن، بحسب ما قاله المدير التنفيذي للمركز، محمد العبد الله.

كما سيكون بإمكان الضحايا الذين لا يحق لهم التقدم بطلب الحصول على تعويضات، بسبب عدم توفر الوثائق الثبوتية المتعلقة بتلك الحوادث أو بسبب عدم الشعور بالراحة من الناحية المعنوية عند تسلّم مبلغ بعد

وفاة أحد الأقارب، الحصول على تعويضات على المستوى المحلي، بمعنى الحصول على تعويضات كونهم من عاشوا في تلك المنطقة في أثناء قصف “التحالف”.

ويعتبر توصيف تلك المبالغ المدفوعة ضمن التعويضات، وفق الورقة البحثية المنشورة، على سبيل الهبة، بما في ذلك التعويض النقدي والاعتذار الرسمي على حد سواء.

وتعتبر الورقة البحثية أن برنامج المبالغ المدفوعة على سبيل الهبة أمر “مجدٍ ومناسب”، بالنظر إلى التبعات التي لحقت بالضحايا المدنيين جراء الأعمال العسكرية الأمريكية.

ليس بالضرورة أن تكون “مبالغ نقدية”

ولا يجب أن تقتصر برامج التعويضات على رسالة الاعتذار والمبالغ النقدية، لوجود حالات كإصابات أو عاهات دائمة لا يمكن معالجتها في منطقة كشمال شرقي سوريا، إذ يمكن منح المصابين تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة ومعالجتهم على نفقة الحكومة الأمريكية، بحسب العبد لله.

كما يمكن أن يكون التعويض جماعيًا، فقصف مستشفى الأطفال في الرقة، الذي تحوّل إلى ثكنة عسكرية للتنظيم وقامت أمريكا بعدها بقصفه، يمكن على سبيل التعويض إنشاء مستشفى متخصص يخدم أهالي المنطقة بمعدات وتقنيات متقدمة.

وتساعد إعادة إعمار الجسور والطرقات التي دمرها “التحالف” (لمنع نقل معدات وأسلحة التنظيم عبرها) الأهالي أيضًا الذين اشتكوا من الطرقات المدمرة من آثار الانفجارات، والتي تستغرق وقتًا أطول للمرور بها وهي غير مؤهلة للنقل والعبور.

ويلعب نزع الألغام بتمويل أمريكي دورًا مهمًا في مساعدة أهالي المنطقة لتجاوز العديد من المشكلات التي خلّفها التنظيم.

فتح تحقيقات للعثور على مغيّبي التنظيم

تعرّض من تصدى للتنظيم بعد دخوله إلى شمال شرقي سوريا للخطف والاختفاء، وكانت هناك آمال بأن تجد العائلات مفقوديها ومخطوفيها، وأن تنكشف المعلومات بشأن أحبائهم بعد هزيمة التنظيم.
إلا أن تلك المعلومات بقيت صعبة المنال، بما في ذلك للعائلات البالغ عددها 12 ألفًا، والتي أبلغت فريق “الاستجابة الأولي” المحلي عن أشخاص مفقودين.
ويجب على الولايات المتحدة، بحسب الورقة البحثية، فتح تحقيق ومراجعة الأدلة على الجرائم التي ارتكبها تنظيم “الدولة”، والتي جُمعت من قبل أمريكا والقوات المسيطرة حاليًا على شمال شرقي سوريا، متمثلة بـ”قسد”.
كما يجب تيسير استجواب مقاتلي تنظيم “الدولة” المحتجزين في شمال شرقي سوريا، والتحقيق معهم بشأن المفقودين والمختطفين من قبل التنظيم.

مقاتلون من “قوات سوريا الديمقراطية” يسيرون على أحد طرق بلدة الباغوز جنوبي محافظة دير الزور شرقي سوريا- 21 من آذار 2019 (AFP \ ديليل سليمان)

“البنتاغون” يمانع

تضمن الأموال المخصصة للعراق وسوريا في برنامج مرتبط بالعمليات الحالية في أفغانستان يسمى برنامج الاستجابة للطوارئ للقادة، أو”CERP” في الجيش يُشار إليه أيضًا باسم المال كنظام سلاح.

وأذن الكونجرس الأمريكي لوزارة الدفاع في قانون تفويض الدفاع الوطني السنوي (NDAA) بتقديم مدفوعات تعزية للمدنيين في سوريا في كانون الأول 2016، ولكن وزارة الدفاع نفسها هي التي لم تطبّقها.

وعلّقت الوزارة، بحسب العبد الله، بأن انتشار الجيش الأمريكي ليس واسع النطاق على الأرض في شمال شرقي سوريا، للتحقق من هذه الحالات بشكل مباشر، كما كانت الحال في العراق وأفغانستان، حيث كانوا موجودين على الأرض وبين الناس، ولم يشعروا بالحاجة إلى مثل هذا البرنامج كالخوف من حالات انتقامية من قبل الأهالي، كما هو الوضع في سوريا وأفغانستان، بينما يختلف الوضع في سوريا في ظل عزل القوات الأمريكية عن أهالي المنطقة.

ولا تتم هذه البرامج بعد انتهاء الحروب عادة، بل تتم بشكل مباشر خلال العمليات، والهدف السياسي أو الاستراتيجي منها هو ألا يتحول أهالي الضحايا إلى أعداء ومقاتلين ضد القوات الأمريكية.
وطوّرت وزارة الدفاع دليلًا للاعتذار والتعويض في العمليات العسكرية خارج الولايات المتحدة، ولكن النقطة الأساسية في الدليل هي إعطاء مهلة 90 يومًا من الحدث للتحقيق والتعويض، ولذلك استُثنيت سوريا من ذلك التعويض تلقائيًا لمضي أكثر من أربع سنوات على بعض الحالات.

أين تقف المنظمات السورية من المطالبات؟

بإمكان المنظمات الأمريكية أن تلعب دورًا أكبر، بحسب الناشط السياسي المقيم في واشنطن محمد غانم، لكن هذا الأمر ليس سهلًا لأنه يتعلق بجهود المناصرة السياسية، ودفع العملية السياسية المتعلقة بسوريا في واشنطن، وهذا يتطلب أموالًا وجهودًا كبيرة.

صعوبة تطبيق الخطوات عمليًا لا تعفي مؤسسات المعارضة السياسية التي “تدّعي تمثيل الشعب السوري” من البدء بها، بحسب غانم، فمنذ بداية مقتل مدنيين على يد قوات “التحالف”، لم تقدم هذه المؤسسات أي مطالب للحكومة الأمريكية، وحتى في اللقاءات مع المسؤولين الأمريكيين، لا تدرَج هذه المواضيع على ملفات النقاش، وكأنها لا تحصل.

وتنشر الصحافة الأمريكية هذه القضايا بينما لا تنبس المعارضة السورية ببنت شفة، وهو أمر مخزٍ ومعيب، بحسب غانم، لأن من واجبها عندما تقع أي ضحية سورية أن ترفع المؤسسة صوتها وتقول إن هذا لا يجوز على الأقل، سواء باجتماعات أو حتى ببيانات.

بينما يرى مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أن الجالية السورية في واشنطن، حصرت دورها بالعمل على الجانب السياسي وأنشطتها في إطار “اللوبينغ” أو الضغط السياسي.
وأضاف أن “من المؤسف أيضًا” أنها لم تحرز شيئًا يُذكر حتى في ذلك المجال، مع استثناء قانون “قيصر” الذي هو نتاج الكونجرس الأمريكي في الأساس، أما ملفات حقوق الإنسان فهي ليست ذات أولوية للجالية السورية- الأمريكية.

ويأتي تركيز “المركز السوري للعدالة والمساءلة” على قضية المطالبة بحقوق الضحايا السوريين من كونه ملفًا حقوقيًا وقضية محقة في المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي ألحق بالضحايا.

English version of the article

مقالات متعلقة