المهنية بمواجهة استغلال الصحافة في الأحداث الصادمة 

tag icon ع ع ع

علي عيد

في الساعات الأولى من الأحداث الكبيرة، سواء أمنية أو طبيعية، تترك كثير من وسائل الإعلام الحبل على الغارب، وقد لا تتضمن مدونة أو كتاب الأسلوب في تلك الوسائل قواعد تتعلق بالتعاطي مع تلك الأحداث في اللحظات الأولى، لحين التمكن من الوصول إلى مصادر من قلب الحدث، سواء جهات مسؤولة أو شهود عيان موثوقون وبعدد كافٍ.

بعض الأحداث الأمنية يكون الأمر فيها متعمدًا، ومرتبًا مسبقًا، أو يهدف إلى إحداث صدمة لدى الجمهور، وتحت ضغط الوقت والعاجل، تتخلى كثر من وسائل الإعلام عن معايير أساسية لنقل الخبر، ويكون مفتعلو الحدث قد وضعوا خطتهم لإحداث الصدمة والاستثمار فيها، وهذا ما يفسر كثيرًا من الأحداث الكبرى التي حصلت قبل سنوات، ولم تُعرف خلفياتها الحقيقية حتى اللحظة، مثل اغتيال الرئيس الأمريكي، جون كينيدي، عام 1963، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، عام 2005، وتفجير خلية الأزمة الأمنية في سوريا، عام 2012، الذي قُتل فيه عدد من كبار المسؤولين الأمنيين، بينهم وزير الدفاع، بانفجار وقع في مبنى الأمن القومي وسط دمشق، كذلك تفجير الكلية الحربية بحمص في 5 من تشرين الأول الحالي.

كثير من الأحداث المتعمدة، لم يعد صانعوها بحاجة إلى ترتيبات مسبقة مع صحافتهم، إذ يجري توجيه الرأي العام، وإثارة المشاعر، عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر فيها الأخبار المضللة مثل النار بالهشيم.

تنطبق حالة الارتباك أيضًا على كوارث الطبيعة مثل الزلازل والفيضانات، لكن ضعف الاستثمار فيها دافعه المفاجأة لجميع الأطراف، وعدم القدرة على الاستجابة السريعة، وهذا لا ينفي أن كثيرًا من الحكومات تستثمر في مثل تلك الأحداث، وتظهر كثير من نظريات المؤامرة التي يصعب إثباتها بالوثائق، كما حصل في جائحة “كوفيد- 19″، وما أشيع حولها من استثمار لمصلحة شركات طبية، دون نفي الجائحة ذاتها، وأثرها النفسي والصحي والاقتصادي الكبير في مختلف أنحاء العالم.

بالعودة إلى دور الإعلام الموجه في استغلال الأحداث، يقول الصحفي في مجلة “فورتشن”، والخبير السياسي، بول إتش. ويفر (Paul H. Weaver)، إن هناك حالة “تشابك بين وسائل الإعلام والحكومة في حلقة مفرغة من التلاعب المتبادل وصنع الأساطير والمصلحة الذاتية”.

ويذهب ويفر أبعد من ذلك بالقول، إن “الصحفيين يحتاجون إلى أزمات لتمثيل الأخبار، ويجب أن يبدو المسؤولون الحكوميون يستجيبون للأزمات”.

ويستشهد بيتر فاندرويكن (Peter Vanderwicken) الصحفي السابق في “وول ستريت جورنال”، بما قاله ويفر، في تحليل بعنوان “الأخبار وثقافة الكذب: كيف تعمل الصحافة”، متحدثًا عن دور الصحافة في أمريكا، إذ يرى الأخير أن الأزمات، في كثير من الأحيان، ليست أزمات حقيقية، “ولكنها تلفيقات مشتركة”، متهمًا السلطة والإعلام بالتورط في شبكة تكافلية من الأكاذيب لدرجة أن وسائل الإعلام غير قادرة على إخبار الجمهور بما هو صحيح، بحسب ما جاء في مقال طويل نشرته “هارفارد بزنس ريفيو” (Harvard Business Review) عام 1995.

ما ذُكر سابقًا، يدفع للتذكير بدور الصحافة الأخلاقي، وبمهمات الصحفي، والتدريب والتأهيل الذي يجب أن يتلقاه لمواجهة الأحداث الصادمة، وامتلاك القدرة على المواكبة دون الانسياق إلى نظريات السلطة أو بناء فرضيات مسبقة تخدم سياسات معينة.

وفي تمرين على هذه المهمات، والدور الأخلاقي، يمكن أن أضع هنا تمرينًا للصحفيين وغرف الأخبار حول كيفية التعامل مع حدث صادم، وسأجعل المثال العملي موضوع تفجير الكلية الحربية بحمص، الذي سقط فيه المئات بين قتيل ومصاب.

قبل الحدث بيوم فقط، قال نائب رئيس المركز الروسي للمصالحة، الأدميرال فاديم كوليت، إنه وفقًا للبيانات التي تلقاها المركز من وكالات الاستخبارات السورية، فإن الجماعات “الإرهابية” (الحزب الإسلامي التركستاني وأنصار التوحيد)، تستعد لتنفيذ هجمات على قواعد عسكرية روسية وسورية باستخدام طائرات دون طيار محلية الصنع وأنظمة إطلاق صواريخ متعددة طويلة المدى معدلة، وتناقلت وسائل الإعلام في دمشق، بينها التلفزيون الرسمي وصحيفة “الوطن”، تلك الأخبار.

في اليوم التالي (5 من تشرين الأول)، ونحو الساعة الواحدة ظهرًا، وقع الهجوم، وخلال ساعة من الحدث، كانت وزارة الدفاع والتلفزيون السوري ووكالة الأنباء الرسمية (سانا) تتحدث عن تورط “التنظيمات الإرهابية المسلحة المدعومة من أطراف دولية معروفة” في الهجوم، “عبر مسيّرات تحمل ذخائر متفجرة”، وهو ما يتطابق مع أخبار اليوم السابق.

وكل ما تبع الحدث من تحليلات، استغرق وقتًا طويلًا، ولم يعد هو الأهم، إذ تحقق عامل الإشباع لدى الجمهور، المحلي والدولي، عبر الصور المروعة للقتلى والمصابين، والتركيز على الضحايا المدنيين.

على الفور بدأت وسائل الإعلام الدولية تنقل نفس العبارات، دون التحقق، ودون وجود مصادر أو مراسلين على الأرض يمكنها من خلالهم نفي أو تأكيد المعلومات بشكل مستقل.

واضطرت وسائل الإعلام، حتى المعارضة منها، إلى استخدام توصيفات الخبر الرسمي، ووسائل إعلام النظام للحدث، إذ لا يمكن تجاهل أهميته، كما أن ضغط الوقت مع انتشار أنباء حول الهجوم في وسائل التواصل الاجتماعي يستوجب من وسائل الإعلام نقل الخبر.

ما الذي يمكن للصحافة المسؤولة فعله تحت هذا الضغط؟

● تستوجب المهنية من الصحفي استخدام مفردات تنصل واضحة، لمنع استغلال الإعلام في تسويق الحدث قبل التأكد من التفاصيل بدلائل واضحة، فمفردات مثل “زعم، ادعى، دون التأكد من طرف مستقل” تصبح ضرورية في نقل الحدث.

●      يجب على الصحفي استدعاء الأحداث السابقة، وتقديم ملخص عن طبيعة المنطقة، فالمعلومات الجغرافية حول إمكانية استخدام طائرات مسيّرة من قبل مجموعات متطرفة في مناطق جغرافية بعيدة، تصبح حاسمة لمنع تمرير معلومات من طرف مستفيد على أنها حقائق.

● تظهر براعة الصفي وامتلاكه بنك مصادر في هذه اللحظات، إذ يمكنه البدء بمعلومات بسيطة مصدرها خبير عسكري، مستقل، لشرح فرضية أن يكون التفجير مفتعلًا، أو أن تكون الأطراف المتهمة هي من نفذته بالفعل.

● على الصحفي الإشارة إلى طبيعة الصراع القائم، والخلفيات، والظروف المحيطة به، إذا كان هناك ما يشير إلى حالة توتر بين المتصارعين، أو وجود مصلحة من التصعيد لأطراف بعيدة ذات نفوذ، ويجب الابتعاد عن التكهن، وإنما التركيز على المعلومات الواردة من مصادر موثوقة، أو المنشورة في وسائل الإعلام سواء المستقلة أو التي تنتمي للأطراف المتصارعة.

● على الصحفي أن يوسع تغطياته، ويبحث عن أشخاص قريبين من الحدث بأقصى سرعة، ثم يبدأ بتنويع الأنماط الصحفية، إذ يمكن الانتقال من الخبر إلى التقرير الخبري، ثم إلى التقرير التحليلي بالاعتماد على رأي متخصصين عارفين بمثل هذه القضايا، دون تدخل من الصحفي.

● في جميع الحالات، يبتعد الصحفي عن الانحياز، كما يكون حريصًا على عدم تناقل صور مؤثرة تنتهك كرامة الضحايا، وقد يكون الهدف من توزيعها استفزاز الجمهور أو إثارة الغرائز والنعرات والحقد.

ما سبق لن يحل أزمة استثمار الصحافة، طالما أن هناك إعلامًا موجهًا، وطالما أن هناك سياسات منع وتقييد لحرية الصحفي، وطالما أن هناك أحداثًا تُصنع في غرف مظلمة، وهو ما يزيد من مسؤوليات الصحافة المستقلة.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة