التراث الثقافي في الشمال السوري.. مبادرات لحفظ الذاكرة

تخريب عشوائي لموقع بانقوسا الأثري في الجبل الوسطاني في ريف إدلب الشمالي - 13 كانون الثاني 2021 (عنب بلدي/يوسف غريبي)

camera iconتخريب عشوائي لموقع بانقوسا الأثري في الجبل الوسطاني في ريف إدلب الشمالي - 13 كانون الثاني 2021 (عنب بلدي/يوسف غريبي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي- خاص

الانقسامات الموجودة داخل المكوّنات المجتمعية في سوريا تؤثّر سلبًا في أي جهود نحو بناء دولة مؤسسات في البلد، هذه الانقسامات المصبوغة بالطائفية والمناطقية زادت خلال الـ11 عامًا الماضية، بفعل الأزمات الإنسانية والعمليات العسكرية التي شملت معظم المناطق السورية.

ضمن هذه الحالة من التفكك المجتمعي، يعد التراث الثقافي عنصرًا يجب أخذه بعين الاعتبار، واتخاذه أساسًا في عملية بناء الدولة السورية المنشودة في مراحلها الانتقالية المتعددة، ومن أبرزها إعادة تماسك المجتمع.

وتبرز في مناطق الشمال السوري مبادرات من قبل منظمات مدنية تهتم بدراسة هذا القطاع، الذي يملك عوامل كثيرة بإمكانها توحيد السوريين، لأنه يكوّن ذاكرتهم الجمعية، التي بالإمكان التعويل عليها لإنهاء النزاع المسلح.

جهود سورية إلى العالمية

في 16 من أيار الحالي، حصدت مبادرة مكوّنة من ثلاثة فرق سورية مختصة في مجال حماية التراث والآثار جائزة المنافسة المقدمة من مبادرة “تراثنا العالمي” (Our World Heritage) العالمية، بهدف دعم جهود هذه الفرق وبناء قدرات السوريين للحفاظ على التراث من خلال التوثيق الرقمي ومكافحة التجارة غير المشروعة بالآثار.

الفرق المساهمة في المشروع هي فريق “مبادرة حماية التراث” في منظمة “اليوم التالي”، وفريق من مشروع “آرك” (K/ARC) لحماية وتوثيق التراث الثقافي العالمي، وفريق “آرتيف” (Artive) المختص بحماية الآثار.

وهذه الجائزة التشجيعية تتضمّن دعم الفرق تقنيًا، بالإضافة إلى دعوة ممثلين عن الفرق المشاركة لحضور دورة تدريبية في مجال التصوير الثلاثي الأبعاد.

وثّقت الفرق عددًا من المعالم والمباني المهمة في شمال غربي سوريا، وتحديدًا منطقة “المدن الميتة”، وأنتجت نماذج ثلاثية الأبعاد لهذه المباني الموثّقة.

وتكمن أهمية هذه المبادرة في استخدام تقنيات التوثيق الحديثة في مجال الآثار داخل سوريا، وتدريب المختصين في البلد على استخدامها، ورفع وعي السكان المحليين بأهمية الآثار، بالإضافة إلى أن المخرجات والنماذج المنتجة يمكن استخدامها في مجالات واسعة.

ويتكوّن فريق “مبادرة حماية التراث” في منظمة “اليوم التالي” من عدة مختصين وعاملين سابقين في مجال التراث والآثار في سوريا من مهندسين وخبراء آثار، يعملون في مختلف مجالات التنقيب والترميم وتوثيق الآثار.

انتهاكات تطال “المدن الميتة”

أنجز فريق “مبادرة حماية التراث” عدة مشاريع خلال الأعوام الماضية، ويتركّز نشاطه في مناطق شمال غربي سوريا.

خلال نشاطه، رصد أعضاء الفريق ووثّقوا الأعمال التخريبية التي طالت الآثار السورية، خصوصًا في الشمال السوري، حيث طالت آثار إدلب خلال الأعوام الماضية عدة انتهاكات، إذ تعرضت للقصف بمختلف أنواع الأسلحة على يد قوات النظام السوري والطيران الروسي، وفق ما قاله منسق “مبادرة حماية التراث”، خالد حياتله، في حديث إلى عنب بلدي.

وأوضح حياتله أن أكثر من 400 موقع أثري مسجل في المنطقة بقرارات حكومية سابقة، كما تضم 40 قرية أثرية مسجلة على لائحة التراث العالمي، وتعود هذه المواقع الأثرية إلى حقب زمنية مختلفة من عصور ما قبل التاريخ مرورًا بفترة الشرق القديم والفترة الكلاسيكية وحتى الفترة الإسلامية المتأخرة.

وخلال فترة النزاع المسلح، تعرضت المناطق الأثرية ومواقع الإرث الإنساني لانتهاكات عديدة، يتمثّل أولها بقصف الطيران الحربي والبراميل المتفجرة الذي لم ينجُ منه حتى المتاحف، بحسب حياتله، أبرزها متحف “معرة النعمان” ومتحف “إدلب” ومواقع “المدن الميتة”، ويضاف إلى ذلك الزحف العمراني الحديث على المواقع الأثرية.

ونوّه حياتله إلى أن أي زيادة مرتقبة في الفترة المقبلة بالنسبة إلى الكثافة السكانية ضمن مناطق الشمال السوري، قد تؤدي إلى لجوء العديد من السكان إلى المواقع الأثرية، بحيث يتخذونها مكانًا للسكن في ظل ارتفاع إيجارات المنازل، أو من المتوقع أن يشرعوا ببناء مساكن جديدة باستخدام حجارتها.

و”المدن الميتة” (أو المدن المنسية) هي مدن وقرى أثرية سورية تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب، وهي المواقع والقرى الممتدة في جبال الكتلة الكلسية ووديانها وشعابها في شمال غربي سوريا.

وتمتد هذه المنطقة من قورش (النبي هوري) شمالًا حتى أفاميا جنوبًا، ومن حلب شرقًا حتى منطقة جبل الزاوية ووادي العاصي غربًا، وهي من أكثر تجمعات المناطق الأثرية في العالم، وقد بلغ عددها 800 موقع وقرية أثرية، منها ما هو مسكون حاليًا ومنها غير ذلك.

لمواجهة خطر الزحف العمراني نحو المواقع الأثرية، تسعى الجهات المختصة التابعة لحكومة “الإنقاذ” العاملة في المنطقة لإيجاد الحلول المناسبة لساكني تلك المواقع في الأماكن الأثرية، وفق حديث سابق لعنب بلدي مع مدير دائرة العلاقات العامة في وزارة التنمية والشؤون الإنسانية في “الإنقاذ”، محمد عبد السلام غزال.

خطر زوال العادات المتوارثة

تصير تلك اللقى والمواد الأثرية أو العادات المتوارثة مهمة لدراسة تاريخ منطقة معيّنة، ويدل الحفاظ عليها على اعتراف ضمني بأهمية الماضي، والدلالات التي تسرد القصص من فترات زمنية معيّنة، كي تستطيع الأجيال معرفة الطريقة السليمة للتواصل مع الماضي.

لكن بفعل العمليات العسكرية وغياب الاستقرار الأمني وحركات النزوح في سوريا، ترك ملايين الناس مساكنهم في مناطقهم الأصلية، حيث كان معظمهم يقيم إما في بيوت مستملكة خاصة لهم، وإما في بيت الأسرة الكبير، ونتيجة لفقدان تلك البيوت والتفكك العائلي بسبب النزوح، لم يعد لمجموعة من العادات الاجتماعية المتوارثة وجود لدى العديد من الأسر.

يترتّب على هذه الحالة عدم معرفة الأطفال بعدة ممارسات تدخل ضمن التراث الثقافي اللامادي كان من الممكن أن تقوي الروابط بين أفراد العائلة في منطقة معيّنة، وتعزز انتماءهم لمناطقهم الأصلية، وهويتهم الجمعية، الأمر الذي ينعكس على أدائهم في كل مناحي الحياة، وفق حياتله الذي يدير العديد من المشاريع الأثرية في سوريا منذ 2011.

ومن تلك الممارسات التي ذكرها حياتله، التطريز اليدوي، وهو فن التزيين باستخدام الغرز على القماش أو مواد شبيهة به باستخدام إبرة الخياطة والخيط.

وصدّقت سوريا عام 2017 على اتفاقية “صون التراث الثقافي غير المادي“، وأُسّس في وزارة الثقافة بالتعاون مع “الأمانة السورية للتنمية” المشروع الثقافي الذي يدير أمور هذا التراث، من خلال “وحدة تطوير ودعم التراث الثقافي الوطني“.

وحصرت الوحدة 100 عنصر من التراث الثقافي غير المادي كمخزون حي، ويتبع هذا المشروع لـ”الأمانة السورية للتنمية” التي تشرف عليها أسماء الأسد زوجة رئيس النظام السوري، بشار الأسد.

إلا أن تلك الالتزامات الدولية لم تنعكس على أرض الواقع، إذ لم يلقَ التراث الثقافي غير المادي اهتمامًا حكوميًا بارزًا من قبل النظام السوري، بحسب تقرير لـ”إسكوا“.



English version of the article


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة